النيل الأزرق.. إنها فوضى – سودان تريبيون
النذير إبراهيم العاقب
عصر الخميس الأول من سبتمبر الجاري تجددتَ الإشتباكات بمدينة الرصيرص بين قبيلتي الهمج والهوسا وراح ضحيتها خمسة أشخاص بقنيص، وسبعة أشخاص آخرين بمجمع طيبة القرآني بمدينة التعليمة بالرصيرص، وعشرات الجرحى تم نقلهم إلى مستشفى الدمازين، مع أنباء بذبح وحرق الكثيرين داخل منازلهم، فضلاً عن تشريد المئات من الهوسا الذين لجأوا إلى الدمازين. وتعود أسباب تجدد الأحداث حسب مصدر موثوق، عقب شروع لجنة المصالحات في تنوير سكان حي قنيص شرق من الهوسا بوثيقة المصالحات التي تمت مؤخراً، فضلاً عن استصحابها عدداً من النازحين من الهوسا والشروع في إعادتهم إلى ذات الحي، الأمر الذي اعتبره سكان قنيص استفزازا لهم، ومن ثم قاموا بحرق مئات من منازل الهوسا بالحي، بجانب نهب كل الممتلكات، وتوجه المعتدين بعدها إلى مجمع طيبة لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة التعلية بالرصيرص بغرض طرد قاطنيها، الذي يجزم الكثيرين بأن قادته هم مشعلوا الفتنة القبلية في الإقليم، ما أفضى إلى تدخل السلطات الأمنية ولجنة الأمن ومن ثم نشر أعداد كبيرة من الجنود لمنع المعتدين من تخريب المجمع، وعزل وتأمين الهوسا، إلى جانب إغلاق شبه تام لكبري خزان الرصيرص، مع انتشار كثيف للأجهزة الأمنية في مداخل مدينة الروصيرص.
وأكدت ذات المصادر ضبط سيارة بوكس محملة بالأسلحة، داخل منزل أحد قيادات الهوسا بحي قنيص شرق، ومن ثم إتضح أنها تتبع للحركة الشعبية.
وشهدت مدينة أمدرفا صباح الجمعة أحداثا عاصفة قتل فيها اربعة عشر شخصاً، إضافة إلى إصابة خمسة وعشرين آخرين تم نقلهم إلى مستشفى الدمازين لتلقي العلاج والإسعافات اللازمة، فضلاً عن حرق مئات المنازل مملوكة للسكان الأصليين بالمنطقة من قبل الهوسا، الأمر الذي إستدعى إرسال تعزيزات أمنية مكثفة لحسم الفوضى التي عمت كل محافظة ود الماحي شرق الرصيرص، والمتاخمة للحدود مع إثيوبيا.
ولعل ما يحدث من اقتتال وتجدد لأعمال العنف والتخريب، ما هو إلا فوضى عارمة تضرب بأطنابها في النيل الأزرق، وتؤكد بجلاء غياب الدولة، سواء الحكومة المركزية أو حكومة الإقليم نفسها، وفشلها في إدارة الأزمات والكوارث وكبت الفتنة القبلية في مهدها، بدليل تفاقم هذه الأزمات وبلوغها مرحلة يصعب معها السيطرة عليها مالم تستشعر الدولة ممثلة في مجلس السيادة المسئولية كاملة لحسم هذه الفوضى، والتوجه بكلياتها لوضع حد للاقتتال المتجدد والمتجذر في النيل الأزرق، إثر إشتعال الفتنة القبلية واستشرائها في الإقليم بشكل يهدد الأمن القومي والمحلي، إن لم يتم تدارك الأمر بأعجل ما يكون.
ولعل تغاضي المسئولين في مجلس السيادة، بدءً من البرهان وحميدتي ومالك عقار بالتحديد، يثير الكثير من التساؤلات والتي تحتاج لإجابات شافية من قبلهم بخصوص تجاهلهم الكامل لهذه القضية بالغة الأهمية والخطورة، في حين أنهم، وخاصة البرهان وحميدتي، نجدهم في حالة استنفار شامل حالة إطلاق ولو طلقة نارية واحدة بأقصى أقاصي إقليم دارفور، وهل هذا يعني أن هناك تفاضل في مسألة إدارة الأزمات من قبلهم؟!!.. وهل أهمية إقليم النيل الأزرق السياسية والاستراتيجية، تقل عن أهمية إقليم دارفور؟!.. وما الذي يمنع أعضاء مجلس السيادة وبلا استثناء، وخاصة حميدتي ومالك عقار، من التوجه المباشر إلى الدمازين، والإقامة هناك حتى تنجلي تلك الأحداث، ووضع حلول ناجعة لهذه الفوضى الناشئة في النيل الأزرق وتهدد أمن وإستقرار السودان ككل؟!.
وليس خافيا البتة على أحد أن السبب الرئيسي في التجدد المستمر للاقتتال الداخلي في إقليم النيل الأزرق مؤخراً، مرده كما أسلفنا في عدة مقالات ولقاءات في القنوات الفضائية والاسافير عامة، مرده إلى إستشراء الفتنة الطائفية والقبلية وبشكل مرعب في النيل الأزرق، وليس من خطوات جادة من قبل حكومتي المركز والإقليم حتى الآن لحسمها وكبتها والقضاء عليها بأعجل ما يكون، وذلك بالقبض على كل مشعليها والداعمين والداعين لها، خاصة وأن الإقليم الآن يحترق ويشتعل بسبب تلك الفتن والخلافات ورفض الرأي الآخر، ومطلقوها ومؤججيها طلقاء وأحرار، يسرحون ويمرحون على إمتداد مساحات الإقليم، ومازالوا يحرضون على المزيد من إزهاق الأرواح البريئة من كل إثنيات الإقليم بلا استثناء، وقتلهم بلا رحمة، وتشريدهم من مساكنهم، إن لم يتم حرقها بالكامل وتشليعها ونهب كل ما بداخلها.
ولعلنا حين البحث في جذور هذه الكارثة، نجد أنها إنطلقت منذ أكثر من عامين، إبتداءا من ضرب للنحاس، وعقد لموتمرات سرية، وبث مباشر وغير مباشر لخطاب العنصرية والكراهية، سواءا عبر المخاطبات الرسمية لبعض من يعتقدون أنهم قيادات سياسية ومجتمعية وشبابية كذلك، وعبر الأسافير، غير مراعين ولا واعين إلى أن ذلك من شأنه القضاء الكامل على الأمن والاستقرار والسلام وتفتيت لحمة النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي في النيل الأزرق، والذي كان بمثابة سودان مصغر منذ عهد السلطنة الزرقاء وحتى قبيل اندلاع أحداث العنف التى شهدها إقليم النيل الأزرق قبل شهرين من الآن.
من كل ما سبق، لا اعفي سكان الإقليم أنفسهم من مسئولية ما حدث، والذين يتمثل موقفهم وضلوعهم في إندلاع تلك الأحداث من منطلق فحوى هذه الآية الكريمة والتي يقول تعالى وبشأنها في محكم تنزيله.. (وضَرَبَ الله مثلاً قرية كانت آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَ رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).. النحل 112، وكذلك قوله.. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).. الروم 41.
ولعل تفسيرها لا يحتاج لكثير شرح، لاسيما وأنه قد ظهر الفساد القيم والأخلاقي وكثرة الأمراض والأوبئة، وغيره في البر والبحر بالفعل في النيل الأزرق، وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر، وبعدهم عن الطريق المستقيم، ليصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم التي يعملونها في الدنيا، حتى يتوبوا إلى الله تعالى، ويرجعوا عن المعاصي، فتصلح أحوالهم، وتستقيم أمورهم.
ونعود ونقول أنه، وعلى الحكومة المركزية والمحلية وكل القيادات السياسية والتنفيذية والأمنية والقضائية، ولجنة أمن إقليم النيل الأزرق، التحرك العاجل لكبت هذه الفتنة وإيقاف الفوضى المتجزرة بسبب غياب هيبة الدولة وفرض قوانينها الصارمة على كل من تسول له نفسه تهديد الأمن القومي والمحلي في النيل الأزرق، وفرض أقصى العقوبات على مشعلي الفتن القبلية وإشعال نيران العنصرية والكراهية بين كل مكونات الإقليم السكانية، مع الأهمية القصوى بالشروع الفوري في جمع السلاح الناري والأبيض من كل من لا ينتمي للأجهزة الأمنية المعروفة، وإصدار قرار حازم وحاسم من قبل اللجنة الأمنية يقضي بعقوبة كل من لا ينتمي للأجهزة الأمنية المعروفة ويضبط بحوزته سلاح أبيض أو ناري أو يباشر في بيعه بالأسواق، بالسجن ما لا يقل عن عام، والغرامة المالية بمبالغ كبيرة لعل هذه الخطوة تسهم في وضع حد لانتشار السلاح بكل أنواعه ومسمياته في أيدي المواطنين.
ومن ثم وضع وثيقة تعايش سلمي فاعلة تعمل بجد على أهمية ترسيخ وتعزيز قيم التسامُح والتلاحُم ونشر ثقافة المحبة والسلام، والعمل على نبذ الخطاب الباعث للبغضاء والإقصاء والكراهية والمُحرِّض للفتن والقلاقل، والعمل على دحر الفكر الإقصائي من أجل تعميق ثقافة الإخوة الإنسانية وترشيد الخطاب الإعلامي وتوجيهه لإرساء دعائم الأمن والسلم الاجتماعيين في النيل الأزرق، وهذا لن يتم دونما محاولة جادة من قبل الحكومتين المركزية والمحلية، لوضع إستراتيجية شاملة وموحدة وفاعلة للتصدي للأفكار الهدَّامة للمجتمع، والتي ما هي إلا أداة تتحكم بها أفراد ومجموعات تسعى إلى تغذية النعرات العُنصرية من خلال استغلال المنابر التي تدعو لترسيخ مبادئ التفرقة والجهوية في النيل الأزرق.
المصدر