مصابات الناسور .. نساء وسط الحرب والفقر
[ad_1]
الخرطوم 1 أغسطس 2023- “الحرب أقوى وأسرع من عمليتي المؤجلة.. وأنا أعرف الحروب جيداً ” بهذه العبارة بدأت “ف”حديثها تغالب الدموع بصوت متهدج، فهي مصابة بالناسور منذ 3 سنوات وتسكن بمحلية غبيش في ولاية غرب كردفان، تمكنت بعد مرور هذه السنوات من الوصول للخرطوم لإجراء العملية، لكن سبقتها نار الحرب في الوصول للمستشفى، ولم تتمكن حتى من مقابلة الطبيب بسبب سوء الأوضاع الأمنية.
لم تكن “ف” الوحيدة التي تعيش هذا الوضع، فالعشرات غيرها في انتظار إجراء العملية، أو يتماثلن للشفاء بعد إجرائها.
ومنذ 15 أبريل الماضي تاريخ اندلاع حرب الجيش والدعم السريع في الخرطوم ومدن أخرى، لم تتمكن المصابات بالناسور من الوصول لمستشفى الخرطوم وكذلك الكوادر الطبية كما واجه الموجودين، بالمستشفى مشاكل في الخروج منه وبعد عدة أيام لحق بالمستشفيات التي غادرت محطة الخدمة جراء القصف والاشتباكات المستمرة في محيطها.
عزلة
داخل غرفة في الجزء الخلفي من المنزل -بمنطقة بالقرب من أرض الحجر-محلية خشم القربة ولاية كسلا- بها سرير صغير تعيش”ل” التي تبلغ من العمر”20″عاماً وحدها وهي أم لطفل تأتيها أختها بالطعام ولا يزورها أحد، ولم تر زوجها منذ 5 سنوات هي تاريخ إصابتها ولا تعلم عنه شيء، وتقول “ل” “زارتني خلال الأيام الأولى للولادة وبعد وفاة طفلي إحدى الجارات وأخبرتني بأن حل مشكلتي هذه عند الشيخ وان هذا “عمل” لإبعاد زوجي عني.
أما “م” من جنوب دارفور والتي تبلغ من العمر 17عاما فأخرج الطبيب منها قطعة بلاستيكية حاولت أن تغلق بها الثقب الذي سببه الناسور، تحكي معاناتها حيث استمرت ولادتها لخمسة أيام في المنزل بمساعدة قابلة أتت من قرية مجاورة وتأخرت في الوصول إليها بسبب الطريق وفقدت طفلها بعد الوصول للمستشفى واستمرت معاناتها مع الناسور حتى إجراء العملية قبل أسابيع وجربت خلال تلك الفترة عدة وصفات بلدية وأعشاب.
عسر الولادة
والناسور الولادي هو فتحة بين المهبل والمثانة أو بين المهبل والمستقيم، وهو أحد مضاعفات عسر الولادة، وينتشر في أفريقيا وشرق آسيا ومعظم الدول التي بها فقر وولادات متكررة، ويحدث في بعض الحالات بسبب حدوث خلل أثناء الولادة.
مئات الحالات مُتعايشات مع الناسور منذ سنوات ويعشن في عزلة بعد أن تم إقصائهن من أسرهن وابتعاد الأزواج عنهن أو الطلاق ويواجهن الاكتئاب وعدد من الأمراض والاضطرابات النفسية الأخرى ولم يصلن المستشفى أو الوحدة الصحية حتى الآن، وتفصلهن مسافات طويلة وتكلفة مادية تفوق مقدراتهن على الوصول إلى المستشفيات القليلة التي توجد بها عنابر أوغرف للناسور، حيث لا يتجاوز عدد هذه المستشفيات 5 أجزاء صغيرة من مستشفيات في كل السودان بعضها مخيمات تُقام مرة واحدة في كل عام.
والمساحات الثابتة المخصصة للناسور والتي تعمل بصورة مستمرة هي عنبر الناسور بمستشفى الخرطوم ومركز نيالا بجنوب دارفور، وينتشر بصورة أكبر في ولايات دارفور وكردفان خاصة جنوب دارفور،وفي شرق السودان بنسبة أقل من ولايات غرب السودان بحسب إفادات الأطباء.
الفقر والجهل
ويُعد الجهل والفقر وضعف الخدمات عوامل أساسية تؤدي للإصابة بناسور الولادة، حيث ينتشر في المناطق الفقيرة والتي تعاني من ضعف الخدمات والأوضاع الأمنية غير المستقرة، ويلعب زواج الطفلات دوراً كبيراً في الإصابة به كما يمكن ان يساهم الختان أيضاَ في ذلك، وتعد المُصابات بسوء التغذية أكثر عرضة للإصابة.
وتحدث الإصابة به في تسع من كل عشر ولادات لفتيات أو طفلات تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عامًا بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، ويُساهم أيضاً عدم المساواة بين الجنسين في العديد من المجتمعات المحلية والعنف المبني على النوع الاجتماعي وعدم تمتع المرأة بالاستقلال أو السلطة التي تتيح لها أن تقرر متى تبدأ إنجاب الأطفال أو مكان الولادة في الإصابة وذلك بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبحسب دراسة أجرتها منظمات مجتمع مدني قبل سنوات على عدد من المصابات في ولاية كسلا فإن كل المصابات تزوجن وهن طفلات و78% منهن تزوجن دون سن الرابعة عشر، كما يؤدي العنف الجنسي والاغتصاب خاصة للطفلات لاسيما في مناطق النزاعات للإصابة بالناسور وغالبية المُصابات تستمر الولادة لديهن 3 أيام وأكثر بحسب تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان.
كما أشارت تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى إصابة نحو 500 ألف امرأة وبنت في أكثر من 55 بلد في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وآسيا والمحيط الهادئ، والدول العربية، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي يعانين من الناسور، بجانب آلاف الحالات الجديدة التي تحدث سنوياً، ووفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان يتسبب الناسور في حدوث 8%من وفيات الأمهات، وفي حوالي 90% من الحالات أو أكثر يولد الطفل ميت، ومن أسبابه أيضاً إضافة لعسر الولادة بعض الأخطاء التي تحدث أثناء العمليات المرتبطة بالنساء والولادة مثل عمليات الولادة القيصرية.
وبحسب دراسة أجريت في العام2012 على عينة من المصابات بالناسور البولي والموجودات بمركز د. أبو للناسور البولي بمستشفى الخرطوم التعليمي، فإن مريضات الناسور يُعانين من درجة شديدة من الاكتئاب، وتوجد فروق ذات دلالة إحصائية في متوسط درجات الإصابة بالاكتئاب لدى مريضات الناسور البولي تبعاً لمستوى الدخل الشهري. ومما يجدر ذكره أن مركز أبو للناسور البولي -وقد كان المركز الوحيد في السودان المخصص للناسور بصورة متكاملة حيث يستقبل الحالات في كل الأوقات ويدرب الكوادر الطبية التي تعمل في ولايات ومناطق مختلفة ينتشر فيها المرض- تم هدمه في العام 2015 بقرار من وزير الصحة ولاية الخرطوم حينها مآمون حميدة.
مشاكل الطرق
” كانت تُعاني من حصوة كبيرة في المثانة وأُجريت لها عملية استخرجت الحصوة بنجاح وأجريت عملية الناسور ونجحت واستقر وضعها وهي من منطقة بالقرب من “ود الحليو” بولاية القضارف فتحركت مع الحالات القادمة من هناك لتعود إلى منزلها وفي الطريق وقع حادث للحافلة وتوفت هذه الحالة، هذه تفاصيل إحدى الحالات حكاها بحزن د.حاتم عبداللطيف أخصائي النساء والتوليد ومدير الصحة الإنجابية بكسلا مؤكداً ان المسافة هي إحدى المعوقات فالمريضات يأتين من مناطق بعيدة جداً، وواصل قائلاً مازلنا في حاجة لمزيد من الرعاية الصحية ونحتاج مزيد من المراكز، ومن التحديات ان الكوادر التي تعمل على هذه الحالات قليلة وبعضهم هاجر والكوادر الطبية عادة لا ترغب فيه بسبب الجانب المادي.
والناسور يمكن ان ينتهي بإنتهاء عسر الولادة والممارسة السليمة، وواصل قائلاً قابلت إحدى الحالات خلال المخيم الأخير حدث لها خلل أثناء الولادة أدى لحدوث ناسور شرجي رغم ان الولادة تمت في مستشفى ونحتاج في هذه الحالات لتدريب الكوادر التي تعمل أثناء الولادة وقد بدأنا العمل على ذلك.
سوء التغذية
وواصل قائلاً في نوفمبر الماضي أقمنا المخيم رقم”8″ وهو يستهدف الولايات الشرقية، وينتشر في غرب وشرق السودان، والمصابات بسوء التغذية هن الأكثر عرضة للإصابة، ومركز الناسور في كسلا عبارة عن 6غرف بناها صندوق الأمم المتحدة للسكان في المستشفى السعودي لأمراض النساء والتوليد وهو التابع لوزارة الصحة ولإدارة الصحة الإنجابية، وفي المخيم”8″ أضاف لنا المستشفى عنبر آخر لأن العدد كان كبير.
وكان المخيم يُقام في أغسطس أو سبتمبر سنويا لكن بالنسبة للمخيم الأخير في نوفمبر 2022 يقول د. حاتم بسبب الخريف عندما تواصلنا مع الحالات المسجلة معظمها اعتذرت فأجلنا المخيم لشهر نوفمبر وفي العام السابق لم يُقام بسبب الاضطرابات في البلاد، ويواصل “قابلنا 28مريضة وأجرينا عمليات لعدد 22 فشلت منها8 ومن بين الحالات كانت هناك7 أُجريت لهن عمليات سابقاً في دول أخرى منها الصومال وايرتريا”.
وبحسب حديث د. حاتم لـ”سودان تربيون” فإن نسبة الفشل في عمليات الناسور كبيرة، وأضاف أتت الحالات إلى المخيم من أطراف القضارف وبورتسودان وكسلا وكل الولايات الشرقية، وبالنسبة للحالات التي تـأتي في وقت غير وقت المخيم يتم التشخيص ونتواصل معها مرة أخرى قبل بدء المخيم، وبعد العملية نترك المريضة في المستشفى لمدة شهر “28يوماً”، وهو مدعوم بالكامل من صندوق الأمم المتحدة للسكان مشمولا برسوم ترحيل الحالات.
ويؤكد د. حاتم ان معظم الحالات تأتي بعد سنوات من الإصابة، وتتمثل مشكلة طول الفترة الزمنية في الآثار الاجتماعية والنفسية حيث تكمن مشكلة الناسور في أنه يجعل المريضة منبوذة، وإذا لم تعزل نفسها وحدها وتنطوي تنبذها الأسرة حيث تُخصص لها غرفة طرفية، أو يُخصص لها سرير في “قطية” بطرف المنزل لا يدخلها أحد ويتم فقط إعطائها الطعام والشراب، لذلك يعمل معنا في المخيم أخصائيين نفسيين.
اكتئاب
وتقول د.مي الأمين النجومي استشارية العلاج النفسي بمستشفى السلاح الطبي لسودان تربيون ان حدوث الناسور في جزء حساس وخاص من جسم المرأة يجعل الأثر النفسي كبير والعواقب صعبة ،وتأخر العلاج يُفاقم المشكلة، حيث يزيد استمرار الأعراض من الضغط النفسي على المرأة والمعاناة والألم الذي تمر به، فيبتعد عنها من حولها ويترتب على ذلك آثار نفسية أولها العزلة فتتحول الى شخصية انطوائية لا ترغب في التواصل مع المجتمع وتعيش في حالة خجل واشمئزاز وتدخل في حالة حزن وتفقد الرغبة في الحياة، وهذه كلها من أعراض الاكتئاب أي ان الآثار الرئيسية التي تترتب على الناسور تتمثل في الاكتئاب، ولابد من تدخلات نفسية وإعطاء المصابة إرشادات معينة منها إرشادات سلوكية لتمر مرحلة العلاج بسلام وتندمج في المجتمع، وأهم نوع من الإرشاد تحتاجه المصابة هو الإرشاد الزواجي لأنها غالبا تتعرض للطلاق أو الانفصال بجانب إرشادات للزوج حتى تعيش حياتها بشكل طبيعي.
وتتوقع الأمم المتحدة مزيد من الإصابات رغم أنها تهدف لإنهاء الناسور بحلول عام 2030بحسب تقرير للأمين العام للأمم المتحدة، وخُصص يوم 23 فبراير من كل عام للقضاء على هذا المرض، حيث تتوقع الأمم المتحدة ارتفاع معدل زواج الأطفال لعدة أسباب منها تدني الوضع الاقتصادي وقد أثرت فترة الكورونا أيضاً على حالات الناسور، وتم تعليق عملياته في كثير من الدول ومنها السودان واستُخدم عنبر الناسور بمستشفى الخرطوم لحالات الكورونا.
حالات متزايدة
وفي السودان أيضاً تعتبر حالات الناسور في تزايد خلال الوقت الراهن بحسب إفادات عدد من الأطباء، ويرجع ذلك بحسب د.حسن عبدالله كبير استشاري النساء والولادة بمستشفى الخرطوم إلى عدم وجود الرعاية الصحية الأولية، و ان عنبر الناسور بالمستشفى يستقبل في المتوسط حوالي 6 أو7 حالات إسبوعياً وتُجري لها عمليات، ويزداد العدد أحياناً وينقص في أحيان أخرى، بحسب الظروف والأوضاع مثلاً موسم الزراعة أو تكون المصابة لا تملك ثمن الحركة من منطقتها إلى المستشفى فتنتظر حتى تبيع محصول أو أي شيء ثم تأتي للعلاج، وتأتي الحالات من مناطق مختلفة معظمهن من ولايات غرب السودان بسبب عدم جاهزية المراكز الصحية ووعورة الطرق ونقص التثقيف الصحي والعادات الضارة ومنها زواج الطفلات، وأيضاً لأن كثير منهن رُحل يتحركوا/ن على حسب الكلأ والماء مما يزيد من صعوبة عمل مراكز صحية ثابتة لهن، ويُعد هذا أحد أسباب انتشاره، و له آثاره الاجتماعية التي تُضاعف الأثر النفسي، ولمحاربة هذا المرض توجد جوانب مرتبطة بإصلاح الطرق والمواصلات واستقرار العرب الرُحل وأيضاً التثقيف الصحي والذي يحتاج فترة من الزمن.
نقص التوعية
وإذا تمت التوعية تعرف المرأة كيف تتابع الحمل والولادة بإشراف طبيب/ة أو زائرة صحية، والعنبر الأساسي للناسور في مستشفى الخرطوم، وبقية المستشفيات يمكن ان تجري العملية اذا توفرت الخبرة المطلوبة.
وواصل د.حسن قائلاً من الناحية العلاجية نحتاج تشجيع تدريب مزيد من الأطباء من أخصائيين/ات النساء والولادة في جراحة الناسور وهي من الاشياء التي ليس لها فائدة مادية بالنسبة للطبيب/ة لذلك معظم الأطباء لا يرغبون فيها، والسبب الأساسي في حدوثه الولادة المتعسرة بنسبة 90% قد لا تنجح العملية بنسبة 20% ويرجع ذلك لحجم التمزق الذي يحدث.
مصابات
وتقول هند محمود يوسف الأمينة العامة لمنظمة صحة نساء السودان لسودان تربيون: أتينا بوفد فرنسي أجرى عدد من عمليات الناسور خلال الفترة من 25فبراير2023 وحتى 28فبراير “أسبوع الناسور الثاني” بمستشفى سوبا الجامعي وسُجلت 32 حالة، وأجريت العمليات ل20مريضة بدعم من منظمة “صحة نساء السودان” ومستشفى سوبا الجامعي وبالتعاون مع السفارة الفرنسية بالخرطوم، وإضافة إلى ذلك قدم تدريب للكوادر الصحية كلها، وفي شهر أكتوبر الفائت أيضاً أجرى الوفد 6عمليات منها عمليات مكررة، ومازالت هناك حاجة لدعم دائم حتى إنهاء مرض الناسور في السودان، وختمت هند حديثها قائلة “دائماً مريضات الناسور صغيرات السن ومستضعفات”.
وصمة
وذكرت أميرة حامد استشارية النساء والتوليد وممثلة المدير العام لمستشفى سوبا ان مريضات الناسور يتعرضن لوصمة، وان وجوده بكثرة يدل على وجود مشاكل في تقديم خدمات الولادة ووجود مناطق نائية لا تصلها الخدمات الصحية المتكاملة، وأضافت تواجهنا مشكلة كبيرة لأن هناك عدد كبير من المريضات والخدمات المقدمة أقل بكثير من الحوجة المطلوبة، وخلال فترة من الفترات كان مركز بروف/أبو بمستشفى الخرطوم يقدم خدمات جليلة على مستوى كل ولايات السودان وتأتي إليه المريضات من كل المناطق لكن أُغلق مع إغلاق مستشفى الخرطوم وتم تدميره، والخدمة التي تقدم حالياً أقل من “10 %” من الخدمة التي كان يقدمها مركز أبو تقريباً، وتبنى مستشفى سوبا الجامعي فكرة أن يُنشأ به مركز لعلاج الناسور وكل المشاكل التي تواجه الجهاز البولي للنساء، وهي فكرة سوف ترى النور قريباً لكنها تحتاج إلى موارد عالية.
ويظل العنف المبني على النوع الإجتماعي والتمييز ضد النساء و الفقر عوامل أساسية للإصابة بالناسور، و زادت الحرب المستمرة حالياً – في الخرطوم وجزء من ولايات دارفور و تدهور الأوضاع الأمنية في عدد من المناطق- من صعوبة وصول المصابات للخدمات العلاجية.
المصدر