السياسة السودانية

الطريق الى الجنة – النيلين

[ad_1]

علي كرتي: الطريق الى الجنة (١)
– اواخر العام ١٩٩٢ كنا نقف على احواض غسيل الايادي في مادبة عشاء اقامها الاخ جبريل النيل بمنزله بضاحية امتداد ناصر المطلة على شارع الستين، التفت الي الشيخ علي كرتي ليبلغني بانه بصدد الطلب من الشيخ الترابي الاذن بانضمامي الى مكتبه التنظيمي بعد انتهاء فترة عملي في مكتب الشيخ، شرحت له بانني فعليا انتقلت الى ولاية مكتب تنظيمي اخر وبقائي في مكتب الشيخ مسالة وقت في انتظار عودة الاخ سيد الخطيب من امريكا التي كان قد عاد اليها لترتيب اوضاعه ولكن علي كرتي ظل يلح في طلب موافقتي ليسعى هو الى تعديل قرار انتقالي مع الجهات التنظيمية. كان يشهد هذا الحوار الاخ الشهيد مهدي احمد اسحق السلفي الذي تدخل بطريقته المعهودة ( هوي يا برلوم .. اذا كنت عايز تغنى فلوس وتعرس مرة واتنين امشي مع الزول ده .. لكن انسى الجنة والكلام الكتير داك .. في زول عاقل يفارق شيخ حسن عشان وينتقل لعلي كرتي؟!) ويتدخل علي كرتي ( يا مهدي يا اخ خليك جاد مرة واحدة ) ونضحك على طريقة مهدي المعروفة.

– قبل ذلك بعام او يزيد كان المسؤول السياسي بالسفارة الامريكية ( تقرا المخابراتي) بمكتبي بالمؤتمر الشعبي العربي والاسلاميي يطلب الاذن للقاء مسؤول القرن الافريقي بالخارجية الامريكية بالشيخ الترابي مساء ذلك اليوم ، رحبت به وحددنا الموعد بعد صلاة المغرب بمنزل الشيخ الترابي بالمنشية وذلك بعد استشارة الشيخ الترابي طبعا ، لكن المسؤول سرعان ما عاد من السفارة الامريكية يطلب حضور الشيخ الترابي الى منزل السفير الامريكي نسبة لازدحام برنامج المسؤول الامريكي الزائر كما ادعى!! فدخلت على الشيخ الترابي الذي وافق على التعديل.

– قبيل الموعد المحدد بدقايق كان الاخ الشهيد صلاح خالد يدلف بسيارة الشيخ الى منزل السفير الامريكي الذي وقف عند عتبات المصطبة لاستقبال الشيخ. نزلت انا مع الشيخ الترابي صوب صالون منزل السفير حينما تناهى لسمعي تعليمات مسؤول التامين الامريكي لاحد عماله من الاخوة الجنوبيين ( check the car) وبالفعل ذهب العامل لاحضار مرآة مثبتة في ذراع طويلة يتم حشرها تحت السيارات لروية ما قد يكون مثبتا في شاسيه السيارة . عند ذلك اشرت بيدي للاخ صلاح الذي كان مشغولا مع مقود السيارة يحاول احسان صفها داخل منزل السفير ولكن بمجرد رويته اشارتي سارع الى اخراج السيارة خارج منزل السفير وسط اعتراض مسؤول التامين ( No no , what are you doing?) الامر الذي استدعى عودة المسؤول السياسي الى حوش المنزل لاستطلاع الامر والتفت الي الشيخ الترابي مستفسرا فشرحت له باختصار ان صلاح خرج بالسيارة خارج المنزل وسيكون بالقرب بانتظار اشارتنا فلم يعجبه تصرفي.

– كان المسؤول الامريكي غاضبا مما اسماه مشاركة الجيش السوداني في العمليات العسكرية التي ادت الى هزيمة الجيش الاثيوبي وسقوط حكومة مانغيستو ودخول الثوار الاريتريين عاصمتهم اسمرا ، وكان يوكد بان لديهم صورا بالاقمار الصناعية تؤكد مشاركة اليات عسكرية سودانية مع الثوار الاثيوبيين والاريتريين في القتال. حاول الشيخ الترابي ان يشرح له ان علاقة الموسسة العسكرية السودانية كمؤسسة بحركات تحرر او تمرد افريقية مجاورة علاقة قديمة ومعقدة جدا وفي غالب الاحيان لا علاقة لها بالقرار السياسي وان منطلقاتها متعددة منها ما هو عسكري فني محض فاثيوبيا تستضيف حركة متمردة وقوى سياسية معارضة تقاتل الجيش انطلاقا من اراضيها وترفض الاستجابة لاي نداءات او مبادرات سياسية، ومنها ما هو اجتماعي فكثير من قيادات التمرد او التحرر الاثيوبية تستطيع الاتصال بقيادات الموسسة العسكرية في السودان بطرق وقنوات غير رسمية كما ان قطاعات من الوجود الاجتماعي المتاخم لاثيوبيا تتداخل عناصره وتتقاطع وتتواصل مصالحه عبر الحدود وهذا الوجود الاجتماعي له وجود ومساهمة في الجيش السوداني وفي حركات التحرر الاثيوبية والارترية وفي كثير من الاحيان يكون تاثيره على مجريات الاحداث وتوجهاتها اقوى من تاثير الموسسات السياسية الحزبية والرسمية.

– وتشعب الحديث حينما طلب الشيخ الترابي من المسؤول الامريكي ملاحظة الاعداد اللاجئة من اثيوبيا الى السودان خلال زيارته لمدينة كسلا وسؤاله : كيف يكون مطلوبا من السودان الاستعداد الطبيعي لاستقبال مئات الالاف من اللاجئين والتخطيط في سياساته الاقتصادية والتحسب لمثل هذه الحالات والتي هي ليست بكوارث طبيعية طارئة وانما نتيجة تطورات سياسية متدرجة من صنع السياسيين فكيف يكون مطلوبا من السودان الجلوس وانتظار وقوعها وتحمل نتايجها ولا يكون له الحق في محاولة اتقاء شرورها او تخفيف اثارها على اقل تقدير ؟! ومضى اكثر في سوال المسؤول هل كنتم ستفعلون الامر نفسه مع المكسيك مثلا ؟!

– وقد كان الشيخ الترابي منهجه في محاورة المسؤولين الامريكيين بالذات فهو دايم التحذير لهم من التورط في ميراث استعمار اوروبي لم يكونوا في السابق طرفا فيه، وكان دائم الطرق على مصطلح (المصالح المعتبرة) شرعا وعرفا فكان يقول لهم حدثونا صراحة عن مصالحكم واقنعونا بمشروعيتها في القانون الدولي والعرف الانساني وستجدون منا كل احترام لهذه المصالح شريطة الا تكون على حسابنا او حساب اخرين اقرب الينا منكم، فلا تحدثونا عن اختراق مصالح مشتركة مع جيران لنا او الاخلال بها لتحقيق مصلحة مشتركة بيننا وبينكم ، ونتوقع منكم اذا عرضنا عليكم مصالحنا المشروعة ان تتعاملوا معها بدات الاحترام. واذكر ان العم يسن عمر الامام كان شديد الاعتراض على منهج الشيخ ودائما ما يقول بانه لا يميز بين الامريكان والاوربيين فقط بجريرة ان الامريكان لم يحضروا فترة الاستعمار ولو انهم حضروه لما قصروا في المشاركة فيه.

– بالعودة الى لقاء الشيخ بمسؤول القرن الافريقي بالخارجية الامريكية بمنزل السفير الامريكي ففور خروجنا من منزل السفير استفسر الشيخ عن واقعة السيارة فشرحنا له ما حدث فلم يغير رايه ولامني عليها واستغرب كيف فهم الاخ الشهيد صلاح خالد اشارتي واستجاب لها بهذه السرعة ؟! وكان صلاح عليه الرحمة شديد الدعابة رغم صرامة صقلتها الخدمة العسكرية فحاول تلطيف غضب الشيخ من افتعالنا معركة من قضية لا قيمة لها بقوله بانه يفهمها وهي طايرة !! المهم انه بعد ايام من الواقعة ارسلت السفارة خطاب اعتذار عن سوء الفهم الذي وقع وكنت انا خارج الموتمر الشعبي العربي والاسلامي وعندما دخلت مكتب الشيخ رفع الي خطاب السفارة وهو يقول ( مبروك رسلوا ليك شهادة!!) فلم ازد على استلام ( شهادتي) وانا مبتسم !!
– نواصل

على كرتي : الطريق الى الجنة (٢)
– منتصف العام ١٩٩٢ كان الشيخ الترابي يخاطب لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الامريكي في ذات الوقت الذي كانت فيه عناصر من الحركة الاسلامية تكمل صفقة دفع فدية لتحرير حق التنقيب عن النفط السوداني الذي كانت شركة شيفرون الامريكية قد اختطفته في عملية قرصنة دولية في اوائل الثمانينات من القرن الماضي وحبسته منذ ذلك الوقت في خزائنها وظلت تطالب بفدية للافراج عنه وترفض الافراج عنه للحكومة السودانية مباشرة وتشترط وجود وسيط يتولى دفع الفدية واستلام المخطوف حتى تتجنب اي نتايج قد تترتب على تورطها في استلام اموال الفدية مباشرة من الحكومة السودانية عبر القنوات الرسمية للعمل المصرفي العالمي وتسجيل وقايع مفاوضات الفدية في محاضر السياسة الدولية.

– كانت الحركة الاسلامية قد قبلت بهذا الطريق الملتوي في سبيل تحرير الرهينة وجهزت اموال الفدية من اموالها الخاصة وشكلت لجنة من كبار قادتها وخبرائها لمتابعة تنفيذ عملية الفداء هذه والتي سبقتها دراسات جيولوجية ونفطية وسياسية وامنية معقدة جدا ودقيقة للغاية. حدثني شخص لا علاقة له بالحركة الاسلامية ولا يعرف عنها الا ما يقراه في الاعلام وكان كل الذي يربطه بها مزاملة شقيقه لاحد قيادات الحركة الاسلامية في المدرسة الثانوية، وقد كان هذا الشخص ممن اشتغلوا في مجال بيع منتجات نفطية وكيلا لشركة عالمية كانت تعمل بالسودان، حدثني بان باب منزله طرق ذات مساء فلما فتحه وجد شابا وسيما يلبس جلبابا ناصع البياض ويضع على راسه عمامة ملفوفة باهمال فصافحه ورحب به الى داخل منزله وشاهد الشاب علامات الحيرة على وجهه فلم ينتظر طويلا ليشرح له : انت لا تعرفني .. انا اسمي فلان فلان .. وانا تحصلت على عنوانك من فلان بعد تكليفي من مكتب بالحركة الاسلامية لدعوتك الى اجتماع غرضه مناقشة جوانب فنية خاصة بعمليات بيع المنتجات النفطية.. بالطبع يحق لك الرفض كما انه يحق لك التحفظ على اي معلومات تخص عملك او علاقتك بموكلك و…

– قال لي بان الشاب اسهب في شرح اهداف الاجتماع المعني وموقعه من عملية كبيرة لمحاولة افتداء النفط السوداني من القرصنة الامريكية !! قال لي وافقت على حضور الاجتماع وذهبت في الموعد الى المكان الذي تم تحديده لي بشارع السيد عبدالرحمن بالخرطوم وكانت دهشتي حينما وجدت نحو عشرين شخص لم اعرف منهم سوى اثنين لان معظمهم كانوا اصغر مني عمرا ، لكن المدهش حقا كان ان بعض هولاء الشباب قادمون من خارج السودان من مواقع مختلفة من العالم ويتحدثون بمهنية عالية جدا ومهما ذكرت لهم من معلومات او ارقام يستطيعون استيعابها بسرعة فائقة .

– بنهاية العام ١٩٩٤ كانت عملية استعادة النفط السوداني المختطف من قبل شركة شيفرون الامريكية قد تمت بنجاح لم يعكره محاولات الوكيل في صفقة الفداء الحصول على ميزات اضافية او تسهيلات استثمارية خاصة مقابل المخاطرة الكبيرة التي تحملها بشجاعة للاسف الشديد لم تحفظها له قيادة الدولة وعاملته بعد ذلك معاملة غير كريمة لم يكن لها من داع سوى عنجهية السلطان وهذا مبحث اخر . لكن المهم انه بنهاية العام ١٩٩٤ انطلقت الخبرات المهنية للحركة الاسلامية في اتجاهات استغلال النفط واكمال استخراجه وترحيله الى مصفاة بورتسودان واستطاعت تامين قرض من بنك التنمية الافريقي لاستيراد صهاريج سكة حديد لترحيل النفط الخام ريثما يتم بناء وتشييد خط انابيب النفط.

– وحينما وقف الرييس البشير في حفل افتتاح العمل في تاسيس خط انابيب النفط واعلن انه باذن الله سيتم الانتهاء من العمل فيه خلال عام، مال احد الدبلوماسيين الغربيين على جيرانه يستفسر عن مصدر تمويل هذا العمل فقال احدهم لعلهم يطبعون عملة بكميات كبيرة جدا ، لكن كبيرهم اعترض على ذلك بقوله بان طباعة العملة لا يمكنها تمويل مثل هذا العمل !! ولكن الثلاثة اتفقوا على لا معقولية اعلان البشير انتهاء العمل من خط الانابيب خلال عام وانه على الاقل بحاجة الى ثلاثة اعوام !! غني عن القول بان الثلاثة كانوا يشهدون بعد عام حفلا اخر بافتتاح خط الانابيب ولعلهم تعمدوا تجاهل استذكار حديثهم السابق والانشغال بالتفكير في وسايل اكثر نجاعة لمحاصرة هذا المارد الذي يبني خطوط الانابيب في ظل حصار غير معلن ومقاطعة وعقوبات بلا قرارات.

– كانت الارادة التي حررت النفط من القرصنة الامريكية وشرعت في تاسيسه صناعة وادارة واستثمار وطني خالص، ارادة مختلفة تماما عن تلك التي فرطت فيه ابتداء وتركته رهينة لشركة شيفرون الامريكية دون وجه حق. وتحرير النفط الوطني كان احد ابرز تمظهرات الارادة الجديدة ضمن مجالات اخرى عديدة كانت هذه الارادة قد بدأت تبعث فيها روحا غير معهودة، فبينما كانت مجموعات تباشر معركة تحرير النفط كانت مجموعات اخرى قد شرعت في تاسيس التصنيع الحربي على نحو غير مسبوق ومجموعات اخرى اعادت تعريف موسسة الاتصالات السلكية واللاسلكية والاستفادة من اصولها البشرية والمادية في تأسيس شركتي سوداتل وموباتيل وبسط شبكة اتصالات غطت معظم مناطق الوطن لتعويض جزء من النقص الحاد في البنى التحتية للمواصلات وسبل النقل والانتقال.

– وبنهاية ذلك العام ١٩٩٤ كانت المراسيم الدستورية التي ترسم ملامح الحكم الاتحادي قد اكتملت تقريبا وبدا نظام اداري لا مركزي يتاسس ونشطت مدن كثيرة في سباق التاهل لتصبح عاصمة لولايتها وشهدت نهضة عمرانية كبيرة في المباني الحكومية، ولكن المباني السياسية كانت تراوح مكانها في اضابير مكاتب التنظيم السياسي للسلطة الذي اتخذ من عقارات حكومية مقرات لرئاسته وظل مسؤولوه يداومون في مكاتبه بذات الوتيرة والنمط الذي يداوم به موظفو الحكومة ولاحقا اكتمل بناء هذا التنظيم السياسي كحزب حكومة تمرد على الحركة الحاكمة واكمل انتظامه في موسسات السلطة وهذا مبحث مختلف تماما .
– نواصل

صديق محمد عثمان

صديق محمد عثمان

[ad_2]
مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى