ملحِّن يصوِّر القصيدة درامياً بشكل مدهش: محمد الأمين .. التوافق ما بين النص واللحن
(1)
تجدني أتوقف كثيراً في تجربة الموسيقار محمد الأمين، فهي تستحق التمعُّن والقراءة بهدؤ بعيداً عن الانفعالية والإعجاب الأعمى الذي يجعل الرؤية -أحياناً- وكأنها من خلف زجاج مبتل..وتأثير محمد الأمين، على الغناء والموسيقى في السودان تأثير واضح وبائن..والنظر لأغنية مثل بتتعلم من الأيام كافٍ ليؤكد الأدوار الغير تقليدية التي أسداها للغناء، فإذا نظرنا إلى تتبع العلاقة النغمية مع النص الشعري نجد أن محمد الأمين لديه تفكيراته الخاصة في النظرة التجديدية الشاملة والعميقة للعمل الفني الذي تتكاثر وتنمو تفاصيله الداخلية التي تتجمع في النهاية لتكون العمل الموسيقي ذي الرؤية المعاصرة..فهو يلائم ما بين اللفظ والمعنى المراد توصيله من خلال الموسيقى،وهذا يؤكد قدراته التعبيرية عن فكرته الموسيقية أو رؤية كاتب النص الشعري ..فاذا توقفنا مثلاً في أغنية “حروف إسمك” التي كتبها الشاعر هاشم صديق:
أدق صدري وأقيف وسط البلد
وأهتف بريدك يا صباح عمري
(2)
ويلاحظ في ذلك المقطع أن هناك عاطفة جياشة احتشد بها فكان لازماً على المؤلف الموسيقي استشعار مقاصد الشاعر، وهذا ما فعله محمد الأمين بالضبط..حيث خلق التوافق والتناسق ما بين أبعاد الجملة الشعرية والجملة الموسيقية..حيث نلاحظ أن محمد الأمين لحظة وصوله لهذا المقطع تتحوَّل الأغنية إلى شكل هتافي واضح وذلك عن طريق المد لكلمة (بريدك) حيث يقولها بهذا الشكل (بريييييييدك) لأن الكلمة أصلاً هي الفكرة الأساسية التي أراد شاعرها أن تصل للشخص المخاطب.
(3)
الاهتمام بالجانب التعبيري عند محمد الأمين يتضح في كل ثنايا مؤلفاته الموسيقية..فهو دائماً يسعى للسيطرة على النص ليس من خلال تحجيم محتوياته الشعورية والفكرية ولكن من خلال التناسق في التعبيرية مع الموسيقي وهذا ما يمنح العمل الموسيقي قوة تمشي في ذات اتجاهات النص الشعري..لذلك ظل محمد الأمين هو الأكثر قدرة على التعبير عن مشاعره من خلال المؤلف الموسيقى ويعبِّر عن ذلك ببلاغة متناهية وتخطيط داخلي عميق..وهذه السمات ظهرت باكراً عنده، ففي أغنية (الجريدة) التي كتبها الشاعر فضل الله محمد في الستينيات، كانت الأغنية (ظاهرة) تفكيرية جديدة في كتابة الشعر وخروج عن المألوف والأنماط التي كانت سائدة في ذلك الأوان.حيث التزمت القصيدة بفكرتها من بدايتها حتى نهايتها وتسلسل أفكارها بمنطقية للتعبير عن المحتوى..وكان الشكل الموازي للقصيدة هو طريقة التعبير عنها موسيقياً وتوظيف التأليف لخدمة الفكرة..وهذا يتضح في المقطع الأخير للأغنية:
كنت عايز أقول.. أقول.. أقول
أقول بحبك..
يا وحيدة..
بقرأ في عيونك حياتي
وإنتي مشغولة بالجريدة..
(4)
هذا المقطع بغير غنائيته الدافقة نجده يحتشد بالحركة والحياة حيث انتقال الفكرة من حالتها كسلوك ساكن إلى التعبير الحركي المباشر، لذلك كانت الدراما حاضرة والسيناريو الحواري موجود وطاغ على الأبيات الأخيرة..ونجد أن محمد الأمين نقل تلك الدراما ولحظات التردد إلى شكل مؤلف موسيقي واضح المعالم، فهو حينما يغني عايز أقول ..أقول ..أقول، ينقل إليك كمستمع إحساس تلك اللحظة وكأنك تعيشها مشهداً أمامك..لذلك ـ في تقديري ـ محمد الأمين هو من أسس فعلياً لفن الرؤية عبر الأذن ـ وهذا المنحى هو ليس وليد اليوم، فهو نتاج تجريبات كثيرة كان يلجأ إليها حتى وصل إلى مستوى عالٍ من الجودة في القدرة على التعبير عن مكنونات النص الشعري بالتوافق مع الجملة الموسيقية.
(5)
طيلة الأزمان الماضية ظل محمد الأمين يفكِّر ويقدِّم الحلول لموسيقى حديثة ومعاصرة فيها الكثير من المواكبة لما يدور في العالم..ولعله يملك رؤيته الخاصة للطريقة التي يمكن أن تخرج بها الأغنية السودانية حتى تلامس جغرافيا أخرى يمكن أن نعكس فيها مزاج هذه الأمة في مختلف الأوقات..وأغنيات محمد الأمين الجديدة المتنوعة والمتطورة في طريقة تأليفها الموسيقى هي امتدادت لجهوده في الخروج من نفق العادية إلى فضاء التجديد والحداثة..وذلك باشتمالها على أنماط من التراكيب اللحنية والإيقاعية..وهو في جزئية الحداثة لايغفل التراث والموروث الشعبي وكل الأشكال القديمة ونجده دائماً ما يستلهم التراث ويستصحبه في تأليفه لموسيقاه..ونجد أغنيات كثيرة محتشدة بمثل ذلك المنحي مثل أغنية (زورق الألحان):
عيونك ديار ساحاتها حنية..
رسالة من الروح أنشودة صوفية..
بيتين من الدوبيت في ليلة صيفية..
وكان شكل المؤلف الموسيقى لهذا المقطع يجسد موسيقى الدوبيت التي إلفناها..حيث تحس حين سماعك لها وكانك تتجوَّل في سهوب البطانة أو كأنك جالس في خيمة الحردلو أو ود ضحوية..حيث توافق النص الشعري مع صولو آلة الكمان التي تنساب بحنية لتعبر تعبيراً دافقاً وحاشداً لكل تفاصيل النص..وفي أغنية (مراكب الشوق) التي كتبها الشاعر الراحل محمد الحسن دكتور..نجد أن الشاعر قدَّم توصيفاً بديعاً لموروث سوداني لرقيص العروس حيث يقول:
وأتخيلك وكتين أشوف أماً
تهبهب لعروس صندل زفاف وترقصا..
وأسرح بعيد فوق شعرها
ذي مركباً نشوان مشى.
فوق موج وشلالات مشى.
(6)
تجلت عبقرية محمد الأمين وقدرته التعبيرية عن النص وتفكيك أبعادها المراد إيصالها..حيث نقل أجواء رقيص العروس بكل تفاصيلها للموسيقى مستلهماً أغنية مهيرة القديمة:
يا مهيرة عقد الجلاد الليلة
عريسك غلبو الثبات..
في هذه الجزئية لم يغن محمد الأمين النص الكلامي وإنما اجتزأ النص اللحني..حيث أدخل معالجة موسيقية أصبحت وكأنها تلك الأجواء السودانية الاحتفالية في الأفراح..وهذا الشكل المقارب يتضح -أيضاً- في أغنية (همس الشوق):
وأحبك يا صباح العيد
ويا فرح العريس السار..
وأحسك في سماء الأزمان شمس
بتضوي للمشوار..
وفي هذه الجزئية نجده أدخل صوت الزغرودة وذلك من خلال آلة (الكي بورد) التي تم توظيفها على نسق الصوت البشري الذي يتعالى في تلك اللحظات..والتأمل في تجربة محمد الأمين لا ينقطع مطلقاً فهو شكل ممتد بطول وجمال غنائيتة التي ظلت كل يوم تقدِّم لوناً مغايراً غير معهود.
كتب: سراج الدين مصطفى
صحيفة الصيحة
مصدر الخبر