محمد محمد خير يكتب: ملاسي.. أحسن الله عزاءكم في وفاتك!
[ad_1]
عادة لا أثق البتة في الأخبار التي تنقلها وسائط التواصل الاجتماعي، بخاصة السياسية منها، لأنها لا تٌعبِّر إلا عن أماني من صاغ الخبر الذي يأتي خالياً من أي زفرة صدق؛ لكنني أصدِّق أخبار الوفيات والمرض وحوادث المرور، لأنها في الغالب لا تحمل مصلحةً لخلوِّها من الغرض السياسي، وعادة ما أصبحت منذ أشهر أستهلُّ يومي (بالقروبات)، أتسقَّط الأخبار وأطالع عناوين الصحف والمداخلات المفيدة وبعض المقالات الجادة.
يوم الثلاثاء الماضي بدأتُ صباحي (بقروب الجمل الما شايف عوجة رقبتو) الذي يديره الكاتب الصحافي الأستاذ الغزير مصطفى البطل، ويُشارك فيه نخبة من الصحافيين والكتاب والدبلوماسيين والمفكرين والباحثين؛ ولأنه كذلك فمن الضروري أن تُصدِّق الأخبار الاجتماعية التي ترد فيه بوصفه ماعوناً يسع الاتفاق أو الاختلاف.
كان أول ما طالعته ذلك الصباح وفاة الكاتب الصحافي المهندس حسين ملاسي، الذي يكتب مقالاً طويلاً في سطرين، وهذا النوع من الكتابة يندرج ضمن أُطر النصوص المُغلقة التي تجعل القارئ شريكاً في النص، لأن تحققاته لا تكتمل إلا بتفسيرات القارئ.
حدَّقت في الخبر، وأعدت قراءته مرتين، وأحسست بأنني شريك في أسباب وفاة ملاسي، لأن وفاته كما نقلها الخبر، كانت بسبب ذبحة صدرية في منتصف الليل.
شعرتُ بخَدَرٍ شديدٍ في قدمي اليسرى، وانقطع نفسي مرتين، كأنني (لوري يسير في دقداق)، ثم انتثرتْ حبيباتُ عرق ساخن في جبيني، وتعثَّر قلبي إلى حين، ولم تعد دقاته بتلك الفصاحة، لكنني استقويت بالله ورضيت بأمره في شأن المرحوم حسين ملاسي الصديق والأخ والذواقة، فقد كان المرحوم يُكثر الترويج لأعمدتي النضرة، ويصفها بـ(المزيكا)، ولا يُشاركني في هذا الوصف الذي يتجوَّد به، إلا كاتبي المفضل الأسترالي الجنسية الهدندوي الأصل المستر محمد عثمان إبراهيم، أحد الأقلام القليلة التي يتحوَّل الحبر في جوفها لرحيق.
أشفقت على محمد عثمان إبراهيم في منفاه البعيد، إذ كيف سيهضم قلبه رحيل ملاسي عنا.
الحمد لله من قبل ومن بعد، قلتها بصوت عالٍ، وفي تلك اللحظة: (راودتني دمعة عن نفسها)، فسكبتها بصدق في اتجاه روح ملاسي.
النسخة الثانية من التأسِّي والحزن، طبعتها مشاعري، فأحسست بأنني أحد الذين ساهموا في ذبحة المرحوم الصدرية، لأنه ـ وسعته الجنان الفساح ـ كان أحد رواد ملحمة (العِكَوْ) التي أُقيمها كُلَّ يوم سبت بمنزلي، وهذه قصة قد تستغرقنا وتقطع الترحُّم عليه لحين.
عادةً لا أتناول أيَّ وجبات تحتوي على اللحم أو ردائفه. حين أكون في كندا، أتفرَّغ كُلياً للخضروات والرياضة والمشي لمسافات طويلة، والكشف الطبي ومراقبة كل أحوال الجسد، وحين أعود للسودان أعود كمن كان مفطوماً من اللحم لأربعة أشهر، فأهرع إليه بشبق شهورٍ عجاف، ولأنني لا أُصيب المتعة الكاملة ببهاء اللحم إلا في حضرة الإخوان والأصدقاء والأحبة، فإنني أحرص على مشاركتهم لي هذا العرس، وكان المرحوم ضمن تلك الثلَّة التي ظلت تشاركني المتعة التي تتفجر عناقيدَ من العكو طوال شهر أكتوبر الماضي برفقة ضياء الدين ووجدي الكردي وعادل عبد الغني ودكتور نزار الذي انضم لاحقاً.
ولهذه العكو قصة، فطاهيتُها امرأة كانت تطبخ لقوات اليوناميد في دارفور، تعرَّفتُ عليها أثناء زياراتي العديدة، وأغريتها بالذهاب معي إلى الخرطوم، فهي (أخصائية عكو) بتقدير امتياز، وأنا الدريُّ بانتخاب الذيل بحكم المؤانسة الطويلة مع الشياه والأنعام.
جاءت معي إلى الخرطوم، وعملت معنا لعام كامل، وأحبها أبنائي، ولم تُثر نأمة غيرة أنثوية في زوجتي، لأنها كانت على يقين بأنه لا رابط بيني وبينها إلا عاطفة اللحم وشهوة العكو.
وزوجتها لاحقاً على سنة الله ورسوله جزاراً من أحبتي، وأنجبا طفلاً وعادت من جديد لتعمل معي متفرغة يوم السبت من كل أسبوعٍ للعكو، وكثيراً ما ظللت أُداعبها بـ(دنياي أنتِ وعكوتي).
كان المرحوم لاعب ارتكاز في هذه المباراة الأسبوعية (إكِّيل) كصبي بلغ الحلم لتوِّه، تحس بأنه يعيش مرحلة (مراهقة ثانية) أمام فصائص العكو التي تتقافز بين أصابعه كطيور الجنة، وكان – عليه الرحمات الواسعات – يتصل بي مستفسراً عن أسرار العكو فأجيب على أسئلته باغتباط ومسرة لكونه بلغ مرحلة الهيام، وكان ذلك كل مبتغاي، لأنه يعني أنه تحوَّل من آكلٍ لعاشق، والعشق سرٌّ بين محبوبين.
كان المرحوم يسألني عن مدى ضرر الدهن المُتراكم في العكوة، ومدى الأذى الذي يُلحقه بالقلب، كأنه كان يستشرف ميتته، وكنت أُجيبه بطلاقة سياسي اعتاد أن يكذب لسانه على شفتيه، فأُطمئنه بأن العكو التي انتخبها خالية تماماً من الدهون الضارة، لأن الدهن الضار هو الدهن الثلاثي (TRIGLYCERIDE (.
أما دهن عِكَوِي، فهو دهون أمينية لأنها تقع في نطاق الأحماض الدهنية النافعة، ويأتي ذلك لصغر سن العجل، فكلما كان صغيراً وحاملاً لاسم (العجَّالي لبن)، تبرأت عكوته من شبهة الدهن الضار، وكان المرحوم يُقابل حديثي بالغبطة التي ترهص برغبة الإقبال على العكو كل سبت.
أما ضياء الدين أطال الله عمره وصبره على هذا الفقد الجلل، فقد استبدَّ به الهيام بالعكو، وصارت لنا مشاورات ثنائية حولها لا يمكن وصفها إلا بـ(فوق العادة).
ترحَّمتُ على ملاسي وعلى روحه واعتصرني الحزن، حتى ضاق بي جسدي، وعدت من جديد للقروب لأقرأ مُداخلات الحزن على ذلك الصديق الشجي، فإذا بي أقرأ مُداخلة للمرحوم يستنكرُ فيها موتَه بهذه الطريقة، فاتصلتُ به لأتأكد أنه هو فأجابني بحيوية أعادت لعِكَوِي اعتبارها، وبرَّأتها من دمه.
لعن الله وسائل التواصل الاجتماعي
صحيفة الانتباهة
مصدر الخبر