عادل عسوم يكتب : وللانسان أكثر من ميلاد
يوافق يوم مولدي الثاني من أكتوبر، وهاهو بحول الله قد أزف، ولا أدري أيصبح هذا عامي الأخير في هذه الدنيا أم أن الله تعالى مُقدِّرٌ لي حياةً جديدة وهو اللطيف القادر الكريم، أسأله جل في علاه أن يكتب لي ولكم الخير، إما وصلا لحياةٍ تُرضيه، أو خواتيمَ نلقاهُ عليها راضين مرضيين بحولِهِ ومَنِّه وفيض خيره الذي حبانا به طوال حياتنا، وأسأله جل في علاه أن يجعل لي لسان صدق في العالمين يلهج بالشكر حَمْدا وبالذكر والتسبيح إخباتا له وإسلاما واستسلاما.
المولد كان هناك في الشرق، كسلا إحدى حسان هذا الوطن الجميل تأريخا وأمكنة وأُناسِيٍّ كثيرا، فاجتمت لي بذلك شينات ثلاث، شين الشمال وفيه الجذور، وشين لأهلي الأحباب وقد اثقلت الحنية أعطاف لهجتهم فتجملت ب(إمالة) محببة، وثالثهن شين الشرق الذي كان فيه المولد.
في إحدى صباحات الميرغنية الوديعة نادى منادٍ بقدوم مولود لآل عسوم، فكانت الصرخة الأولى وقد امتلأت رئتا الوليد بنسيم كسلا الريان بزيفة المطر، وحبى وترعرع وقد تشكل وجدانه بخضرة المدينة واعتمر قلبه عنفوان القاش، كسلا التي حباها الله بمزيةٍ دون المدن، إذ أشجارها تزهر في العام مرتين، وأناسها يحملون في دواخلهم (هينين) من المودة وحب الآخرين، ألا تجدهم يجمعون المفرد فيقولون ( 2 بيت، واتنين سرير)؟!
حتى وصفهم للأشياء تجد فيه سمو وارتقاء، (فلان تلقاه فوق البيت، وليس في البيت)!…
ماأروع قبائلها وهم (يلوون) الكلام، و(يلينون) في رقصهم و(يلاوون) السيف لتعلم يقينا بأنهم أحفادٌ للبطل عثمان دقنة طيب الله ثراه.
هذا حالهم في شرق القاش، أما في غربه فهناك أهلنا الهوسا، قومٌ فيهم جِدٌّ ونشاط، وهم كذلك في رقصهم، وتجد في رحابهم الرِّقَّةَ والطيبة والترحاب، نزلوا يوما ضيوفا على أهل المنطقة من الحلنقة والهدندوة والبني عامر فأضحوا أهل ديار، والحلنقة والهدندوة أهل كرم، والبني عامر كذلك، ويرجحون بتديّنٍ لهم جِبِلَّة، وهناك الرشايدة عرب أقحاح فيهم أصالة وجمال، أما السواقي شماليها وجنوبيها فهي التي أشرقت بها شمس وجد راحلنا الجميل توفيق صالح جبريل فكانت ومافتئت جنة للعشاق.
والمرء وإن وافق ميلاده يوما بعينه إلا إنه يولد مرات عديدة على مر السنوات وتتالي العقود، يحدث ذلك كلما اكتنفه قَدَرٌ من أقدارِ الله ليصبح المَآل تغييرا جوهريا في مسار حياته، وإني كذلك مرت بي أيامٌ أُخَرْ لميلاد جديد ممثلة في أقدارٍ لِلّه أسهمت -ولم تزل تسهم- في تغيير مسار حياتي وتشكيل وجداني رسما لمسار حراك حياةٍ جديد.
* ثاني ميلاد لي، يوم انتقلتُ إلى الصف الثالث الإبتدائي، حيث سمح لنا مدير المدرسة بأن نكتبَ بالحبرِ السَّائل عوضاً عن قلمِ الرّصاص، واحسب أن اقلام الحبر الجاف لم تعرف حينها، وقد يكون الأمر حدثا عاديا للعديد من الناس، لكنه كان يوما مشهودا في حياتي، يومها كنا من الحرص بمكانٍ بأن نملأ أنبوبة قلم الحبر السائل البلاستيكية بالحبر بأكثر من حرصنا على ملابس المدرسة التي يشملها إحتفاءنا بالحدث بنقاط حِبْرٍ نرشها عمدا على جيوبنا، ثم نضع القلم جاعلينه باديا للعيان، ومذ ذاك سرت في دواخلي محبة وعشق رفد الأقلام، وأضحت القراءة والكتابة لي موهبة وموئلا لِحُبٍّ عظيم.
* ثالث ميلاد لي كان يوم جئت إلى مكة المكرمة طالبا في مرحلة البكالوريس بجامعة أم القرى، مكة التي قال فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يبارحها مهاجرا إلى يثرب:
(واللّه إنك لخير أرض اللّه وأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)…
ترجلت من البص الذي اقلَّنا من جدة قبيل الحرم بمسافة والدُنا موشكة على انبلاج فجرٍ جديد، سرت وبيدي حقيبة ملابسي أجرها بيساري ميمما صوب الحرم الشريف، فإذا بالكعبة المشرّفة تسبح في لُجّةٍ من النور والضياء العميم، أضواءٌ تزداد تكاثفا كلما اقتربت منها، فتغمرك لجّتها وهي تنعكس بابهار على جوانب الحرم صحنا وحوائط ومآذن…
يااااه
لكأن صدري شُقَّ يومها وغُسِلَ بماء زمزم، ثم ولجت إلى صحن الحرم مغالبا دموع الفرح برؤية بيت الله الحرام، وكنت على وضوء فطفت بالكعبة سبع أشواط، ثم رفع أذان الفجر مع اكمالي للشوط السابع فصليت ركعتي الطواف خلف مقام ابراهيم، وما إن انقضت صلاة الفجر إلا وجلستُ امتع ناظري بمشهد الكعبة البهي وقد اكتنفتها الخيوطُ الأُوَلُ البيض من الفجر، فإذا بي اتلمس في دواخلي احساسا بميلاد جديد، ميلادٌ لوجدانٍ غُسِلَ بالنور وطُهِّرَ بوضاءة ذاك المشهد الإيماني البديع، فإذا بي مذ ذاك احب الحياة المفعمة بوضاءات الصباحات، وكنت من قبلها مُحِبَّاً لِلَيلِ الشعراء وأنجمِهِ، وأيقنت بأن الليلَ موات وفي اهلال الصباحات حياة، وإذا بي أجد في نفسي ولعاً عجيبا بالآيات التي وردت فيها لفظة النور في القرآن، وأصبحت أتخير الأماكن كثيفة الإضاءة وأنأى بنفسي عن الظلمات، وكم تساءل الأهل والأصدقاء ممن زارني في بيتي الذي اشرفت على بنائه بنفسي عن كَمِّ المصابيح التي جعلتها فيه.
ثم انطلقت (مُسَتَّفاً) بمشاعرِ الذي وُلِدَ من جديد إلى رحاب جامعة أم القرى ليكتب لي الله في عوالمها حياة جديدة ووضيئة، لقد قُدِّرَ لي امضي في رحابها سنوات من عمري بمثابة الربيع من الزمان بمعية زملاء أخيار من بني وطني لا أزكيهم على الله وهو حسيبهم، ولمكة المكرمة قدرها من قدسية التحاكم إلى نصوص الاقامة في الحرم دون الحِل، وقد دفع ذلك الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه لمبارحتها (تورعا) ليقيم خارجها في الطائف.
* عيد ميلادي التالي كان يوم قدوم طفلتي الأولى وأنا الطالب حينها في جامعة أم القرى، أطلّت عليّ ابنتي الكبرى (أروى) وهي الطبيبة حاليا، وما أسعدها من اطلالة، يومها أوصلت زوجي التي احست بآلام المخاض إلى مستشفى جياد العام الذي ازيل بمعية مبان أخرى قبل سنوات ايساعا للحرم المكي الشريف، كان اليوم خميس، وشهر شعبان يؤذن مودعا، وأول يوم من شهر رمضان على الأبواب.
انتظرت في باحة استقبال المستشفى مما يلي غرفة الولادة أدعو الله بأن يسلم زوجي ومولودي الأول، والعينان مني مصوبتان إلى مولج الغرفة انتظارا لمقدم من يأتيني بالخبر السعيد، وكم لخبر المولود الأول من وقع جميل في النفس ياأحباب،
قال لي صديقي ياسر يومها:
– تعرف ياعادل، يومي الجاني أول مولود حسيت بي إحساس كدا عجيب، فجأة كدا شعرت بي إني طاير في الهوا وأشوف ليك المرحوم أبوي ومعاهو جدي ووراهو ناس كتيييرة عجايز متماسكين بي يدينهم في شكل حلقة وأبوي مادي لي يدو، وفعلا مسكت يدو وبقيت جزء من الحلقة دي، والحلقة متواصلة من بعدي وماوقفت!.
واتصل حديث صديقي ياسر فقال:
– أما اول نظرة منك لي طفلك الأول، ف دي قصة تانية وشعور أبدا مابتوصف!
وصدق ياسر…
جلست على أحد المقاعد لكن مشاعري ظلت تقف على قدمين من عَشَمٍ وشوق، وما أن أدار منتصف الليل ظهره إلا واذيع بأن غَدٍ الجمعة هو أول أيام رمضان، كم سعدت بالخبر لكون مولودتي الأولى ستنالها بركتان، بركة مقدم أول يوم من رمضان، وبركة الليلة المفضية ليوم الجمعة.
نظرت إلى الحائط فإذا بالساعة تعلن الواحدة والنصف من صباح الجمعة، وأخبرتني احدى الممرضات بأن الولادة ستتأخر لساعات، وأنهم شرعوا في عمل طلق صناعي لزوجي، ونصحتني ومن معي بأن نذهب إلى دورنا ونتواصل معهم بالهاتف، فما كان ممن معي إلا أن ألَحُّوا عليّ بالانصراف فصحبتهم مكرها إلى شقتي في حي الملايو، وحينها ما كان للناس عهدٌ بالهواتف النقالة، جلست إلى الهاتف الثابت ادير قرصه على رأس كل نصف ساعة حتى ملّ مسؤل الإتصالات في المستشفى وطلب مني أن أعطيه رقمي واقسم بان يبلغني بالولادة بمجرد حدوثها.
كنت أعلم أن الجنين انثى وذلك من خلال المتابعة السابقة مع الطبيبة، والحق اقول انني كنت أرغب بأن يكون أول مولود لي أنثى لسببين، الأول لكوني الأوسط ضمن سبعة أشقاء ذكور وليس بيننا سوى شقيقة واحدة، والثاني لكوني أسير مقولةٍ سمعتها من جدي محمدالحسن حاجنور رحمه الله بأن (الببكر بالبت زولا مبروك)!…
نظرت إلى ساعة معصمي فاذا بها لم تبارح الثانية صباحا بعد، وانتبهت إلى عدم شرائي لمستلزمات رمضان فنهضت أنوي الخروج لشراء مايلزم إلا أن إلتفاتة مني إلى الهاتف القابع أمامي على المنضدة أعادتني إلى مقعدي، كيف لي أن ابارحه وهو المصدر الأوحد للخبر السعيد؟!.
حررت أزرار قميصي واسندت رأسي بكفي متكأ بظهري ومميلا المقعد إلى الحائط، والعينان مني لاتبارحان الهاتف انتظارا لرنين جرسه لسماع الخبر السعيد…
واذا بارهاق اليوم يسلمني إلى غفوة، وانبري إلى خاطري سؤال:
لماذا ياترى إختار النصارى الجرس ليكون نداءً لصلاتهم، بينما اليهود البوق، ونحن الأذان!
شغلني السؤال، فجعلت أدير فكري باحثا عن إجابة، وشرعت أستعرض قصة أنبياء الله موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وعلى نبينا اتم صلاة وسلام، وإذا بي أقر إلى اجابة:
البشرية في عهد موسى وعيسى عليهما السلام كانت في ابتدارت مدنيتها، لذلك كانت جل -إن لم تكن كل- معجزاتهم حسية، بينما كانت معجزات نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه -جلها- معنوية، لذلك فإن الأذان بالصوت البشري لأكثر اتساقا مع سَمتِ الإسلام عن اليهودية والمسيحية…
واتصل مَدُّ الفكر بي فإذا بي أرى أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام ينادي في الناس بالحج، وورد بأنه سأل الله كيف للناس أن يسمعوا ندائي ياربي؟! فأوحي إليه الله بأن يصعد على تلة من تلال مكة وينادي وسيوصل الله نداءه إلى كل الناس في أرجاء الأرض وإلى أن يرث الارض ومن عليها، ففعل عليه السلام، وها نحن اليوم يمكننا النداء برسالة في الواتساب ليقرأها الملايين في ذات الثانية، ولعل التواصل يصبح يوما بيولوجيا فيرتهن بال
D N A و ال R N A
فتصل رسائلنا للناس تماما كما وصلت رسالة أبينا إبراهيم عليه السلام وقد جاء الناس للحج ومافتئوا، رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
ولم أزل أدير بصري في الآفاق، فإذا بالفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقف شامخا طويل النجاد يهتف بأن يااااسارية الجبل!
وإذا بصوته رضي الله عنه ترتجُّ له السوحُ والفضاءات،
فأصحو فجأة على صوت أذان الفجر ينطلق من المسجد المجاور مختلط به رنين جرس الهاتف، وإذا بالممرضة تبشرني بأن: (مبروك جاتلك بنت).
وتتالت سنوات عمري من بعد ذلك كما حبات مسبحةٍ في يدِ شيخٍ وقور لألتحق بمكان عملي الحالي، تلك كانت لحظات ميلاد كتبها الله لي من بعد ميلادي البايولوجي الأول، لكنني لم أحتفل يوما بعيد ميلادي حتى عهد قريب، ولم يكن السبب موانع فقهية تسندها النصوص بقدر ماهي (ملامات) ممن هم حولي لم تكن لي القدرة على مجابهتها، وأولاها كوني أحد خريجي جامعة كائنة في مكة المكرمة، فظللت على ذلك لعقود إلى أن قُدِّرَ لأسرتي الانتقال والاستقرار في السودان، فتكالب علينا بنات وأبناء الإخوة والأهل وهم كثر بحمد الله، فكان الابتدارُ احتفالٌ بعيد ميلاد ابنتي الصُّغرى (رنا)، الطالبة حينها في الصف الرابع الابتدائي، (وهي الآن بحمد الله تدرس الطب البشري)، ولعل أمها واخوتها لم يروا بأسا في الاحتفال بعيد ميلادها حينها لاعتبارات عديدة، منها صغر سن البنية، ثم الحرص على جبر خاطر بنات الأهل، والمهم في الأمر ان رنا كَتَّر خيرها هي التي كسرت الحاجز وأسهمت مشكورة في إدخال أدبيات جديدة إلى حياة اسرتي الصغيرة، وتواصل الأمر من بعد ذلك ليجسر الهوة إلى المآل الذي أود، فإذا ببنيات الأخوة والأهل يتكالبن زرافات ووحدانا على أم رنا التي لم تكن تدري بأن يوم عيد ميلادها على الأبواب، فتفاجأت بُعيد عودتها من مشوار برفقة الإبن محمد بالبيت تزينه الأضواء ومظاهر الزينة من قصاصات القصدير الملونة في كل ركن من أركانه، وبالكبع كان الشباب قد أخبروني مسبقا بالأمر بعد أن تلمسوا استحساني لما فعلوه يوم الإحتفال بعيد ميلاد رنا، لكن أم محمد اعترضت في البدء، ثم انفردت بالأبناء جانبا لتعنفهم على الذي فعلوه، فما كان من ابنتي الكبرى أروى -طالبة الطب حينها- إلا أن اقننعها بديبلوماسيتها الراقية قائلة:
– ياماما معقولة تكسفي بنات أهلنا الجايات من الخرطوم وامدرمان ديل عشان يعبِّرَن عن فَرَحِن وحبَّهِن وتقديرن ليكي في يوم جميل زي دا؟!
فلم تملك الاّ السكوت، وبالطبع فإن في سكوت النساءِ رضى، وحانت منها التفاتة تجاهي- وأنا أخفي وجهي خلف صحيفة أداري بها ضحكة مكتومة- فانفجرت غاضبة قائلة:
– أنا عاااارفة الكلام دا كلللو من تحت راسك اتا دا، فمثلت دور الغاضب ورسمت على وجهي تكشيرة (البُعُول الصناديد) وقلت:
– انتي الدكتورة بتقول ليكي ديل البنات، تجي تقولي لي دا انتا؟
ففاجأتني قائلة:
– التورتة دي بالذات أنا شفتا الصندوق حقها في العربية وانتا جايي من برة لكن أبدا ما افتكرتها للموضوع دا!
فلم أملك الاّ الإعتراف (بالذنب) حيث ضبطت متلبسا بالجرم الكبير…
المهم في الأمر أن بقية (اللّبَقَة) ماصتها أمواهُ فرحةِ الإحتفالِ بعيد ميلاد أم محمد، فرفعتُ كفايَ إلى السماء شاكرا الله الذي هيأ لي الفرصة ليحتفل الناس من حولي بعيد ميلادي الذي تبقي له أشهر قليلة قبل أن أعود إلى مقر عملي هنا في السعودية،
ومضت الأشهر، وبزغت شمس أول يوم من أكتوبر الأخضر الجميل، فإذا بي أشرع بالدندنة منذ الصباح:
لما الليل الداجي الطوّل
فجر النور من عينا إتحول…
وها هو أكتوبر على الأبواب، ويوم ميلادي بحمد الله ستشرق شمسه بعد أيام قلائل بحول الله.
اللهم يا حنّان يامنان إن كنت قد كتبت لي حياة جديدة فاجعلها ياربي سعيدة، وإن كان قدرك بأنه الختام، فاقبضني اليك راضيا مرضيا، واخلفني يا إلهي في أهلي وذريتي بالخير، إنك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
adilassoom@gmail.com
صحيفة الانتباهة
مصدر الخبر