القوات المسلحة السودانية… من الخطأ القاتل تصويرها ملكية خاصة لجماعة الإخوان المسلمين
علي ترايو
إن استمراء منهج تكرار الخطأ وترديد الأسلوب الخاطئ لا يقود إلا إلى المزيد من تصعيد الأزمة وتفخيم المأزق. هذا الأسلوب هو الذي تتبناه القوى السياسية السودانية خلال عقود من الزمان دون توقف، حيث تردد مقولة إن الجيش السوداني قد تحول إلى مجرد ملكية خاصة للإخوان المسلمين (الكيزان).
هذا الترديد الخاطئ قد اكتشف الكيزان سره منذ أمد بعيد، وظلوا يستثمرونه بذكاء ضد خصومهم من بقية السياسيين السودانيين، ويستخدمونه بطريقة توسّع الهوة السحيقة بين مؤسسة الجيش السوداني وبين بقية القوى السياسية، بينما تزيد التقارب بين المنظومة الإسلاموية والجيش في كل محطة سياسية فاصلة، خاصة منذ سطوهم على السلطة عام 1989.
لذلك، يُلاحظ أنه كلما جاء السياسيون بخطاب “نقدي” للجيش، هرول الإسلاميون وغلفوه بنكهة الاستخفاف والاستهتار ضد الجيش، وصوروه كخطاب كراهية ضده، مما يتيح لهم مساحة مغازلة الجيش، باعتبار أنهم الأصدقاء المقربون الذين يقدمون له النصح والنصرة في ضجيج إعلامي صارخ.
في خضم هذه المباراة الغافلة (بين تصوير خطاب القوى السياسية على اعتباره كراهية للجيش وبين الادعاء الكاذب للكيزان بصداقة الجيش)، والتي ظلت القوى السياسية تمارسها (بوعي أو دون إدراك)، تتكثف دخان الكراهية ضدهم، بينما يزداد عربون الصداقة المزيفة لصالح “الكيزان”. وقد أدت نتيجة ذلك إلى تشويه هيكلي لمفاهيم “إصلاح المؤسسات الأمنية”، التي تبنتها القوى الحريصة على إحداث تغيير إيجابي شامل لمؤسسات الدولة، بما فيها القطاع الأمني.
في المبتدأ، صحيح أن الهيكل السياسي السوداني مصاب بالخلل والشلل منذ الميلاد، وأن المؤسسة الأمنية السودانية قد حظيت بنصيب كبير من ذلك الاختلال الهيكلي، حيث تمثل بصورة أوضح في تركيبة هرمها القيادي، الذي ظل في غير صالح الهامش السوداني. وفي سياق معمعان النضال من أجل أطروحات الإصلاح، تطور أدب سياسي شامل عن مفاهيم ومبادئ الإصلاح، وصل في أعلى قِمَته إلى مفهوم الترتيبات الأمنية، الذي تضمنته اتفاقية السلام الشامل عام 2005، ومر بكل المحطات الأخرى إلى قيام حرب 15 أبريل 2023.
بالرغم من كل ذلك، فقد فشلت القوى السياسية في إرسال خطاب سياسي ناضج ومطمئن عن “الترتيبات الأمنية”، لتفاعل إيجابي يتيح الحوار الناضج مع القوى الأمنية. لكنها (هذه القوى) أمسكت (كما يمسك الأعمى العصا) بخطاب خام يفتقر إلى الكياسة والإبداع، يتلخص في أن الجيش قد أصبح مجرد أداة طائعة في يد الكيزان، وأن الجيش قد أصبح من سلالة الكيزان، الذين خرجوا من صلبهم، وأصبح عندهم أن كل من يخرج من صلب الكيزان فهو “كوز”، وأن مؤسسة الجيش قد أصبحت منتجعًا لا تلد إلا فاجرًا كفارًا.
هكذا، تم إفساح مجال وفرصة نادرة “للكيزان” ليطوعوا هذا الخطاب المضاد كما يشاؤون، ويحيلوه إلى طين صلصال يبيعونه للجيش ويستخدمونه ضد القوى السياسية الأخرى.
