📍السفير عبدالله الأزرق: السودان بين قِمّتَين
يتذكر السودانيون الرئيس السادات وهو يتحدث بطريقته في نطق الإنجليزية قائلاً:
“Sudan is the depth of Egypt and Egypt is the depth of Sudan ”
“السودان هو عمق مصر ومصر هي عمق السودان”. فالمصريون يعرفون وكذا السودانيون أنه لو عطس السودان ستصاب مصر بنزلة برد، وكذا الحال في البلد الآخر.
وهكذا – وكما استبان من مخرجات قمة القاهرة لدول جوار السودان – فالمصريون حسبوا تداعيات الحرب المندلعة الآن بالسودان، ومآلاتها وآثارها عليهم. يعرفون ضغوط تدفق Influx اللاجئين، والتداعيات الأمنية والاقتصادية على بلادهم.
وأبان بيان القمة التأثير المصري عليه، إذ جاء متوازناً إلى حد معقول، وراعى نسبياً مصالح السودان مثلما راعى مصالح مصر والإقليم.
من الجَلِي تأثير المصريين الذين يعرفون حساسية السودانيين ضد التدخل الخارجي، فنص البيان على اعتبار أن ما يجري في السودان “شأن داخلي. والحفاظ على وحدته وسيادته وسلامة أراضيه”.
وأقر البيان “على التشديد بعدم تدخل أي أطراف خارجية في الأزمة بما يعيق جهود احتوائها ويطيل أمدها”..
وهذه ضربة قاصمة لقوى الحرية والتغيير / الجناح السياسي لمليشيا الدعم السريع التي تعوّل على التدخل الخارجي تماماً..
ويعكس هذا تناقضاً واضحاً مع الخِفّة التي وسمت بيان قمة إيقاد في أديس، وهي التي دعت لتدخل عسكري وحظر الطيران وما يقارب نزع سلاح الجيش في العاصمة.
ومن بين ما مازَ قمة القاهرة عن قمة أديس أبابا، حضور كل رؤساء دول جوار السودان للقاهرة، في حين أن قمة إيقاد لم يحضرها إلّا وليام روتو رئيس كينيا وأبي أحمد علي رئيس الوزراء الإثيوبي.
وتجنب بيان قمة القاهرة ما صرح به أبي أحمد ووليام روتو، الذان قَدَحَا في القيادة السودانية.
ورغم أن السودانيين في دواخلهم يكادون يسلمون بذلك لكنهم لا يرضون أن يُسفر الأجانب عن تدخل بهذا السفور، لذلك استنكروا تلك التصريحات المُستفزة.
تجاهل المصريون ما خرجت به قمة إيقاد، كأن مصر أرادت أن تقول: إن ما يخرج من القاهرة يُمثّل شخصية مصر المستقلة، والمترفعة عن ضغوط أطراف ستضر بمصالح مصر العليا في جوارها المباشر.
كان لافتاً الموقف المبدئي الرئيس اسياس أفورقي (أفورقي تعني فَمْ الذهب)، الذي رفض التدخل الخارجي في شؤون السودان وتعامل أطراف داخلية مع الخارج، مؤكداً قدرة السودانيين على حُسن التعامل مع مشكلاتهم، مما عُدَّ صفعة لوفود قوى الحرية والتغيير (قحت)، وصفعة أخرى لمليشيا حميدتي.
ومن المؤكد أن الذي دعا الرئيس الأريتري لقول ذلك هو أنه يعلم ارتباطات الطرفين المتحالفين مع أطراف خارجية عديدة، وكيف أنها تجوب الدول تتسول المؤازرة.
من الطبيعي أن تدعو قمة تمثل دولاً متعددة المشارب والارتباطات والمصالح إلى وقف الحرب التي هي موضوع القمة.
ومن الطبيعي أن ترحب القيادة السودانية ببيان القمة.
لكن الذكاء المصري اتضح بنص البيان على تشكيل “آلية وزارية” من وزراء الخارجية للمتابعة.
وسيعطي تشكيل الآليه هذا القيادة السودانية زمناً كافياً لمتابعة عملياتها العسكرية للقضاء على المتمردين، إلى حين انعقاد تلك الآلية!!!
ومعروف أن لمصر موقف صارم ضد المليشيات.. وتشكيل تلك الآلية يعكس الذكاء وعمق التجربة المصرية، وما كان ممكناً لأعضاء القمة رفض هذه المبادرة.
وبعامة يمكن القول: إن بيان قمة جوار القاهرة نفى ونسخ Negated أو كاد التطرّف الذي وسم بيان قمة إيقاد إزاء السودان.
