السياسة السودانية

محمد محمد خير يكتب: نماذج من مناضلين

[ad_1]

ليس ذلك من اجتراحاتي، فقد سبقني هاشم صديق في شعر له ضمنه (وكت يبقى النضال قعدة)، كانت قصيدته زفرة نقدية لأن الشعر لا يحتمل التفاصيل، فالقصيدة تكتسب قوامها كلما تكثَّفت، ولكني سأخوض في تلك التفاصيل، فالمزاج السردي استبدَّ بي في الآونة الأخيرة فانتقلت كلي للرواية.
مناضل صامد داخل زجاجته تعرفت عليه عام 1977، وكان سكراناً وما زال منذ ذلك العام من القرن الماضي. هكذا يجدد كل يوم التزامه الكامل بالنضال السياسي داخل (القعدات).
يعيش داخل زجاجة ويتمشى حول الكأس، لا يسمع الغناء إلا نادراً ولا يطرب لعجز أغنية إلا تلك التي تقول (إن كان في الكأس باقي). يغيب داخل قوقعته النضالية ولا يخرج إلا مرة كل أعوام ليشاهد مباريات (كأس العالم). لا يتحدث إلا بلغة الحداثة الشعرية، ويكتب قصائد تنتمي لمدرسة الحداثة، ذلك المصطلح السيئ السمعة الذي ذاق العذابات على يد محبيه، فلحقت به الشبهات لأنه اعتنى بالمستورد والمنقول والمترجم أكثر من عنايته بالأغصان النابتة من الجذور التراثية. أذكر من قصائده (الشاعر والكلاب ذات الأرجل القصيرة)، لوغريثمات أدبية تتلون حسب قوة دفع (العرقي)!
لا يعرف سبيلاً إلى أي لغة أخرى خاصة الإنجليزية ـ رغم أنه يعيش الآن في كنفها ـ لكنني أذكر أنه كان يردد عبارة إنجليزية نابعة من التزامه الأيدولوجي (بالقعدات)، وهي (ون فور ذا رود)، وهذا مطلب يتصباه حين يرسلونه (للزيادة)، فيطالب بكأس للطريق ريثما يعود بالمزيد، والشخص الذي يرسله المتسامرون (للزيادة) غالباً ما يكون مدمناً ومفلساً ومن أرذل محبي رخيص الخمر، وغالباً ما يطلقون عليه لقب (الفانوس)، والفانوس يا حماك الله شخص لا يملك من مقومات الحياة إلا شفاهه.
قابلته في القاهرة، وكان من حسن ظنه أن أطرافاً من المعارضة تبنَّت خط إسقاط النظام (بالقعدات)، فعاد زعيماً استثنائياً لأن معتقده في الحياة تحول من إسقاط ذاتي إلى (آلية)، ومن حسن حظه أيضاً أن بعض المعارضين أصيبوا بالتسمم من الخمور المصرية، ومنهم من قضى نحبه فاكتشف بأنف (غرنوي) بعض من يبيعون الخمور البلدية السودانية هناك. فاتني أن أقول إن (غرنوي) هو بطل باتريك زوسكيند في روايته (العطر) فقد كان غرنوي يشم فقط ويتابع كل مسارات الكون شمياً فصار كل العالم في متناول أنفه!
فتح له هذا الاكتشاف دروباً سالكة مع المعارضة وصار (الدليل) الرسمي لأماكن الخمور البلدية، وضاعف من حظوته، أن (آلية إسقاط النظام) تتفعّل بسلاسة عن طريق المشروب (البلدي الوطني)، فأصبح مناضلاً فكرياً لكون المعارضة تبنت إسقاطاته ومن جهة ثانية أصبح حادي ركب لأنه كان (الدليل)!
ذات مرة طلب مساعدته لتسجيل حالته المنتهكة، لدى المقرر الخاص لحقوق الإنسان، فذهبت معه وكان يحكي قصة لم تحدث له لأن الحكومة لم تعتقله في الأصل، قبل أن يغادر للقاهرة ربما لأن (الآلية) لم تكن مفعلة في ذلك الحين. حين خرجنا من المقرر الخاص سألته عن سر كذبه على المقرر فضحك، وقال لي إنه معجب باسم المقرر وكان اسمه (كاس بار بيرو) حقاً أن الاسم قد جمع فأوعى إنه كأس وبار وبيرة!!
فشل في كل شيء، لكنه نجح نجاحاً باهراً في أن يظل (فاشلاً)، وذلك هو القدر الضئيل الذي أفاده من الحياة. لم يمارس عملاً مهنياً بأجر أو دون أجر طوال حياته، إلا في لحظة مطالبته بـ(ون فور ذا رود)، وهذا عمل لا يتعاطى أجره بحكم أنه (فانوس).
شعر له علاقة بالنص:
لن يصغي لمنطق اللغات
تراثه تيه
ويخرج من جمال رماده شعب الشظايا
شهقة القنديل
جلجلة الكتابة والصدى
وفضيحة التنجيم
يمشي خارج التقويم.
(قاسم حداد ـ النهروان)

صحيفة الانتباهة

[ad_2]
مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى