ما مصير شرق السودان في ظل التناحر السياسي والقبلي؟
حركت السلطة الانتقالية الجزء الكامن في أزمة شرق السودان، لأنها ربطت حلها بأزمات بقية الأقاليم عبر اتفاقية جوبا للسلام التي وقعت في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020. وأدى ذلك لاعتراض مجموعات في الشرق رأت أن الحكومة لم تأخذ في اعتبارها خصوصية مشكلة الشرق واختلاف مكونات الإقليم، وتراخت إزاء استخدام القبلية كسلاح مع ابتداع وسائل أخرى أشد خطورة، وهي إغلاق الطرق الحيوية الرابطة بين العاصمة الخرطوم وشرق البلاد. فقد وقعت نزاعات قبلية بين قبيلتي بني عامر والنوبة بسبب قرار مجلس السيادة الخاص بتشكيل لجنة فنية لتخطيط وتعيين الحدود الإدارية للقبائل والنظارات في ولايات الشرق، وهو إجراء أسهم ولا يزال في استمرار النزاعات في دارفور نسبة للتداخل القبلي والاثني. وبعدها أصبح إغلاق الطرق وسيلة الاحتجاج الرئيسة على أي قرار صادر في الخرطوم لا يرضي أطرافاً معينة في الشرق. وتكررت كثيراً خلال السنوات الثلاث الماضية، وأخيراً قام فصيل ينتمي إلى “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” بإغلاق جزئي للطريق الرابط بين الخرطوم وبورتسودان احتجاجاً على ما وصفوه بالبلاغات الكيدية ضد مقرر المجلس عبدالله أوبشار على خلفية البلاغ المنشور في الصحف الذي أعلنته “نيابة جرائم المعلوماتية” بأنه متهم هارب من أجهزة العدالة في قضية “فساد” بوزارة المالية الاتحادية، ولكن بعد تسليم مقرر المجلس نفسه إلى شرطة البحر الأحمر، وإصدار النيابة قراراً بالإفراج عنه بالضمان الشخصي، استجاب المحتجون لطلب قيادات المجلس بفتح الطريق القومي.
آليات جديدة
أصبح التوصل إلى اتفاق سياسي في شرق السودان أبعد منالاً، كما يتضح من حال التأهب القصوى لتصعيد الصراع على الأرض المستمر منذ قيام الثورة. وحاولت الحكومة الانتقالية تطوير آليات جديدة في التعامل مع أزمة الشرق، ولكن مثلما كان النظام السابق يتعامل مع المنتمين إليه ويستبعد الآخرين، تعاملت حكومة عبدالله حمدوك والسلطة الحالية مع مشكلة الشرق، على أساس تصنيف القوى الفاعلة هناك إلى فئتين، الأولى هي المساندة للثورة و”قوى إعلان الحرية والتغيير”، والثانية هي مجموعة محمد الأمين ترك رئيس عموم نظارات وعموديات البجا، وهي محسوبة على النظام السابق ومكونة من أعضاء “حزب المؤتمر الوطني”. ولم تسلم الفئتان من اختراق الأحزاب ومحاولات الاستقطاب لخدمة مصالحها الضيقة. ولهذا تدور أزمة الإقليم في حلقة دائرية بحسب الكتلتين المؤثرتين على المشهد السياسي السوداني ولكل منهما أجنداتها الخاصة، ووقودهما المحسوبية السياسية والعرقية والقبلية.
وتكون المواجهات على الأرض عادة بين فعل ورد فعل، ففي ظل توترات سابقة، أعلن “المجلس الأعلى لنظارات البجا” بقيادة الناظر ترك، إغلاق الطريق القومي بين الخرطوم وبورتسودان في سبتمبر (أيلول) 2021، إضافة إلى ميناءي سواكن وبورتسودان وميناءي النفط في بشائر، فقامت مجموعات تنتمي إلى “المجلس الأعلى للإدارة الأهلية” في شرق السودان بتسيير احتجاجات داعمة للانتقال الديمقراطي والحكومة المدنية، معلنة أن مكونات أخرى من قبائل البجا والقبائل الأخرى ترفضه ما فعله ترك وادعاءه التحدث باسم مواطني الشرق. وتغيرت هذه التشكيلة بعد إجراءات الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر من العام نفسه، بأن أصبح مجلس البجا مؤيداً للحكومة المتمثلة في مجلس السيادة المكون من العسكريين بعد حل الحكومة وإطاحة المدنيين، بينما تحول مجلس الإدارة الأهلية إلى معارض للسلطة التي لم تعد تمثل المكون المدني.