لكن هناك محاذير ينبغي أن تأخذها القيادة السودانية في الحسبان، أولها:
هل سيشمل الحوار المزمع مع “الأطراف” السودانية ممثلين للمتمردين وممثلين لجناحهم السياسي قوى الحرية والتغيير (قحت) ؟؟
من المؤكد أن تفاوض القيادة السودانية مع هذين الطرفين سيُفقد القيادة السودانية التفافاً شعبياً مع الجيش لا نظير له.. فلن يرضَ السودانيون تفاوضاً يحيي الدعم السريع الذي قتل ونهب ودمّر واغتصب حرائرهم.
ومن المؤكد أيضاً أنهم لن يقبلوا إحياءً لموات قوى الحرية والتغيير التي أنذرت وهددت بالحرب، وحرضت حميدتي على شنها؛ ثم أخذت تبررها وتتستر على ويلات المتمردين وفظائعهم بدل أن تدينها وتستنكرها.
أمّا الأمر الثاني الذي يدعو للحذر الشديد فهو محاولة إنشاء “عملية إنسانية”!!!
من العسير أن يرفض طرف عملاً إنسانياً خاصةً إبّان الحروب. ولكن التجارب أكّدت أن إشراف وتنفيذ المنظمات للعمليات الإنسانية، هو أفعل الطرق لاستدامة الحروب وتطاولها.
لقد كنت مسؤولاً عن عملية شريان الحياة Operation Lifeline -Sudan لمدة ثلاث سنوات وأنا دبلوماسي في سفارة السودان في كينيا. وكانت عملياً عملية لضخ الدماء في شرايين التمرد. وشهدت وتابعت انحياز كل المشاركين فيها لصالح التمرد، وتحيزهم ضد السودان.. لقد أجهضتُ بعض التآمر ولم أوفق في بعضه.
وعبر تلك العملية والتي كانت ميزانيتها 225 مليون دولار، جرى إمداد حركة قرنق بالسلاح والعتاد والمؤن. وجرى إمداد الحركة بالدواء، وأنشأوا لها المرافق.
هذا في حين كانوا يراوغون أمام طلبات السودان لإمداد مناطق سيطرة الحكومة.
وعبر عملية شريان الحياة التى كانت نيروبي مقرّاً لـمُنسقيتها Coordination كانت تتم عمليات تهريب للسلاح وسواه، بالطائرات لمناطق سيطرة حركة التمرد الجنوبية (الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM).
وعبرها كانت الوفود الكنسية، ووفود البرلمانيين والسياسيين الغربيين يتسللون تحريضاً للمتمردين ودعماً لهم، واشتهرت البارونة كوكس – عضو مجلس اللوردات البريطاني – من بين متسللين كُثُر.
كنا إذا طلب السودان غذاءً لمناطق سيطرة الحكومة وقتها يدخل الـمُنسّق فيليب أوبراين Obraine في إجراءات بيروقراطية تبدأ من إرسال بعثة لتقصي الحقائق Fact Finding Mission؛ تليها بعثة عَدْ المحتاجين للإغاثة Head Count Mission.
وبعد شـــهر، يصــــل لمنـاطق الحــــكومة نذر يســـير من الطعام، لا يكاد يفي بالحاجة.
أمًا طلبات الحركة الشعبية فلا تمر بتلك الإجراءات، ويعطونهم ما يفوق حاجتهم، لدرجة أن مسؤولي قسم الإغاثة يبيعون الفائض في أسواق مدينة قولو اليوغندية، ومدينة لوكيشوقو الكينية، القريبتان من الحدود مع السودان.
وإذا اضطَرت الحكومة لقبول هذه العملية الخطرة فيجب أن تمنع وصول الإمدادات إلّا عن طريق مطار سوداني. وكذلك أن ترفض تماماً وصول الإغاثات عبر الحدود مع دول أخرى. وإذا اضطّرت فما ينبغي أن تسمح بغير مصر مِعبرا؛ لضمان أن مصر لن تخون السودان وتقوي المليشيا.
كما ينبغي أن تكون الآلية السودانية المتعاملة مع الإغاثة قوية ومكونة من المهنيين ذوي التجارب في مفوضية العون الإنساني والاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن، وأن يجري التفتيش الدقيق لكل ما يدخل بلادنا.
ولو أن الحكومة السودانية رضخت لأي ضغوط وفتحت منافذ الإغاثات عبر عديد الدول، فسيطيل هذا أمد الحرب، ويكرر تجربة عملية شريان الحياة..
فدولة مثل أثيوبيا، يجهر رئيسها بموالاة مليشيا الدعم السريع يصعب أن يكون نزيهاً لو أن الإغاثة مرت عبر بلاده!!
كما أن الرئيس التشادي تتنازعه من جهة ضغوط دولية منحته المليارات من الدولارات لاستثمارات ، وضغوط داخليه تمثلهامراكز قوي محلية ونافذين ومجموعات اثنية تدعم التمرد وتجيش له المقاتلين من بعض المنتمين لإثنية حميدتي .
📍السفير عبد الله الأزرق
13 يوليو 2023
مصدر الخبر