السياسة السودانية

وفي العقوبات الأمريكية منافع للناس – النيلين

بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية لائحة اتهام Indictment للرئيس البشير في يوليو 2009، أعلن البشير أنه ذاهب لنيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر ذلك العام. وطلبت الخارجية السودانية تأشيرات الدخول له وللوفد المرافق، بناءً على حق الرئيس بوصفه رئيس دولة عضو؛ وإلزام اتفاقية المقر للدولة المضيفة تسهيل وصول رؤساء وأعضاء الوفود لحضور المنشط.

ظنت الولايات المتحدة أن البشير إنما كان يهدد ويراوغ ويبتز ، وأنه لن يحضر بسبب اتهام المحكمة الجنائية، الذي يطلب من الدول إلقاء القبض عليه؛ واعتماداً على ظنها ذاك منحته تأشيرة الدخول، وهي واثقة أنه لن يحضر.

لكن الحكومة السودانية رتّبت خط سير الطائرة الرئاسية إلى نيو يورك بالطرق المعتادة؛ وحجزت بالفندق الذي سيقيم فيه البشير.

عندها انزعجت الإدارة الأمريكية جداً؛ وأخذت تفكر في مخارج من الورطة. فما كان منها إلّا أن كتبت معتذرة أن رقم التأشيرة إنما كان مقصود به رئيس سيراليون، وأنّ وجود حرف (S) في بداية اسم البلدين هو سبب اللبس. وادَّعت أنها ستصدر تأشيرة أخرى للرئيس ، لكن تلك التأشيرة لم تصدر حتى اليوم.

كان الاتهام من قبل المحكمة الجنائية مجرد ذريعة وقتها. فأميركا لم تكن ستصدر تأشيرة أصلاً لِمَا راكمت من عقوبات على السودان.

وللحقيقة فإن العقوبات الأمريكية على السودان بدأت بعد مدة وجيزة عَقِب إعلان النميري تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في 1983. وتواصلت في عهد حكم الصادق والديمقراطية الاسْمِيّة بعد النميري.

ثم أدرجت أميركا السودان في لائحة الدول الراعية للإرهاب States Sponsoring Terrorism في 1993، وأعقبته بطائفة من العقوبات شملت كل شيء.

كانت أميركا قد انتبهت لحكومة البشير منذ العام 1992، وحينها نُسِبَ تقرير للخارجية الأمريكية استعرض تاريخ ما سمَّوه الشعب الطموح الذي حكم أجداده ” الفراعنة السود ” مصر ، وامتد حكمهم لفلسطين ؛ وامتدت غزواتهم إبّان الثورة المهدية إلى الحبشة وجنوب مصر. ومن ثم فيتوقع ممن أسموهم: (القادمون الجدد the New Comers) أن يقتدوا بتلك الطموحات القديمة تدفعهم روح إسلامية.

وختمت التقرير بخشيتها من أن يخرج القادمون الجُدد المارد من القُمقُم Letting the Genie out of the bottle. وكان ذلك استشرافاً موغلاً في التطرف وسوء الظن.
ثم غضبت استاندرد أويل أوف كاليفورنيا وهي إحدى الأخوات السبعة the seven sisters، ومالكة شركة شيفرون.

والأخوات السبعة هي الشركات العملاقة المسيطرة على استثمارات نفط العالم.
غضبت تلك الشركة العملاقة؛ لأن السودان جَدّ في دعوة شركات أخرى للاستثمار في نفط السودان؛ بل – وهو الأنكى – وتعاقد مع شركة صينية!!!

وحين تغضب استاندرد أويل، يغضب لغضبتها ألف عضو كونجرس ومسؤول أمريكي رفيع!!!
والحقيقة أنه بعد الحرب الباردة ونهاية الشيوعية افتقر الغرب لأيديولوجيا متماسكة coherent ideology لأمد. لكنه سرعان ما استرجع عداءً قديماً للإسلام، واتخذه بديلاً.

ولذا انضافت عوامل الخسائر الاقتصادية لشركاته الكبيرة، لتوجه يبغضه العرب ، اتضحت معالمه لقيادة السودان الجديدة وقتها ؛ فامتشق إزاءها سيوفاً كانت في أغمادها.
يعلِّمنا التاريخ أن الاستخفاف بخصم من أخطر ضروب الخطر.

وهذا ما فعله البشير مع أميركا وأفصح عنه لمدير استاندرد أويل حين جاءه محتجّاً على إدخال السودان للصينيين والماليزيين في مشروع البترول.

قال المدير للبشير: إنكم أعطيتم “بترولنا” للصينيين والماليزيين، ونحن لن نسكت عن ذلك، وحكومتنا ستشدد عليكم العقوبات.
وأغضبت تلك الجرأة البشير.. وكان معروفاً عنه أن يتميّز غيظاً إذا دِيْسَت للسودان كرامة أو انتهكت له سيادة.

قال البشير للخواجة: لجأنا للصينيين بعدما حاولناكم ورفضتم. وقد أضرَّت بنا العقوبات خاصة في مجال النقل الجوي والسكة حديد؛ وهذه أضرار ستزول مهما طال الزمن.. ولكنّا عاقبناكم عقوبة أبدية بإدخالنا للصين في أفريقيا.

والحقيقة هي أن أربعين دولة أفريقية كانت تقيم علاقات مع تايوان وتهمل الصين؛ فجعل البشير ما سماه لي: “تحرير أفريقيا من الهيمنة” أحد أهدافه.. وتحدَّث مع رؤساء تلك الدول في لقاءات على هامش اجتماعات القمم الأفريقية والأمم المتحدة أو في زيارات، وكان يخبر الصينيين فيأتون بعده، فأقامت كلها علاقات مع الصين!!! هذا ما قاله لي البشير .
كان الصينيون مُمْتنّين للبشير.

يروي مدير الشركة الصينية التي أنشأت مصفاة الجيلي أنهم استوردوا نظام تكسير خام النفط لمشتقات Cracker من أميركا كأنه مستورد لمصفاة بالصين؛ ولما نقلوه للسودان فشل المهندسون الصينيون في تركيبه؛ فبعثهم للشركة الأمريكية لتدرِّبَهم على فكِّه وتركيبة لمدة ستة شهور، وأمرهم أن يخطروه حين يجيدون المُهمة. وبعد شهرين أخبروه أنهم أتقنوا المهمة فسحبهم للصين ثم للسودان ليكملوا المشروع.
⁩] وهكذا تفانوا ثقةً أن نجاحهم في السودان سيفتح لهم أبواب أفريقيا، كما وعدهم البشير؛ وهذا ما تحقق لهم.

بعامة، حين تتوفر البدائل يضعف تأثير العقوبات. بل ربما أضرت العقوبات بأميركا نفسها، فتكون كمن يطلق النار على قدمه shoot oneself in the foot. وهذا ما حدث لأميركا حين فرضت عقوبات اقتصادية على هاييتي ضَيّقت على أهلها ، فكانت النتيجة نزوحاً جماعياً من أهل هاييتي Exodus لأميركا!!!

وخسر الاقتصاد الأمريكي مليارات الدولارات لعقوباتهم على السودان، ذهبت كلها للصين. وحين فرضت عقوبات على الباكستان لتمنعها من إتمام مشروعها النووي، فالتفتت الباكستان للاتحاد السوفيتي والصين. وكان لدى أمريكا خيارات الدبلوماسية العامة والدبلوماسية الخاصة ، لتطويع واستمالة إيران الثرية، فاختارت سبيل العداء والعقوبات فخسرت استثمارات مليارية.. ولا يزال نظام الملالي صامداً، بل إن إيران أصبحت دولة نووية وإن لم تُعلن ذلك.

دأبت أميركا على اختيار السياسات المتهورة الهوجاء؛ لأن عقلية الهيمنة الإمبراطورية، ونفسية الكاوبوي تُعميها، بل تحثها على ما يشبع غرورها؛ هذا رغم أن أدبيات العلاقات الدولية تقول:
“إن السياسة الخارجية ليست علاجاً، ذلك لأن هدفها ليست إشباع الغرور، ولكنه فعل المفيد”
“Foreign policy is not therapy, and its purpose is not to feel good but to do good”
لا تراعي أميركا أي اعتبار للإنسانية حين تفرض عقوباتها.
فقد تضررت البوسنة إنسانياً حين عاقبت أميركا صربيا.
ومات نصف مليون طفل عراقي في عهد صدام جراء العقوبات.

وتكون العقوبات ضعيفة الضرر، بل ربما تنفع، بشرط تمتع البلد المعاقب بقيادة ذات إرادة ووضوح رؤية وطهارة يد.

فقد فجّرت الصين قنبلتها النووية وأميركا لا تعترف حتى بوجودها؛ وفعلت كوريا الشمالية مثل ذلك.

ولّت أميركا الدّبُر هاربة من أفغانستان. ثم حجبت عن طالبان 9 مليار دولار كانت مودعة في مصارفها. ورغم ذلك كتب صحفيون زاروا كابول عن نظافتها وانحسار الجريمة واختفاء زراعة الأفيون ، وانحسار الفساد ، وكتبوا عن تحسُّن في الاقتصاد رغم المعاناة.
وحدثني شيوخ زاروها أن كابول أنظف من كثير من العواصم العربية .

وقالت بلومبيرج في 25 سبتمبر الماضي :
Taliban Controls The World’s Best Performing Currency This Quarter
“طالبان تسيطر على أفضل عملة أداءً في العالم في ربع العام هذا”.. مقتبسةً تقريراً للبنك الدولي.

وبالمثل حقق السودان تحت الحصار “والكيزان الحرامية” من مشروعات البنية التحتية وإنشاء المرافق الحيوية ما لم يحققه وعلاقته بأميركا في أحسن أحوالها. وحقق في تلك الظروف معدلات نمو تراوحت بين 6% و10% في بعض أعوام.

أما ما حاق به تحت نير الزعانف المُتّبعة للــ Big Brother, فيصدني الحياء والحُزْن أن أفيض فيه.

📍السفير عبد الله الأزرق


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى