عشت “الجحيم” لإنجاز وثائقي “إخفاء صدام حسين” والفيلم تطلب سنوات من العمل بسرية
“إخفاء شخص ليس بالأمر الهين”، فمن يقوم بذلك يقف “على كرسي معصوب العينين فيما يحيط حبل برقبته وهو معلق بشجرة. والذي يقتله ليس الإعدام وإنما أنه يترك لوحده. يقتل نفسه…لماذا؟ ينتظر أحد يأتي لينقذه… وإن لم يأت أي شخص ماذا سيفعل…235 يوما بقيت على هذا الحال أثناء ضيافتي للرئيس صدام حسين“.
كانت تلك هي العبارات التي اختارها الفلاح العراقي البسيط علاء النامق، ليستهل بها سرد قصته في إخفاء الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 2003 في وثائقي للمخرج العراقي الكردي النرويجي مصطفى هلكوت، فيما كان 150 ألف جندي أمريكي يطاردونه.
وولد هلكوت في 1985 في سليمانية بكردستان العراق، وفر إلى جانب أسرته من بطش صدام حسين إلى النرويج عندما كان عمره ثلاث سنوات، إثر شن الرئيس الراحل هجوما بالأسلحة الكيميائية على الأكراد، قتل فيه الآلاف من الأشخاص، والذي اعتبر إبادة جماعية بحق الشعب الكردي في البلاد من قبل المحكمة الجنائية العراقية العليا.
اقرأ أيضاتذكرة عودة إلى تكريت بعد عشرين عاما على سقوط مسقط رأس صدام حسين
ويأتى هذا الوثائقي ليقدم مجموعة من الأجوبة بشأن فترة اختباء صدام حسين بعيدا عن أعين الجنود الأمريكيين طيلة 235 يوما، رغم محاولاتهم الحثيثة في العثور عليه، يرويها بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة مرافقه خلال هذه المدة علاء النامق، الذي كرس وقته وعرض حياته للخطر، ليؤمن “الرئيس”.
وكانت مشاركة النامق في هذا العمل هي أول ظهور علني له بعد أن أثيرت العديد من الأسئلة حول هويته في الشارع العربي، والأهداف الحقيقية التي شجعت مزارعا، لا يعرف عن العالم الخارجي أي شيء باستثناء ما تردده وسائل الإعلام الرسمية، القيام بهذا العمل في إحدى القرى الهادئة، ينحصر اهتمام سكانها على الفلاحة والصيد.
هذه الشخصية شدت اهتمام صاحب الفيلم المخرج مصطفى هلكوت، وأراد أن يمنحها “مساحة” للتعبير، حسب قوله، إضافة إلى “فضوله” في معرفة حقيقة الحفرة التي التجأ إليها صدام حسين للاختباء قبل أن يتم اعتقاله من طرف الجنود الأمريكيين.
عرض هذا العمل في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية كمهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية بهولندا، مهرجان البحر الأحمر السينمائي في السعودية، مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية، مهرجان الفيلم في بروكسل ومهرجان بوردينوني في إيطاليا وغيرها. ويعرض الفيلم في الصالات الفرنسية اعتبارا من السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني.
فرانس24: نرى في الفيلم أن علاء النامق في وضعية ثابتة لم يتحرك وهو يحكي تفاصيل إخفائه لصدام حسين. لماذا اخترت هذا الأسلوب السينمائي في عملك؟
هلكوت: جربت خلال ست سنوات أساليب مختلفة. هي قصة شخصين أحدهما مات ولا يوجد حولها صور. اطلعت على أرشيف أسوشيتد بريس وبحثت في 500 وثيقة. وحاورت أربع مرات علاء. ورأيت كيف قدم في الإعلام الأمريكي وكيف يبدو في المقابلات التي أجريتها معه. وكيف يمكن للبناء السينمائي الذي أقوم به أن يمثل كل محيطه. كان الشيء الصعب بالنسبة لي أن أجد الطريقة المتميزة التي أحكي بها هذه القصة. لذلك قضيت عشر أعوام في إعداده. كنت أريد خاصة أن أجد الطريقة العربية لحكيه. لهذا اخترت أن أضعه كل الوقت أمام الكاميرا. فالخيط الرابط بين مشاهد الفيلم هو هذه الحفاوة والضيافة لدى العرب. وهذا التقدير الكبير الذي يحظى به الضيف لديهم. كان الأمر صعبا… كان بمثابة جحيم أن أنجز هذا الفيلم. قضيت عشر سنوات لإعداده، لم أعد أبدا تجربة أخرى مثل هذه.
لماذا لا تعيد تجربة أخرى مثل هذه؟
لأني أنجزت فيلما حول شخص أخفى صدام حسين. وأنا كذلك كان علي أن أخفي فيلمي كل هذه المدة. شخصان فقط من فريقي كانا يعرفان ماذا كنت بصدد تحضيره. حتى مهندس الصوت لم يكن يعلم بالمشروع. عندما بدأت البحث عن علاء، كانت فقط “سي أي أي” وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي تعرف من هو علاء.
إذن، لماذا هذا الفيلم؟
كان دائما لدي فضول لمعرفة هذه الحفرة التي انتهى إليها صدام وتم إخفاؤه بها قبل أن يتم توقيفه من طرف الأمريكيين. لم أصدق الأمر. كنت أتساءل باستمرار ما هي قصة هذه الحفرة. ولم يكن يوجد أي شخص يحكي قصتها إلا من حفرها. وهي الغاية التي دفعتني إلى البحث عن علاء حتى العثور عليه. لدي كذلك قصتي الشخصية. أتيت من حلبجة، المدينة الكردية التي قصفها صدام حسين بالأسلحة الكيميائية، كنت حينها في الثالثة من عمري. كنت أيضا بصدد البحث عن قصتي الشخصية. كانت لدي رغبة في معرفة من هو صدام حسين. وكل ما تم تداوله عن العراق ورد علينا من أوروبا والعالم الغربي. وأردت أن أحكي القصة من زاوية عراقية بدون تجميل وأكون أكثر قربا من الواقع.
كيف أقنعت علاء النامق للحديث عن قصة إخفائه لصدام؟
سافرت إلى العراق 23 مرة وهذا ما يعني أني صبور، لأنها قصة فريدة من نوعها.
كيف تمكن علاء من البقاء على قيد الحياة ونجا من القتل على يد الجنود الأمريكيين ومعارضي صدام حسين؟
هل تتذكر فضيحة سجن أبو غريب؟
نعم
هو كان من بين السجناء، وأفرج عنه بعد انفجار فضيحة هذا السجن. وأول صورة ظهرت على الصحافة العالمية لسجين عار بأبو غريب كانت لعلاء. وبعد هذه الفضيحة تم إغلاق هذا السجن والإفراج عنه. ويعيش اليوم في مكان سري.
في العراق؟
لا يمكن لي أن أكشف اسم البلد
لم تقل لنا بعد كيف أقنعته؟
كنت صحافيا لعدة أعوام. أعرف كيف يمكن لي أن أشتغل بشكل خفي. لم يكن هدفي أن أجري معه حوارا، بل أردت أن يكون له وجود وسط العالم. المرة الأولى التي رأيته فيها، بقيت معه أربعة أيام. ولم نتوقف خلالها عن الخصام. لأنه، بالنسبة لي، صدام حسين ديكتاتور، لكن بالنسبة له صدام حسين هو الرئيس. قلت له إن الفيلم ليس حول صدام. بإمكانك أن تجد كل ما تريد عنه على الإنترنت. أنا أريد أن أنجز فيلما حول الحفرة وانطلاقا منها. كيف عاش صدام حسين 235 يوما معك بعضا من أوقاتها في هذه الحفرة. وقلت له إن الفيلم لا يريد أن يقول إن صدام كان طيبا أو شريرا. الفيلم حول هذه الحفرة.
وهو أيضا لربما تكونت لديه رغبة في الحديث بالموضوع؟
عندما أتت داعش – تنظيم “الدولة الإسلامية”- للاستيلاء على العراق، ظهرت الكثير من القصص حول هذه الحفرة. وتولدت لديه يوما بعد يوم رغبة لأن يتكلم. وصدام كان يتوقع ما آل إليه البلد. وكل ما قاله بهذا الخصوص حصل فيما بعد فعلا.
لماذا طيلة مشاهد الفيلم، نرى صدام لوحده مع مضيفه علاء فقط. أين ذهب حراسه؟
طيلة المدة التي بقي فيها صدام مع علاء لم يتواجد أي حارس معه. صدام كان يعرف أن الأمريكيين سيضعون اليد على كل حراسه. لذلك لم يكن بإمكانه أن يبقيهم بجانبه. الاستخبارات الأمريكية أوقفت كل حراسه. لقد كنت مصدوما في الأول كيف أن صدام اختار مزارعا لحمايته، وبعد ذلك فهمت أن كل المقربين منه سيقعون بين أيدي الجنود الأمريكيين.
هل رواية علاء النامق هي الحقيقة بالنسبة لك؟ وعلينا نحن جميعا أن نصدقها؟ ألا توجد روايات أخرى؟
كان لي هذا الحديث مع علاء ووقعت عقدا معه مفاده أنه إذا حكى أشياء مغلوطة سيكون مسؤولا عنها. والعشر سنوات الأخيرة لم أتوقف عن التحقق من كل شيء: جواز سفره، مكان تواجده، سجن أبو غريب حتى الجندي الأمريكي الذي أسندت له مهمة توقيف صدام حددت هويته.
الفيلم قدم صدام الإنسان وليس الديكتاتور. في وضع بسيط جدا، يضحك، يبكي، يغضب…هل أردت تقديم رسالة ما بهذا الخصوص؟
لهذا أحب هذا الفيلم. العمل يظهر إنسانية ديكتاتور وهو أمر يصعب قبوله. لذلك أحب الفن. رسالتي لم تكن تسعى لخلق مشاهد محملة بالمشاعر فقط. هدفي الأساسي كان بالنسبة لي هو توفير مساحة لعلاء لسرد قصته. وأردت فعلا أن أفهم من هو صدام؟ كيف لرجل يملك كل السلط ينتهي في يوم من الأيام بحفرة. هذا ما كان يهمني.
هل هذا العمل يمكن تصنيفه ضمن الأفلام الكردية أم العربية؟
“يبتسم”…إنه فيلمك. هو لك. أنا أنجزت فيلمي. كل واحد سيشاهده ستكون له وجهة نظر بخصوصه.
حاوره: بوعلام غبشي
Source link