حقائق لا بد من التنبيه إليها والوقوف عندها:
في خضم تكرار هذه العبارة المعلبة (“الجيش جيش الكيزان”)، نسيت هذه القوى السياسية جملة من الحقائق البديهية:
- الحقيقة الأولى:
هذا الجيش هو ذاته المؤسسة التي أنتجت الجنرال “ياسر العطا”، الذي يقوده حتى اليوم، وهم يسمونه بـ”ياسر كاسات”، وهو ابن أخ (لزم) لأشهر ضابط في الجيش السوداني، الرائد هاشم العطا، الذي قاد الانقلاب الشيوعي المشهور عام 1971. كما أنه نفس الجيش الذي يقوده الجنرال (الفريق الركن) منور عثمان نقد، الذي هو نفسه ابن عم (لزم) لزعيم الحزب الشيوعي الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد.
هذه هي مؤسسة الجيش (المسماة بجيش الكيزان)، التي لم تمس أيًّا من هؤلاء الجنرالات المذكورين وغيرهم بسوء باسم “الكوزنة”! - الحقيقة الثانية:
زاد صعود هذا الانطباع السلبي على نحو دراماتيكي عندما قام تنظيم “تقدم” (قحت سابقًا) بمساواة الجيش بميليشيا قوات الدعم السريع، في سياق الطبخة السياسية الفطيرة المسماة بالاتفاق الإطاري (2022)، وهو الأمر الذي استغله الكيزان، ووظفوه بحصافة لنسج دعاية مكثفة لشيطنة “قحت”، وكذلك في تحريض الجيش ضدها، على اعتبار أن “الإطاري” خطة ماكرة تهدف إلى تقليم أظافر الجيش وقلع أسنانه وتحويله إلى مجرد نمر من ورق.
كان ذلك مناخًا استغله “الكيزان” ضد “قحت” في تأليب الجيش، وسط صمت مريب من “قحت”.
بالطبع، كان المتوقع أن مثل هذه الدعاية الكيزانية ستسري على جسد مؤسسة الجيش، وقد سرت كما تسري النار في الهشيم. وكان ذلك إخفاقًا من القوى السياسية، وليس حصافةً من “الكيزان”! - الحقيقة الثالثة:
مع اشتعال حرب 15 أبريل 2023، وظهور أكثر من دولة أجنبية تدعم وتسلّح ميليشيا قوات الدعم السريع بأحدث الأسلحة والمرتزقة الأجانب، ومع بروز واصطفاف القوى السياسية للوقوف إلى جانب الأطراف المتحاربة، ظهرت القوى السياسية (خاصة مجموعات تنظيم “تقدم”) عبر خطابها، الذي اتصف بالميوعة والتردد في إدانة جرائم وانتهاكات الدعم السريع.
هذا الموقف زاد من يقين الجيش (الذي كان في أمس الحاجة إلى الدعم الشعبي في قتاله ضد الدعم السريع)، بأن القوى السياسية (على خلاف الكيزان) تضمر له الشر المستطير. - الحقيقة الرابعة:
لم تلحظ القوى السياسية موقف الأطراف الدولية المؤثرة (بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والسعودية)، التي اتخذت سياسة “خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف” في تعاطيها مع الحرب السودانية. هذا الموقف فُسِّر على أنه يعني عدم السماح بانهيار الجيش (لأن ذلك يعني انهيار الدولة).
تغافل القوى السياسية عن مضمون هذا الموقف الدولي جاء بمثابة “هبالة سياسية”! - الحقيقة الخامسة:
يقال إن “العبرة بالخواتيم”، وعليه، فإن “خطأ” أو “صحة” موقف القوى السياسية يُقاس أيضًا بمعيار موقف الجماهير.
ماذا يعني للقوى السياسية خروج الآلاف من المواطنين لاستقبال الجنرال البرهان أو الجنرال الكباشي عند زيارتهما المناطق التي يحررها الجيش، بينما تتحول هذه الجماهير إلى ما يشبه حالة “حُمر مستنفرة فرت من قسورة” في مناطق سيطرة الدعم السريع؟!
ختامًا: ما العمل؟
إذا كان من الخطأ القاتل في استراتيجية بناء الدولة (الديمقراطية) هو احتكار فصيل سياسي للقوة الأمنية، وبما أن من القواعد الأساسية في أبجديات بناء الدولة وجود جهاز يحتكر القوة “الخشنة” (أي الأجهزة الأمنية وعلى رأسها الجيش)، فإن المنطق السليم يقتضي تحييد تلك الأجهزة عبر خطاب موضوعي مطمئن، وليس معاداتها عبر أسلوب التخويف وتركها فريسة للخصم، ثم البكاء على اللبن المسكوب.
للأسف، هذا هو ديدن القوى السياسية السودانية اليوم، وهو حال يحتاج إلى تقويم عبر مراجعة دقيقة للذات.
المصدر