السياسة السودانية

ناجي شريف: مايو.. الطاحنية.. الملاريا.. من الذاكرة

[ad_1]

كنت وقتها قد شارفت السابعة من العمر حينما حدث انقلاب مايو، وازدحمت شاشات التلفاز الأسود والأبيض بتمجيد مايو وأبطالها..يبدو أن المداهنة هي الأخرى تعدُّ من أقدم المهن التي عرفتها الإنسانية. مايو اتولد مايو اتولد.. أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريق، يا نشيدا في دمي يحيا ويجري في عروقي.. أذن الفجر الذي شق الدياجي في مسيري، ونشيد النصر قد لاح فسيري.. فسيري في الطريق.. كنت وحيدا لوالدي حينما انتقلنا من الجريف غرب إلى منزل مستأجر بالثورة الحارة الرابعة في الناحية الواقعة شرق مستشفى البلك وسينما الرابعة، لم تكن شقيقتي قد ولدت بعد، وكان عبد الناصر لا زال على قيد الحياة في اعقاب حرب النكسة. كان إلى الشرق من الدار التي أقمنا فيها كنتين العم نور الدائم حيث توجد كل كنوز الدنيا..

كان علي أن أتأكد أن هناك تحت الوسادة في كل ليلة أخلد فيها للنوم قطعة نقود نحاسية كانت تسمى التعريفة، وهي ما يعادل خمس مليمات في ذلك الزمان (المليم هو واحد على الألف من الجنيه). كنت أنام وكلي انتظار ونفاذ صبر لقدوم الصباح.. كيما أنهض السادسة صباحا وأنا اقبض على قطعة النقود وأتسلل عبر الباب الخارجي حتى الكنتين، كيما أحصل من العم نور الدائم على شطيرة (ساندويتش) محشوة بالطاحنية. بدا أنه قد فاتني أن أذكر مايفيد بأنني قد مررت بصنبور المياه لغسل الوجه او للسواك، ربما لم يكن ذلك مما تُشدّ له الرحال في ذلك الزمان، سيٌما والوقت صباح باكر الرقابة فيه غائبة..

كان قرص الخبزة الدائري يعادل أربع شطائر مُشبِعة، اذ كانت الخبزة تقطّع على اربعة أرباع مثلثية متماثلة.. كان الواحد منها محشوا بالطاحنية يعادل في قيمته ما احمله من المال. كان وأنا التهمه في شره، كافيا ليشعرني بأني أمتلك نصف ما بالعالم من السعادة والدعة..
أعود ادراجي للدار ووالداي لا يزالان يغطان في نوم عميق.. ظل ذلك يحدث لعامين كاملين حتى ذلك الصباح الذي إضطربت فيه أمعائي إثر التهامي لشطيرة الطاحنية الأخيرة التي لزمت بعدها الفراش مريضا بالملاريا.. كان ذلك آخر عهد لي مع طحنية نور الدائم.. الملاريا جعلتني اتحاشى رؤية كلما اختلط مذاقه مع ذكراها، الطاحنية.. حلاوة كريكاب ذات الغلاف البني المخطط بخطوط بيضاء.. بالاضافة لمشروب النشأ، أو عصير الذرة..

ما لا انساه أن الطاحنية في ذلك الزمان كانت تتخذ هيئة خيوط متماسكة أشبه ما تكون بالجبنة المضفرة،وكان لها طعم لاذع لذيذ يلدغك على دفعات في سقف الحلق، كانت تأتي للكناتين في صفائح معدنية لامعة.. كما تباع للأسر منها عبوات في علب معدنية دائرية، مصنوعة من الصفيح الرخيص بلونه المعدني عبوة مائتي جرام.. لقد كان الطعم لا يقاوم، وربما كان هو السبب وراء ذلك الإفتتان الأقرب للإدمان الذي أصابني، بتلك الوجبة الصباحية الساحرة.
طيب الله ذكر أهل الحارة الرابعة بالثورة، ورحم الله العم نور الدائم وأسبل عليه من النعم ما يرضيه حيا كان أو كان ميتا..

ناجي شريف

[ad_2]
مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى