محمد محمد خير يكتب: ذكرى الأشياء المنسية
في شارع من شوارع القاهرة الحيَّة التي اعتاد السودانيون تجوالها، قابلتُ سيدةً في مستهل الخمسين، صفراء وبدينة، تعلو هامتها ضفائر على شكل ما كان يسمونه (المسيرة)؛ مشلخة على صفحتي وجهها ثلاثة شلوخ مطارق مثبتة بشلخ، تستند على قاعدته الشلوخ الثلاثة وتبتسم ابتسامة خارج محيط المعاناة اليومية.
اعتراني مسٌّ من خَدر، وقفزت لذاكرتي مباشرة (علبة حلاوة ريا)، ذلك الصندوق الذي تقدم منه الحلوى في أعياد الفطر في الستينات؛ تساقط من مساماتي عرق السحل المعيشي الآني وهامت روحي تحت رذاذٍ من صنعها، سوحاً وتطوافاً في أزمنة عزيزة غبرت.
تذكرت في لحظة واحدة كل الأشياء والمعاني والتعابير التي اختفت من حياتنا تماماً ولم يبقَ منها إلا بريقها؛ عربة الجاز التي كانت تطوف في الأحياء على شكل برميلٍ أسطواني عليه دعاية شركة أجب، وضابط الصحة الذي يخشاه كل الناس، سمين ومتلمظ، يرتدي الرداء، الكاكي والجورب، يطوف السوق في بأسٍ علماً بأن الصحة تتطلب الرقة والأسلوب الهادئ ولا تحتاج لكل هذه الصرامة.
بدأت أحصي ما غابَ عن حياتنا، فخرجت بحصيلة وافرة من أشياءٍ منسية؛ غاب فتيل العطر الذي كانت عليه صورة (السيد علي) وكذلك فتيل (بت السودان) ولم أعد أرى (الشاف والكوليت ولا الجروسية والسلة) وكذا (مناديل الكروشية) الموشاة بالحرير الأحمر والقلب النازف والسهم الطاعن والعاشق النبيل والمعشوق الظالم.
(2)
صمتت الأغاني الرومانسية القديمة مثل (رِضِيت بالقسمو لي ربي) و(النار يا ظالم) واختفى من قاموس الشعر المعاصر (ويح قلبي وليت شعري) وحلت محلها بعد حذفها التعابير الماسحة والعبارات الشوهاء.
وكما توارت هذه التعبيرات ولَّت شعارات سياسية من غير رجعة (كطريق التطور الاشتراكي الواضح المعالم) ولم تعد قضايا (البروليتاريا والكادحين) ذات أولوية قصوى ضمن البرامج السياسية.
وكما تناقص اهتمام القوى السياسية بتبشير البؤساء بالعيش الرغد، والعدالة الاجتماعية صارت (القرقريبة) تتناقص أيضاً وتتوارى رويداً الأجيال التي احترفت تمويج عجينها الخامر على الصاج الذي يشعله حطب “الطندب” فتخرج من صلب الذرة وترائب النار (الكسرة).
صارت خيانة “الملح والملاح” سمة أواننا الذي نعيشه دون أدنى شهية.
عبرت طرق الاختفاء عربات (الناش) وانقرضت (الهلمان) التي كان يقتنيها الأفندية بالكفاءة العالية والانضباط والإخلاص للوظيفة والاعتزاز بها، وجاءت العربات التي تعبر قسامتها وأغاني شرائطها عن السوق السوداء والنية السوداء والقلوب الأشد سواداً وغلظة، النفوس الغارقة نواياها في مستنقعات الوحل، العقول التي لا تجيد إلا تدابير المؤامرة والمراوغة والمناورة والتكتيك الباطش.
لم تقرأ شعراً لخليل حاوي ولم تسمع بعد المعطي ولم تطرب يوماً (لي جوهر صدر المحافل).
اختفى العرس البهيج ونور (الرتينة) و(قطع الرحط) والكاسترد بالكرز وفطور العريس و(رقصت ليهو مسك حجباتا).
تحول الزواج من بهج اجتماعي (لمخطط اجتماعي) وصارت الزيجات بالنيات والاستقراء الدقيق لأفق المستقبل ومستوى توازنات القوى وغاب (المشلعيب) لأن القطط انصرفت عنا ويأست من رحمة.
ولم يعد بين ظهرانينا ما ندخره ليوم آتٍ إلا الصبر على اليوم الذي نعيشه ألماً، ومرارة وحسرة وقنوطاً وكآبة.
(ليس قناع اليتم على أيامنا سوى ألم الكتمان).
صمت صوت المدفع الذي يأذن صوته بالإفطار في شهر رمضان المبارك على الشارع، الناس جلوس على (البرش) تتوسطهم (الكوارع والأقداح) وتتبطنهم القلوب الكبيرة، الآهلة بالمحبة، والمتأدة مخافة وخشية، والنفوس السمحة، سليلة الذكر والانبثاق العفوي من الفضيلة.
من مثل سلمى في الصبايا
في وداعتها وطيب عرقها وعطائها
من مثل إبراهيم يهدينا حشاشة دهرهِ
رمزاً جميلاً للتصافي والسلام الوارفِ
والعسجد الزاهي وما فَرَشَته أحلام الرعيلِ الأولِ
في أم ارضي أم بعث نشوتي وتجددي
ورفاء عمري المقبل.
تأمل عزيزي ورقة ما أنتجه الزمن الجميل وتأمل (أصبح قلبي في إيدو اليمين عصفور وما عرف الهوى).
غابت جلسات الدوبيت تحت الليالي المقمرة و(واحد وأربعين بت الأمين عثمان.. لا حامت فريق لا جالست صبيان(.
رجع اليمانية لأوطانهم ولم يعد في الأحياء (دكان اليماني) ولا يحمل فول اليوم فول الأمس بماء الجبنة، وتوارى الرغيف المدور (أب لبّة) أما (المشّاطات) فلم يعد لزماننا مكانٌ لهنَّ، سجائر (البرنجي) الذي كان يوصف بهنّ صار يدخنه المقتدرون! وحُرِم الجيل الجديد من أزجالهن وقدرتهن البارعة في القطيعة ونقل الكلام ونهضت مؤسسات محترمة يؤمها رجالٌ أفذاذ يضطلعون بهذا الدور دون أدنى مواربة.
رحم الله ميمونة المشاطة، لقد كنت أحفظ منها تعبيرات سجعية من شاكلات (الفسيخ عند الحلب والخرفان عند العرب) واختفى رأس الخروف المسمى (بالباسم) من المطاعم، كان يتقنه على السيد نجار الكوباني، وينافسه مطعم البحر الأحمر يهرع لهما الأفندية حين كانت الوظيفة مدرارة العائد، لكونها وظيفة محترمة.
واختفت طهارة الأولاد التي كان يكتب على كرت دعوتها (بمناسبة ختان أنجاله والعاقبة عندكم في المسرات)، ولا أظن أن العرسان اليوم يدفعون (حق البنات) أو يأتون (بالمقانع).
يا حليل زمان
زمن المباهج والقصائد والقصيد
يا حليل هناك
الصيد
يصِيدَك
وانت ما بتقدر تصيد.
وغاب الأزهري وزروق ونقد الله والمرضي والمحجوب وعبد الخالق والشفيع وقاسم أمين و(عمرك للنضال كرست.. لا كليت ولا اتجرست..لا مليت ولا دبرست).
مضى الزعماء الملهمون ولم يتبق منهم سوى العدد القليل الذي يشكل (شعبة السماحة) في حياتنا السياسية، وانبرى جيل الأحقاد القديمة فطبعوا الحياة بأوشامهم حتى غدت مسخاً وتشويهاً لماضٍ جميل.
غاب النشيد الموحي (شهر عشرة حبابو عشرة) و(اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وذكرى) و(هبت الخرطوم في جنح الدجى ضمدت بالعزم هاتيك الجراح) (ولأفريقيا نمد الأيدي، أيدي شباب صادق ونبيل) وجاءنا زمان صار مطلع نشيده (ما عايزين دقيق فينا قمحنا كتير مكفينا) فانغلقنا بسبب وفرة القمح والتوجه الحضاري!!
هذا زمان الأونطة
والفهلوة والشنطة
تعرف تقول قود نايت
وتفتح السامسونايت
وتبتسم بالدولار!
مضت تلك المرأة التي تشبه (علبة حلاوة ريا) تختال على شارع فؤاد بعناد كأنها تسعى لاسترداد زمن بهيج. كل خطوة تخطوها نداء مباشر لاستدعاء تواريخ ندية وأيام غابرات وأنا أسدد النظر في مليون ميل مربع تجسدها الشلوخ ويزينها (النقرابي) وأسأل الخبيء من أفق القادم الذي ينتظره معنا (جودو)، يا زمان هل من عودة هل؟!.
صحيفة الانتباهة
مصدر الخبر