رسائل عدوانية
لا يشكل تصعيد إقليم الشرق ضد الحكومة أمراً جديداً، ولكن تكثفت الرسائل العدوانية ضد السلطة بعد توقيع الاتفاق الإطاري بين المكون العسكري وقوى سياسية مدنية في السادس من ديسمبر (كانون الأول). ويمكن فهم هذا التصعيد الأخير بسبب أن قضية الشرق كانت إحدى القضايا الخمس الخلافية المؤجلة، إضافة إلى العدالة الانتقالية، واتفاق جوبا للسلام، وإعادة هيكلة وإصلاح المنظومة الأمنية، وإزالة تمكين النظام السابق واسترداد الأموال. وعليه، ظل تأييد اتفاق مسار الشرق أو رفضه، ووحدة السودان أو حق تقرير المصير، مجرد دعاوى سياسية ينطلق منها الفريقان في صراعهما ضد بعضهما، كما يستخدمها كل منهما في صراعه مع الخرطوم ليس بهدف معالجة جذرية للأزمة، ولكن وفقاً لمنظورهما الذي يخدم مصالحهما.
وعلى رغم اختلافهما العميق فإن “مجلس البجا” و”مجلس الإدارة الأهلية” يتفقان على أن “الاتفاق الإطاري” هو مسرحية لتمديد الفترة الانتقالية. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت التهديدات وخطابات الكراهية وإغلاق الطرق الحيوية والتهديد بعزل شرق السودان عن بقية البلاد. والحقيقة أن كلا الطرفين يستقويان بقوى نافذة في الخرطوم، فمن أعطى الضوء الأخضر لأول حال إغلاق للشرق لم يستطع احتواء تبعاتها في ما بعد.
والآن تسري انقسامات داخل “مجلس البجا”، فإغلاق أوبشار الطريق القومي كان ضد إرادة المجلس على رغم أنها أداته التي سنها للاعتراض والاحتجاج، ولكن هب “مجلس البجا” لنصرة أوبشار وعضو آخر في المجلس هو عثمان سنة السيدابي المعتقل لدى الجهات الأمنية، على رغم اختلافهما الأخير مع المجلس. وتأتي الوقفة على أساس قبلي، ففي وقت يبدو فيه أن “كثافة الدم أقوى من الولاء السياسي”، كما جاء في حديث السياسي داوود يحيى بولاد الذي تمت تصفيته وهو أسير من قبل الإسلاميين عندما غير ولاءه من الحركة الإسلامية إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان ودخل في النزاع مع تنظيمه الأول.
عودة العمل المسلح
دوماً ما يوصف الشرق بأنه يقف على برميل بارود، وأن هناك قوات وسلاحاً متوفراً ينتظر ما قد تسفر عنه نتيجة استجابة السلطة في الخرطوم لمطالبها التي لا تخرج عن مطالب الشعب السوداني ومعاناته من أبسط مقومات الحياة، الصحة والتعليم واستشراء الفقر. ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ظل “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” يلوح بعزمه إعلان “حق تقرير المصير”، وتنصيب نفسه حكومة موقتة للإقليم، وتجدد التلويح تزامناً مع أعياد استقلال البلاد وبداية العام الجديد 2023. وبحسب الأمين السياسي للمجلس أونور عيسى أوشيك، فإن “تقرير المصير يأتي ضمن مؤتمر “سنكات” الماضي الذي يحتوي على 11 قراراً، وبعد أن واجهت تلك المقررات عدداً من العقبات أوصد الباب أمام تنفيذها من قبل المركز”، مشيراً إلى “التلاعب بقضية الشرق، وأن بند تقرير المصير متاح وفق قانون حقوق الإنسان”.
ويحتمل مطلب “تقرير المصير” سيناريوين سعياً إلى تحقيقه، الأول استمرار المطالبة به سلمياً لفترة قد تطول أملاً في أن تستجيب السلطة في الخرطوم لمطالب التنمية وقسمة السلطة والثروة، ويعتمد هذا السيناريو على عامل الوقت في تسكين المطالبة بعقد المؤتمرات والمفاوضات التي يمكن أن تستمر سنوات طويلة.
والسيناريو الثاني حمل السلاح ضد الحكومة، وهو ليس ببعيد عن التحقق، فقد حملت السلاح من قبل ضد نظام عمر البشير قوى عسكرية تابعة لتنظيمي “مؤتمر البجا” و”الأسود الحرة”. وعمل “مؤتمر البجا” ضمن “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي حارب نظام البشير في تسعينيات القرن الماضي، ثم بعد مفاوضات وهدنة مع الحكومة، دبت الخلافات بين التجمع و”مؤتمر البجا” الذي عاد للعمل المسلح عام 2005، لأنه لم يقبل بأن يفاوض التجمع الحكومة في قضية الشرق نيابة عنه متهماً إياه بأنه اختطف القضية لصالحه. وفي 25 مايو (أيار) 2006، وقعت اتفاقية سلام شرق السودان في العاصمة الإريترية أسمرة بين نظام البشير وائتلاف ضم “مؤتمر البجا” وتنظيم “الأسود الحرة” باسم “جبهة شرق السودان”، ولكن لم يتم تنفيذ الاتفاق، مما أدى إلى مواصلة النزاع.
استباق التحول
إن كان انفصال جنوب السودان قد وضع السودان في مهالك أزمات اقتصادية لن يستطيع تجاوز آثارها على مدى عقدين مقبلين على أقل تقدير، فإن انفصال الشرق سيجر البلاد، إضافة إلى الأزمة المتعلقة بأنه المنفذ البحري الوحيد للسودان، إلى أن تكون دولة حبيسة، وهناك مشكلة تتعلق بتأثير موقعها الاستراتيجي على الأمن القومي للسودان والمنطقة.
وهناك حساسية بالغة بين السلطة في الخرطوم وشرق السودان طوال عقود ويفسر كثير من المواقف أو التصريحات الحكومية من قبل التنظيمات السياسية في الشرق على أنها إرهاب وتهديد وتشهير، للضغط على مواطني شرق السودان بعدم الخوض في ما سموه “المظالم التاريخية”.
ويعتقد كثير ممن يقودون أحداث الشرق أن الإقليم يعاني التهميش، بينما خيراته تذهب إلى السلطة في الخرطوم، وهذه حال كل أقاليم السودان، حتى القريبة من العاصمة مثل ولاية الجزيرة، فهي منذ الاستعمار وإقامة مشروع الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض يعتقد أهلها أن ريع الزراعة وخيرات المشروع وغيرها من منتجات المنطقة كانت تستفيد منها سلطة الاستعمار وبعدها الحكومات الوطنية من دون أن تسهم في تنمية الإقليم.
ولأن أزمة الشرق قديمة، فإنه لا يمكن وضعها في إطار ضيق كما يتم تصويرها فقط بأنها أزمة هامش ومطالب خالصة، ولكن هناك عوامل تتعلق بمسألة إشعال النزعات القومية خلال الفترات الانتقالية، أولاً، هيأت الاستفادة من هامش الحرية الذي أتاحته الفترة الانتقالية مناخاً للمطالب وممارسة الضغوط أكثر مما أتاحته النظم العسكرية، لأخذ هذا المطلب عنوة أو عن طريق المصادمة الحالية. ثانياً، محاولة الاستفادة من الضعف الحالي للسلطة وضمان تمرير أي قرارات بالضغط عليها قبل أن يستقيم عودها أو تتغير بواسطة قوى مدنية أو عسكرية أخرى. وثالثاً، استباق التحول المقبل من نظام الدولة القومية إلى نظام أوسع وأكثر شمولاً كالنظام الفيدرالي، وحينها سيكون إقليم الشرق بحكومة فيدرالية ستعوق انفصاله إلى دولة مستقلة.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية
مصدر الخبر