السياسة السودانية

المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية

منذ ظهور الإنسان علي وجه الأرض والنزاعات والحروب ترافقه، بكل وحشيتها وآلامها وقسوتها ، ومع مرور الزمان وتطور البشرية تطورت الأسلحة وكثرت أنواعها وزادت قوة دمارها.

في الماضي كانت الحروب تخضع لأعراف ونظم معينة توافقت عليها المجتمعات القديمة ، لكن مع تطور النزاعات وكثرتها وكثرة وتطور الاسلحة وانواعها وقوتها في الدمار والخراب، لم تعد الأعراف كافية لكبح جماحها، فاتجه العالم نحو القوانين الدولية التي تحكم وتضبط النزاعات ، ورغم ذلك تعرضت الإنسانية لحربين عالميتين نتج عنهما انتهاكات جسيمة، من قتل وتعذيب وتخريب و معاملة لا إنسانية، واحتجاز رهائن وقصف مدنيين واغتصاب ، مما جعل العالم يتجة نحو وضع قانون دولي يجرم هذة الأفعال ويوضح مَن المسؤول عنها ويقرر المسؤولية الجنائية في حق منتهكي القانون الدولي ويضع عقوبات لهم.

أسفرت الجهود الكثيرة لدول العالم منذ القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين علي وضع معاهدة فرساي بباريس لعام 1919م ، لترتيب المسؤولية الجنائية علي الإمبراطور الألماني وكبار قادته عن جرائمهم في الحرب العالمية الأولى، ودفع تعويضات هائلة عن خسائر الحلفاء في الحرب، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وما نجم عنها أيضاً من خراب ودمار يحتم تحديد مَن المسؤول عنها.

لذلك جاءت المسؤولية الجنائية في القانون الدولي لتضع النقاط فوق الحروف وتحدد من الجاني الذي يستحق العقاب والمحاكمة.
والتي عرفها القانون الدولي بأنها “تحمل الشخص تبعة عمله المُجَرم قانوناً، ولارتكابه إحدى الجرائم الدولية التي تهدد السلم والأمن الدوليين ، وبذلك فهو يستحق العقاب باسم الجماعة الدولية “.

وفقا للمادة الثامنة فقرة 2 من نظام روما الأساسي، هذه المادة أوضحت خمسة عشرة عملا يشكل كل منها جريمة حرب متى ما ارتكبت في إطار نزاع مسلح غير ذي طابع دولي.

جاءت المسؤولية الجنائية الدولية نتيجة ممارسة فعلية علي أرض الواقع ،حيث عرف العالم اربع محاكم دولية جنائية مؤقتة في القرن العشرين هما محكمة نورنبيرغ ومحكمة طوكيو ،ثم محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا ، كان لهم الأثر الكبير في ايضاح مفهوم الجريمة الدولية و الإعتراف بفكرة المسؤولية الجنائية الدولية سواء للدولة أو الأفراد دون الاعتداد بصفتهم الرسمية أو بحصانة رسمية بمعني أنه لا يعتد بأي منصب مهما كان ، ولا يعد تنفيذ الأوامر من السلطات ظرفاً يعتد به أمام المحكمة أو يخفف العقاب.

من اخطر الجرائم الدولية مجموعة الجرائم ضد الإنسانية والتي ظهرت لأول مرة في كتاب نشر في عام 1890م حيث استخدم جورج واشنطن مصطلح جرائم ضد الإنسانية ليصف ممارسات ليوبولد الثاني في إدارة بلجيكا لدولة الكونغو ، وظهر المصطلح مرة أخرى في ديباجة معاهدة لاهاي الرابعة للعام 1907م ولوائحها التي كانت تهتم بتدوين القانون الدولي الانساني.

جريمة الإبادة الجماعية
ويعرف القانون الدولي جريمة الإبادة الجماعية بأنها جريمة قتل جماعي ممنهج موجة ضد المدنيين العزل ، وأن يكون الفعل الإجرامي في سياق نزاع مسلح يكمن من ورائه دوافع عرقية أو إثنية كالذي فعلته المليشيا بقبيلة المساليت بالجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور من مذابح وقتل ممنهج ودفن للأحياء ، وقد اتهمت هيومن رايتس ووتش المليشيا بارتكاب جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية بين أبريل ويونيو 2023 م ثم في نوفمبر من ذات العام مما أدى لفرار نحو نصف مليون شخص وموت مئات الآلاف من الأشخاص ، مما دعا المحكمة الجنائية الدولية في يوليو 2023م لإجراء تحقيق حول جرائم حرب تستهدف المدنيين في دارفور على خلفية انتمائهم العرقي، و نفس المجازر نفذت في ود النورة وسط ولاية الجزيرة لسكان مدنيين وقتلت المليشيا منهم مائة قتيل والآلاف من المصابين وكذلك استشهاد 216 مدنيا في مذبحة أخرى للمليشيا بمدينة الهلالية بولاية الجزيرة و التي كانت تحاصرها لأكثر من اسبوعين وقتلت مدنيين نتيجة للتسمم الغذائي ومنع الرعاية الطبية لمئات المدنيين من رجال ونساء واطفال.

بلغ عدد الشهداء في ولاية الجزيرة من المدنيين 1237 شهيداً خلال 21 يوماً في مدن تمبول والهلالية وقرى السريحة والعقدة ومناطق أخرى مجاورة لها، بالإضافة لتهجير عدد كبير من القرى بشرق ولاية الجزيرة ، مما يستوجب محاسبة المليشيا وتصنيفها جماعة ارهابية !!

جريمة الفصل أو التمييز العنصري
ترتكب في سياق نظام ممنهج قوامه اضطهاد ضد جماعة أو جماعات عرقية والعمل على إيذائهم أو قتلهم أو تعذيبهم أو حرمانهم من الحقوق المدنية والسياسية أو إبادتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

فالفصل العنصري كمصطلح قانوني وكمفهوم تاريخي ظهر في تصنيف الأمم المتحدة لجريمة الفصل العنصري بأنها جريمة ضد الإنسانية، ولخطورة هذه الجريمة أقرت الأمم المتحدة في ميثاقها مبدأ الكرامة والمساواة بين جميع البشر دون تمييز بسبب عرق أو جنس أو دين أو لغة وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المقررة، والبشر جميعاً متساوون أمام القانون ولهم حق متساو في الحماية من أي تمييز ومن أي تحريض علي التمييز.

من أقوى اتفاقيات الأمم المتحدة اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر 1965م بموجب القرار 2106 الذي أسس لهذة الاتفاقية وهي من أقدم اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

ماقامت به المليشيا الإرهابية بقصف متعمد لمعسكر زمزم للنازحين والهجوم المستمر علي مناطق بيريديك وانكا وأوروي واستهداف سكانها المدنيين علي أساس عرقي وإثني ، من اجل القضاء علي الإثنيات الأفريقية ، إلا تعد هذة جريمة فصل عنصري واضحة المعالم تستوجب محاسبة المليشيا الإرهابية !!

جريمة التعذيب ضد المدنيين
نجد أن التعذيب هو أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشاراُ ، ولأنه يتجه مباشرة لجوهر كرامة الإنسان، حرصت الأمم المتحدة عند وضع معايير لحقوق الإنسان علي إلغاء العقوبات الجسدية والنفسية كان ذلك في العام 1949م ، و علي ذات المعنى نصت المادة 7 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية للعام 1966م، بالإضافة إلى إصدار الأمم المتحدة إعلان طهران في العام 1968م الذي أكدت عبره أن جوهر حقوق الإنسان أن يتمتع كل إنسان بأقصى درجة من الحرية والكرامة.

ثم جاءت بعد فترة اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللا إنسانية والعقوبات القاسية أو المهينة بتاريخ 10ديسمبر 1984م ودخلت حيز التنفيذ في 26 يونيو 1987م ،ثم دعمت الأمم المتحدة هذة الاتفاقية بالبرتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب الصادر بتاريخ 18ديسمبر 2002م، بناء علي ذلك نجد أن القانون منع التعذيب في أوقات السلم وبالتالي من باب أولى منعه في أثناء الحرب لاسيما إذا كان موجهاً ضد مدنيين لا يشاركون في أي عمليات حربية، وقد نصت علي ذلك مادة 49 من اتفاقيات جنيف (الاتفاقية الأولى) على اعتبار التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو التي تحدث آلاماً شديدة أو خطيرة تضر بالسلامة البدنية أو الصحة العامة هو انتهاك يشكل جريمة يعاقب عليها القانون الدولي ، ايضا البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف الاربع ينص في مادة 4 علي ضرورة توفير حماية للأفراد ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية من أية أعمال عنف أو تعذيب أو أي أفعال من شأنها ان تمس السلامة البدنية والعقلية.

المسؤولية الجنائية هنا تقع علي المليشيا الإرهابية التي مارست أشكالاً وأنواعاً من جرائم التعذيب والمعاملة اللاإنسانية على المدنيين رجالاً ونساءً وكبار سن وأطفالاً في كل مدن وقرى السودان، وهي جرائم موثقة من قبل المليشيا نفسها لا تحتاج لإثبات.

جريمة الاغتصاب
يقصد بها استعمال الاغتصاب كوسيلة لتحقيق سياسات معينة كإخضاع الطرف الآخر وإذلاله وإيذائه إيذاءً بالغاً ، أو لإحداث تغيير عرقي معين ، لذلك يُعامل الاغتصاب كفعل يجرمه القانون الدولي لاسيما أثناء النزاع المسلح للضغط النفسي والهزيمة المعنوية علي السكان المدنيين.

ويعد الاغتصاب جريمة ضد الإنسانية في القانون الدولي اذا ارتكب في أوقات السلم ، كما يعد جريمة حرب إذا ارتكب ضمن نزاع مسلح سواء كان دولياً أو غير دولي.

وفد نُص علي ذلك في اتفاقيات جنيف الاربع للعام 1949م والبرتوكولين الإضافيين للعام 1977م ، بغرض حماية النساء والفتيات من جريمة الاغتصاب.

في عام 1993م أقرت المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة بالوضع القانوني لجريمة الاغتصاب باعتبارها جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب ، وللمحكمة سلطة العقاب على مَن يرتكب هذا الجرم أثناء النزاع.

جريمة الاختفاء القسري
هي جريمة تستهدف إبعاد مجموعة من الأشخاص واحتجازهم بعيداً عن أهلهم دون أي معلومة تفيد بمكان احتجازهم أو أسباب اعتقالهم أو معرفة بأي جريمة يُحتجزون وكم مدة الاعتقال ودون أسباب قانونية.

ويُستخدم الاختفاءالقسري كاستراتيحية لنشر الرعب والخوف وعدم الأمان بين المدنيين، ولهذا يعد الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية إذا تم على نطاق واسع وبطريقة ممنهجة، وللاختفاء القسري اتفاقية دولية معتمدة باسم الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 ديسمبر 2010م .

وقد نفذت مليشيا الدعم السريع الإرهابية حجز الآلاف من السودانيين في سجونها منذ بداية الحرب في ظل أوضاع إنسانية سيئة، حيث لا طعام ولا علاج للمرضى ، ولا تعرف أسرهم عنهم شيئا
وتتوزع سجونها العشوائية، في أماكن سيطرتها وتختطف الرجال والنساء والأطفال من منازلهم أو من الشوارع أو نقاط الارتكاز ، بما يشكل انتهاكا صارخاً لكافة المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.

لكن المليشيا الإرهابية لا تعرف قانون ولا عرف ولا دين ولا مبادئ ولا أخلاق ولا شيء ، هم تتار هذا العصر .

كل ما سبق من جرائم دولية تقع المسؤولية الجنائية الدولية فيها عليهم ، فمتى يتحرك المجتمع الدولي لاتخاذ موقف حاسم تجاة هؤلاء المجرمين ، متى يستيقظ الضمير الإنساني للعالم ليحاسب المليشيا المجرمة عن جرائمها.

د. إيناس محمد أحمد


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى