منى أبوزيد تكتب : “حبك لما جاني” ..!
“الفن تركيز للطبيعة”.. أونوريه دي بلزاك..!
أغاني “الراب” الأمريكية ما هي إلا قصص تحكي – بنبرات راقصة – عن عالم السرقة وترويج المخدرات وحياة العُنف التي تعيشها مجتمعات السود في أمريكا، وهي تقول الكثير عن آلام وأحلام فئة هي بكل المقاييس العالمية تعج بالمُجرمين و”كتالين الكتلة”. لكن السر في احتفاء المُجتمعات الأخرى بها هو أنها تعوِّل في نجاحها على الصدق الفني، فأفكارها تتكئ على حقيقة المجتمع الأسود وإن كانت تلك الحقيقة تفتقر إلى قيم الخير والجمال..!
أما في الأغاني الهندية فلا شيءٌ غير المثالية والنقاء المطلق في الحب، لأنّ الاحتفاء بالمعاني الروحانية شيءٌ أصيلٌ في ثقافة المجتمع الهندي، فلا مفردات ذات دلالات حسيّة كما في أغاني الراب، بل مفردات رومانسية المعنى، وهذا أيضاً صدق فني من نوع آخر..!
والحقيقة أن الأغاني ما هي إلا صورة معبِّرة وبالألوان عن حال الشعوب، وأمّا لماذا فلأنها – ببساطة – لسان هذا الحال. فالأغاني وإن أوغلت في حياديتها وتجرُّدها من الانتماء إلى مكان أو هوية ثقافية أو اجتماعية بعينها لا بُدَّ أن تحوي مقطعاً أو جملة تكون بمثابة “لقطة” أو لمحة من لمحات التفاصيل الاجتماعية للشعب الذي ينتمي إليه كاتبها وطبائعه ومسلماته ومعتقداته، بل وعيوبه أيضاً..!
والمثال الذي يعكس موضوعية هذه الفكرة أنه لا توجد كلمة احتلت مكان الصدارة في الأغاني السودانية مثل مفردات على غرار “تعال” و”جاني” ومشتقاتهما وشبيهاتهما من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى. فالشيء الظاهر الوحيد الذي نتّفق عليه كشعب مترامي الأطراف والأعراق في شؤون العلاقات العاطفية أن السوداني بمختلف انتماءاته “محب كسلان” يميل إلى انتظار مبادرات الطرف الآخر تحت شجرة السلبية الوارفة التي يختار البقاء تحت ظلها وهو يتغنّى باللهفة والأشواق عِوضاً عن اللجوء إلى الحلول العملية المُرهقة..!
لذا فوصال المحب عندنا ما هو إلا ردة فعل وعلاقته بالعشق والهوى علاقة صدفة لا أكثر، لذلك تتردّد الكلمات التي تحمل معنى الانتظار في الأغنيات التي نطرب لها ونترنّم بألحانها لأنها صورة “مُلحَّنة” لما يمكن أن تبلغه عزائمنا المتواضعة في “قصص الريدة”..!
وبينما يقول المصريون “خد” عندما ينادي أحدهم الآخر، وتتردد هذه المفردة كثيراً في أغانيهم، “خد قلبي وروحي”.. “خد عينيَّا”.. “بتاخدني ليك”.. نقول نحن “تعال” وتفرض هذه الكلمة وجودها باطمئنان في كثير من أغانينا “حقيبة.. جيل رواد.. شباب.. أغاني البنات ..إلخ”.. لا فرق..!
فمن “تعال فرح ليالينا.. تعال قبل السنين تجري”.. و”حبك لما جاني.. حسيت بيهو جوة.. يتفقّد حناني”.. إلى “حبيبي تعال، تعال نتلم”.. و”تعال ليا وتعال لي” ..إلخ.. فإن جاء المحبوب فخير وبركة وإن لم يجئ فما أمتع النواح وما أعذب البكاء تحت شجرة السلبية الوارفة إياها، ولا ضير من “الكشكرة” مرة مرة للمحبوب بكلمة “تعال” الخاملة التي تشبه “عزومة المراكبية”. والغريب – بعد كل هذا – إنه يأتي..!
صحيفة الصيحة
مصدر الخبر