السياسة السودانية

منى أبو زيد تكتب : آسف اعتذر عن ذلك..!

“فإن أَكُ مظلوماً فعبد ظلمته وإن تَكُ ذا عُتبى فمثلك يَعتب”.. النابغة الذبياني..!

يحفظ التاريخ الحديث لكوريا الجنوبية اندلاع مظاهرات صاخبة دامت لأسابيع، احتجاجاً على مُوافقة رئيس الدولة على صفقة استيراد لحوم من الولايات المتحدة الأمريكية، وتمخّضت عن اعتذار حكومي شديد اللهجة “الحكومة وانا متأسفون بصدق على تجاهل المخاوف على الصحة العامة، كان قصدنا شريفاً، ضمان سلاسة التوصل إلى اتفاق بشأن التجارة الحرة، من أجل مصلحة الاقتصاد الوطني”..!

“كنت على عجلة من أمري بعد انتخابي وظننت أنني لم أكن لأنجح ما لم يطرأ تغييرٌ وإصلاحٌ في غضون عام من تولي المنصب، كنت أريد اغتنام تلك الفُرصة الذهبية” للإسراع بإنجاز اتفاق للتجارة الحرة مع واشنطن”، إلى آخر تلك الاعتذارات السياسية لحاكم البلاد – حينها – والتي شابهت اعتذاريات النابغة في حرارتها، خوفاً وطمعاً..!

اعتذرت الحكومة ثم حذّرت المتظاهرين – بِلُطْفٍ – من احتمال ضياع فرصة تصديق هذا الاتفاق خلال العام، في حال استمرار الرفض الشعبي لأكل اللحوم الأمريكية. ثم طالبت “الحكومة هي التي طالبت شعبها” بإعادة المُفاوضات بشأن جدوى الصّفقة كاملةً وفي أسرع وقت مُمكن..!

وهو كما ترى نهج ديمقراطي و”تصوُّف” سياسيٌّ يختلف كثيراً عن النمطي والسائد في صُور المُمارسة السِّياسيَّة العرب إسلامية، رغم التأصيل الرائع – الذي يسود مُعظم الأضابير – لثقافة الاعتذار السياسي في الإسلام. وكلما شاهدنا مسؤولاً أو سياسياً – في أي بقعة من بقاع العالم – يعتذر عن قول أو فعل، “جاشت صدورنا” ودعونا الله ألا يقبض أرواحنا قبل أن نرى بأم أعيننا – وأن نسمع بآذاننا – مسؤولاً أو سياسياً على سدة الحكم وهو يعتذر..!

المهم أن يعتذر الحاكم بشجاعة عن فعل صدر عنه أو قول بَدَرَ منه ساعة سُوء تقييم أو نقص تقدير، أو غداة فكرة أثبتت الأيام خطأ طرحها في واحدة من لحظات نقص تمام البشر الخطائين. أن تسمع جملة “آسف كنت على خطأ” على لسان أحد الحكام في هذا البلد، قبل أن تُوارى الثرى. عوضاً عن كرات الثلج التي تزيدها المكابرة تفاقماً إلى أن تخرج عن حدود السيطرة، فتقع المحاذير – في كل مرة – بذات القدر والكيفية والثقة المُدهشة بمقدرات هذا الشعب “الطيبان” على التجاوز والغفران..!

لا يعتذر المسؤول في العالم الأول لأنّه ملاك، بل لأنّه يعلم أنّ الاعتذار هو أقصر الطرق للخروج من المآزق الأخلاقية، وللحفاظ على صورة ومكانة رسمية في نفوس شعبية. وهو – كما ترى – سلوك أقرب إلى الذكاء منه إلى النزاهة. ولعل أكثر مواقف الخليفة عمر بن الخطاب شيوعاً اعترافه بالخطأ نزولاً عند رأي امرأة “أصابت امرأة، ورجل أخطأ”. وإدراكاً منه لمثل هذا المعنى الرفيع قَبَّل عمر الفاروق نفسه رأس واحد من رعيته تقديراً له على تقبيل رأس قيصر الروم فداءً لإخوانه في الإسلام..!

أضابير تاريخ صدر الإسلام تقول إن الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي هو الذي أنقذ جميع أسرى المسلمين لدى جيوش الروم من الموت “قلياً” في قدور الزيت المغلي، عندما وافق على أن يتنازل عن كبريائه – التي أثارت حفيظة ملوك الروم – بأن يُقبِّل رأس القيصر..!

نُبل الفكرة ومغزاها العميق يكمن في مبدأ تحرُّر قرارات القائد “السياسي” من شوائب الاعتبارات الشخصية، نزولاً عند مصلحة الرعية “الشعب”. الأمر الذي يسمو بالقرار السياسي ويثمِّن قيمته عالياً، حتى وإن كان مضمونه اعتذاراً عن رفع الكلفة الاقتصادية أو رفع الحياء السياسي أو رفع ضغط الشعب..!

صحيفة الصيحة

ehtimamna


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى