منى أبوزيد تكتب : في فضيلة الإتقان..!
“النجاح الكامل يكمن في الحرص على تفاصيل الأشياء”.. الكاتبة..!
(1)
استغرق الأديب الفرنسي العظيم جوستاف فلوبير، أربعة أعوام كاملة – وقيل خمسة – في كتابة روايته الخالدة “مدام بوفاري”. كان يقضي النهار بأكمله ساهماً مستغرقاً في حيرته بشأن كلمة واحدة صغيرة هل يضعها أم يقوم بحذفها. وقد تمخض حرصه الشديد – على تلك التفاصيل الصغيرة – عن عمل أدبي رفيع، كان اللبنة الأولى لمذهب وفكر وفلسفة جديدة ومدرسة أدبية قائمة بذاتها، فقد اعتبر النقاد فلوبير الأب الشرعي للواقعية في الأدب الفرنسي، واشتقوا من عنوان روايته “مدام بوفاري” اسماً لمذهب من مذاهب الكتابة الواقعية هو “البوفارية”. والسبب الرئيسي في نجاح الرواية كان حرص المؤلف على الالتزام بفضيلة الإتقان..!
(2)
قبل سنوات كنا – ذات مناسبة إعلامية – بانتظار أن يحكي البروف “علي شمو” قصة التلفزيون بأستوديو الأزهري بالإذاعة، عندما تواترت على الشاشة أمامنا مقاطع نادرة لبرامج الأمس الوسيمة. يومها أكدنا بالإجماع على تأثير الاهتمام بالتفاصيل في صناعة الصورة المرئية قبل عقود خلت قبل أن نجمع – أيضاً – على ضياع فضيلة الإتقان من ذات الصناعة اليوم. وعندما انعطف حديث البروف – بعدها – إلى وقائع محو التسجيلات النادرة من بعض الشرائط – بقرارات عشوائية – وتسجيل مواد أقل أهمية عليها، أجمعنا – كرة أخرى – على أن “يا هو دا السودان”. إنها لعنة العشوائية التي تمسك بتلابيب حضورنا السياسي والاقتصادي والإعلامي. نحن في هذا السودان مصابون بداء عضال اسمه إهمال التفاصيل، نحن الشعب الذي يعبأ بالمتون بينما تضجره الحواشي والمنمنمات والرتوش. وما الصورة الإعلامية إن لم تكن متناً تحرسه الحواشي، لأجل هذا – بالضبط – لا نزال نرزح تحت الوصائية الإعلامية الأجنبية، بعد أن فشل إعلامنا في تغيير مفاهيم العالم المغلوطة حول طبيعة قضايانا المحلية..!
(3)
صحفية فرنسية اسمها أود لانسلان، نشيطة، ملحاحة، ومولعة بشأن التفاصيل، أثارت أكبر زوبعة ثقافية شهدتها فرنسا – قبل فترة – عندما كشفت زيف عرش الفيلسوف المُدلّل برنار هنري ليفي، آلهة الفكر الفرنسي بحسب إعلامه المتعمد. الرجل أسقطه إهمال التفاصيل “استشهد بسطور من كتاب لا يعرف مؤلفه، ونسب حديث كاتب إلى آخر”، والصحافة الفرنسية نجحت لأنها التزمت لفضيلة الإتقان. بينما، وعلى طريقة التفاصيل الغائبة في إعلامنا المرئي ذاتها تقرأ كل يوم في صحفنا المحلية عناوين مثيرة عن “القضية الساخنة الفلانية والمسكوت عنه العلاني” فتكاد تقتحم السطور وأنت تمني النفس بتفاصيل وخبايا منتزعة من بين براثن الدهشة ومثبتة رغم أنف العادي والمكرور، ولكن سرعان ما تحبطك المعالجات الكسولة إياها. تلك الروح الخاملة التي تلازم السواد الأعظم من التحقيقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحاول أن تقنعك بكشف المستور في صحفنا المحلية، أحداث هلامية، عبارات خالية من لهاث المشقة ولزوجة العرق، ومحاور غير عابئة يسهل تدبيجها خلف مكتب صغير مع كوب شاي. لذا قبل السؤال عن العلاقة الطردية بين كم المقابل وكيف الإتقان المهني لا بد من إزهاق روح تلك العلاقة العكسية الأزلية بين “حجم” الحرية – في مؤسساتنا الإعلامية – و”عدد” أكواب الشاي..!
صحيفة الصيحة
مصدر الخبر