متاهة السياسة : الثالوث المربك؛ دائرة الفعل – دائرة الاهتمام – دائرة الواقع.
حسين اركو مناوى
السياسية بشكل عام تخضع لعوامل التفاعل مع الجمهور ، وبشكل أكبر مع الواقع ومن هنا يبرز دور الثالوث المربك ، الفعل ، الاهتمام ، الواقع وخاصة في بلد مثل السودان ، فيه ممارسة السياسة محفوفة بصعوبات جمة وليس من السهل تحقيق أهداف سياسية إلا بشق الأنفس. أىّ تنظيم سياسي يسعى الى إنجاز ملموس لبرنامجه على أرض الواقع يحتاج إلى جهد كبير ومناورة رشيقة لتفادي الانزلاقات السياسية السحيقة التي قد تقذفه خارج اللعبة السياسة. بالفعل يحتاج إلى جهد لا يقل شأناً من ذلك الذي يكابده شخصٌ من أجل الصعود إلى قمة جبل إفرست في مرتفعات هملايا ، قد يصل إلى القمة أو لا يصل حسب درجة مقاومته لسوء ورداءة الأجواء.
هناك ثلاث مفاهيم مهمة لا بد للمرء أن يضعهم فى الاعتبار قبل خوض العمل السياسي. الأول دائرة الاهتمام والثاني دائرة الفعل والثالث الاستعداد للتعامل مع الواقع.
التغيير والتأثير هما أهم مؤشرات النجاح فى العمل السياسي وإن لم يكن هناك تغيير أو تأثير على المحيط السياسي بالتأكيد المحيط السياسي ينقصه الفعل الجاد. وفى هذا تحتل دائرة الاهتمام أقل درجة من دائرة الفعل وربما دائرة الاهتمام لا تلعب أي دور فى التغيير او التأثير إن ظل الاهتمام مجرد امانى واحلام ، وفي قاموس السياسة ، أىّ انقياد وراء أشياء افتراضية خارج دائرة التطبيق لا يعدو أكثر من معركة طواحين الهواء.
في ظل التعاطي مع معطيات السياسة على أرض الواقع ، يحدث هدر كبير جداً للطاقة بعلم او دون علم الإنسان. فمثلاً تقديرياً هناك من بين أربعين مليون مواطن سودانى لا يشارك منهم فعلياً في العمل السياسي سوى مليون شخص بشكل منتظم ، والسواد الأعظم البالغ عددهم تسع وثلاثون مليون قد يكتفون فقط باهتمام بما يجرى فى الساحة السياسية دون مشاركة فعلية من أجل التغيير. هنا تبقى درجة التأثير والمقاومة فى وجه الأنظمة الدكتاتورية ضعيفة وهى لا تتعدى فاعلية مليون مواطن الذين يشاركون فعلياً فى العمل السياسي لتغيير النظام. ودائرة الاهتمام فى هذا السياق السياسي لا تُفسر وفق المفهوم العام فى لفظ الاهتمام إنما تُفسر بناءاً على الدائرة النقيضة لها ، اى دائرة الفعل. الاهتمام دون الفعل بالمفهوم السياسي اقرب الى السلبية ، كما لو أنّ المواطن يُسحق فى متطلباته المعيشية كالمواصلات والطعام والشراب وفى الدواء والتعليم ويكتفى بالشكوى دون أن يحرك ساكناً لإحداث التغيير نحو الأفضل. أو أنه يعيش تحت وطأة وألم قوانين مقيدة للحريات ولا يضع الحرية فى قائمة أولوياته. أما فيما يلى دور دائرة الفعل ، وهو الدور الحاسم لإحداث تغيير سياسي فى الدولة ومع ذلك ،درجات الفعل نفسها متفاوتة. هناك سياسيون ونشطاء يظنون أنهم يتحركون سياسياً في دائرة الفعل ولكنهم عاجزين عن التغيير إما بسبب عدم قدرتهم للتنظيم أو عدم قدرتهم للقيادة أو لسوء الإدارة وغياب الرؤية أوغياب روح المبادرة …..الخ من عناصر التغيير الضرورية ، أو ممارسة النشاط خارج الأطر التنظيمية. كل هذه الحالات تبقى خصماً على كفاءة دائرة الفعل.
مع عدم إغفال التجارب السياسية العديدة التي مرت بالسودان ، دعنا نأخذ تجربة الانقاذ كنموذج للتفاعل السياسي بين السلطة الحاكمة وقوى المعارضة ، نجد هناك درجات متفاوتة في الانجاز الذى تحقق فى مجال التغيير بسبب تأثير دائرة الفعل فى المفهوم السياسي ، ويبدو واضحا كيف كانت دائرة الاهتمام سبباً في تباطؤ عملية التغيير. السياسيون المنظمون تحت تنظيمات سياسية أو قوى النضال المسلحة هم كان لهم أكبر تأثيرفي إضعاف نظام الانقاذ ولكن فعلياً النظام انهار بوتيرة متسارعة عندما قررت دائرة الاهتمام الكبيرة الغائبة عن الفعل فى التحول إلى دائرة الفعل اىّ عندما قرر الملايين أن تنضم إلى المعارضة العملية من خلال اعتصامهم أمام القيادة العامة وعندما قررت القوى العسكرية التدخل ، والنتيجة كانت تحول نوعى فى المعارضة زاد الضغط على النظام الذي كان يترنح بسبب دائرة الفعل السياسي التي تقودها القوى المنظمة من الأحزاب وقوى الكفاح المسلحة.
السودان الذى ذاق مرارة التعاسة السياسية عبر عقود خاض تجربة عميقة فى الادوار الايجابية والسلبية في المواقف السياسية. أظهر تاريخ التقلبات في العملية السياسية في السودان كيف أن دوائر صغيرة من الهيئات المنظمة قد خلقت زخمًا للتحول قبل تحريك وإشراك القطاع الرئيسي من الجمهور. الأجسام المنظمة لها دور فعال جداً فى وضع الحد للاستبداد ، بالرغم من أن الدور السلبي للاغلبية منح للاستبداد فرص بقاء أطول للأنظمة المستبدة فى مناسبات كثيرة كانت يمكن أن تكون نهاية الشموليات التى تتخذ من غياب فاعلية الجمهور فى حقل السياسة مرتعاً خصباً الى الحد فيه تغرس جذور عميقة في مفهوم السلطة وكادت هذه الشموليات تشكل نفسها فى عقلية الأجيال كجزء لا يتجزأ من الدولة.
مهما كانت السلطة تحتكر أدوات القهر انها لن تصمد الى الابد أمام المقاومة المنظمة ، وتاريخ السودان حافل بتجارب من هذا النوع. فى محطات الثورة السودانية ، فى أكتوبر 1964 وأبريل 1985 و 19 ديسمبر 2018 وفي محطات الثورة المسلحة كانت الأجسام المنظمة هى التى لعبت دوراً حيوياً فى تأليب الشارع ومن قاد هذا العمل كان جزء يسير من التنظيمات السياسية بل كانت المنظمات الطلابية التابعة لهذه التنظيمات هى رأس الرمح فى التغيير فى أحيان كثيرة ولكن الشاهد والنقطة الجديرة بالاهتمام هى هؤلاء الطلاب حركتهم تُدار عبر مؤسسات حزبية يلعب فيها زعماء الأحزاب دوراً كبيراً فى تنظيم وتوجيه حركة المقاومة. هذه التجربة هى المقصود بدائرة الفعل وهذه الدائرة عادة تتوسع وتستقطب أجزاء كبيرة من دائرة الاهتمام التي عادة تكون فى الخانة السلبية ما لم تتدخل طرف آخر وغالباً القوى الحزبية هى الطرف الآخر المقصود فى هذا السياق ، بغض النظر عن توجه القوى الحزبية ، اسلامية ، طائفية ، اشتراكية ، حركة تحررية ولكن فى النهاية لها دور في إضعاف مركز القوة المستبدة.
فى التجربة السودانية ليست دائرة الاهتمام وحدها تشكل حاجزاً لهزيمة الاستبداد بل المعارك الجانبية فى لحظات المعركة الحقيقية تأتي بخيبات ونكبات كبيرة تستغلها قوى الاستبداد لتحقيق النصر واحياناً نصراً كاسحاً ، فمثلاً بقاء نظام مايو وانتصاره فى وجه الجبهة الوطنية كان بسبب خلافات داخلية فى منظومة التحالف وقيل الخلاف فى لحظة ادارة المعركة داخل امدرمان أدى إلى عدم تمكن قائد العملية محمد نور سعد من تحقيق نصرٍ على قوات الحكومة. العكس كان فى تجربة ازاحة عمر البشير من السلطة. تجربة 19 ديسمبر كانت فريدة فى نوعها وخاصة فى استخدام تكتيك تحديد الأولويات ، اتفقت أطراف متناقضة كثيرة فى إزاحة عمر البشير ، طيف من القوى السياسية ، الاسلاميون ، الشيوعيون ، البعثيون ، الامة ، الاتحادى ، قوي كفاح المسلحة يساندهم زخم ثوري جماهيري وعناصر من الأجهزة الأمنية كانت موالية للنظام ، الجيش كان حاضراً والدعم السريع كان حاضراً بل الأحزاب استنجدت بالقوات المسلحة عندما شعرت أن كفة الميزان كادت أن تختل. ففى هذه العملية انصهرت جهود النقائض كلها فى بوتقة واحدة حتى بما فيه جزء من المؤتمر الوطنى واتفقت على أن يذهب عمر البشير بلا رجعة ، وهذا هو سر نجاح ثورة 19 ديسمبر ولو مرحلياً. جميعهم ساهموا فى إنهاء النظام ولكن الاطراف التى كانت فاعلة على ارض الواقع وخاصة القوى السياسية والأجهزة العسكرية يبدو أنهم لا يحسنون إدارة الأزمات وترتيب الأولويات.
دائرة الفعل تنشط لخلق مناخ إيجابي للفاعلية فيه تنفجر طاقات مهولة كانت محبوسة وفى حالة بيات داخل دائرة الاهتمام والجهات التي تتحرك وفق قواعد تنظيمية هي التي تقوم بترتيب وتنظيم الطاقة التى تنساب من دائرة الاهتمام وتتحول الى فيضان عارم من المقاومة على رقعة واسعة لا تقوى السلطة المستبدة على مواجهته.
استيعاب لعبة دائرة الفعل ودائرة الاهتمام هو أساس امتلاك معرفة وقدرة لمهارات العمل السياسي أىّ إن جاز لنا ان نبحث تعبيراً علمياً ادق يمكننا استخدام التعبير الذي يسود في أوساط العلوم التطبيقية ونطلق عليه عبارة politics know-how على غرار nuclear know-how.
جزء من إطالة أمد الاستبداد هو الصراع العبثي في غير وقته ، وقد رأينا صراعاً عبثياً بين القوى المعارضة بسبب العداوة التى تأسست على التناقض الفكري فتجد مثلاً الحرب بين اليسار واليمين تستعر فى لحظات يجب أن تُعطى الأولوية لهزيمة الاستبداد اياً كان نوعه. هذه الحالة ايضاً تشكل نقطة الاخفاق التكتيكى للقوى المعارضة بما يعرف بـ تكتيك (تحديد الأولويات). فى نقطة تحديد الأولويات وعدم الخوض فى المعارك العبثية تقودنا الى فلسفة التعامل مع الواقع.
الساسة فى رحلتهم السياسية دائماً فى حالة الشد والجذب في التعاطي مع الواقع. فى تجربة السياسة السودانية فى حالات كثيرة ، السياسيون غير موفقين فى التعامل مع الواقع السوداني الذي يقوم على حقل يعج بتناقضات جمة ومنها حقيقة أنّ السودان بلد لا زال في طور نشأة الدولة مما يستدعي التعامل مع الواقع من أجل معالجة الخلل بأسلوب الذى يناسب المرحلة. مبدأ التعامل مع الواقع يجعل أحيانا عسكرياً يصطدم حزب ما مع الواقع فيضطر الى التفاوض وأحياناً يلجأ متخاصمان الى توحيد الجهود لمواجهة خصم مشترك لأن الخلاف درجات وهكذا البراغماتية تطل برأسها من وقت لآخر لإثبات جدوى المناورة ، ففى فترة مواجهة جعفر النميرى لجأ الراحل الامام صادق المهدى الى مصالحة دون أن يعلن الأسباب لأنه واضح شعر بفداحة العمل العسكرى بعد هزيمة مقاتليه فى امدرمان وهو يعلم جيداً التكلفة الباهظة فى تجنيد وتدريب المقاتلين وخاصة الأحزاب التى معه فى الجبهة ليست لها عناصر قتالية كافية.
وفى نفس الخط اتخذ الراحل دكتور جون قرنق استراتيجية التفاوض لتحقيق مشروعه الذي ظل يقاتل من اجله اكثر من عقدين ، خسر فى سبيله أرواح كثيرة. وفي أعقاب النكسة ، حرب يونيو 1967 اجتمع العرب فى الخرطوم فى أغسطس 1967 واتفقوا على موقف متصلب عرف بـ لاءات الخرطوم الثلاث؛ لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض وهذه اللاءات قذفت العرب خارج دائرة التاريخ والأحداث لمدة ست سنوات وتل أبيب تصول وتجول كما تشاء على حساب خرطوم اللاءات الثلاث وأخواتها إلى أن اهتدت مصر الى مبدأ الواقعية وقررت أن تكسر الجمود وفعلاً كسرت الجمود بحرب أكتوبر 1972 ، وتلاها محادثات كامب ديفيد سبتمبر 1978. كانت مناورة ناجحة بكل المقاييس لأن دولة مصر بواقعيتها استطاعت أن تسترد أراضيها وتبرم اتفاقاً للسلام. اعتقد الوضع السياسي الآن فى السودان يحتاج الى واقعية من كل الاطراف لكسر الجمود السياسي . الشعارات المتطرفة من قبيل لا تفاوض ، تضع الوطن كله فى مربع الاستقطاب والاستقطاب المضاد وتجعل الوصول إلى الوفاق امراً مستحيلاً . هذه المرة الاستقطاب يأخذ شكلاً مختلفاً عن الذي اعتاد عليه الشعب السودانى عهد الانقاذ ، وسوف تكون هناك مراكز قوى عدة كلٌ لها القدرة على ممارسة الردع المتبادل ولكن في خاتمة المطاف الخاسر هو الوطن.
الواقعية تفرض نفسها فرضاً فى الممارسة السياسية كما نرى اليوم دولة اوكرانيا تجلس فى طاولة التفاوض والجيش الروسي على مشارف كييف العاصمة. على صعيد الحرب فى دارفور وبالرغم من الانتقادات الواسعة لم تغب عن حركة التحرير فكرة الواقعية فى قاموسها السياسي أثناء مواجهة الإنقاذ. بالرغم من الانتقاد وأكيد جزء من الانتقاد بسبب القراءة الخاطئة للواقع ، فكانت لحركة التحرير خطة التحرك فى ثلاث محاور كل محور ليس بغنى عن الآخر ، محور العمليات العسكرية ومحور العمل الدبلوماسي في منابر التفاوض ومحور الشارع بتحريك المنظمات الشبابية والطلابية للحركة. الخلاصة ، الفرقاء فى السودان قد يختلفون او يتفقون فى اوجه النظر محددة ولكن لا مناص من معالجة قضايا السودان الشائكة على مبدأ الواقعية .
المصدر