ما حكم الشرع في كتابة الأب ثروته للبنات؟
تنازل الأب عن ثروته لبناته في حال حياته تظل معركة متجددة في كل وقت وحين، وبخاصة في محافظات الصعيد، بسبب الرغبة التقليدية لغالبية عائلات الصعيد في حرمان بناتهم من الاستحواذ على ثروة الأب أو الحصول على ميراثهن الشرعي بخاصة إذا كان هذا الميراث أرضًا زراعية وأن بنات هذا الأب متزوجات بغرباء فتنتقل هذه الأرض إليهم وهو ما يرفضه أبناء العائلات والقبائل في عموم الصعيد وهو رفض يخالف ما أجمع عليه فقهاء الشريعة الإسلامية التي تعطي الأب الحق في كتابة ثروته وتنازله عنها وتسجيلها لبناته حتى لو بعقود صورية على سبيل العطية أو الهبة أو المحاباة وهو ما أفتى به فضيلة الدكتور علي جمعة وأيده في فتواه الدكتور أحمد كريمة والدكتور مجدي عاشور، وصاحب هذه الفتوى نوع من الجدل حسمته دار الإفتاء المصرية أخيرًا.
يروى في إحدى قرى الوجه القبلي أن رجلًا كون ثروة كبيرة من الأراضي الزراعية والفضاء والعقارات وغيرها بمساعدة بناته الثلاث وزوجته اللاتي كن دوما تواصلن العمل إلى جانبه في سبيل تكوين هذه الثروة حتى أصبح أكثر مالا من إخوته وأولادهم الذين كانوا يعايرونه بإنجابه للإناث من دون الذكور، وعندما تقدم الأب في العمر وتزوج البنات الثلاث، وظلت الزوجة تقوم على خدمته وتعتني به في مرضه رأى أنه من العدل والإنصاف كتابة كل أملاكه وثروته لبناته وزوجته اللاتي تعبن معه ومن أجله، وأنه لم ير من إخوته وأولادهم طوال حياته خيرًا سوى معايرتهم له ومضايقته طوال الوقت بخلفة البنات، فقرر الذهاب إلى جهات التوثيق وكتب عقودا صورية بكل ثروته لبناته الثلاث وزوجته خوفا عليهن من غدر الزمان بعد وفاته بخاصة بعد معاناته مع إخوته بسبب إنجابه لهؤلاء البنات، وأيقن أن كتابة أملاكه لبناته أولى وأفضل تأمينا لحياتهن ومستقبلهن، الشىء الذي أغضب إخوته وأولادهم وأوغر صدورهم عليه بمزيد من الحقد والرغبة في الانتقام، فزادت محاولاتهم للاعتداء عليه وعلى بناته، وعند وفاته رفضوا أن يسيروا في جنازته غيظا وكمدا بسبب حرمانه لهم من الميراث.
يعلق د. عبد الفتاح العواري عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر على هذه الواقعة بأنه لا يجوز اعتراض الأقارب على كتابة الأب ثروته وكل أملاكه لبناته؛ حيث تذهب بعض الآراء الفقهية إلى ضرورة مساوة الذكر بالأنثى في العطية من جانب الأب امتثالا لقول النبي صلي الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدًا لفضلت النساء).
خلال الفترة الماضية شهد المجتمع المصري جدلا واسعا حول مدى جواز كتابة الأب أملاكه وثروته لبناته وزوجته في حال حياته بخاصة إذا ما كانت خلفته من البنات من دون الذكور وعدم توريث أقاربه في ثروته بخاصة إذا ما كانوا يعايرونه بخلفة البنات من دون الذكور، وبادر عدد من العلماء لإبداء الرأي الشرعي حول هذا الموضوع كان على رأسهم فضيلة الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف الذي أكد أنه يجوز للأب في حياته منح بناته كل ثروته وأملاكه والتنازل لهن عنها حتى يتسنى لهن ضمان حياة مستقرة وسبل معيشة هادئة وكريمة، شرط ألا يكون الأب قد فعل ذلك بنية حرمان من يحق لهم الحصول على أنصبة من ثروته على سبيل الميراث ويتفق مع هذا الرأي الدكتور مجدي شحاتة مستشار مفتي الجمهورية الذي أكد أن الأب له الحق في كتابة ثروته وأملاكه لبناته كيف يشاء مادام متحريا لسبل الحلال ومن دون إسراف، وواصل قوله: هؤلاء البنات ربما في حاجة إلى هذا المال للاستعانة به في حياتهن على العيش الكريم والإنفاق على تكاليف التعليم أو الزواج وغير ذلك من مستلزمات الحياة، بخاصة أن الظروف الحالية في العالم على الصعيد الاقتصادي أصبحت من الصعوبة أن تحصل البنت على مساعدات أو إعانات من ذوي القربى للإنفاق على احتياجاتها.
وأضاف: والأب الذي يكتب ويتنازل عن ثروته لبناته إذا كانت ذريته من البنات دون أن يكون ذلك بنية حرمان الأقارب من الميراث في ثروته إنما يخشى على بناته وهن أقرب الناس إليه الحاجة والعوز بعد وفاته وهنا يجوز شرعا أن يعطيهن ما يشاء من ثروته وأملاكه في حياته مادام متحريا للحلال في ذلك ويتفق مع هذا الرأي الدكتور أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر ويرى أن الأب لديه الحرية الكاملة في كتابة أملاكه وثروته لبناته حتى لو كانت هذه الكتابة عقدا صوريا، معتبرا منع أو حجب البنات من الميراث في بعض المجتمعات نوعا من صور الجاهلية مؤكدا أن المساواة بين الذكور والإناث في العطية أو الهبة أمر مستحب شرعا لقول النبي صلي الله عليه وسلم: «لو كنت مؤثرا أحدا لآثرت النساء على الرجال»، وأبدى بعض أساتذة الفقه جامعة الأزهر اعتراضا على بعض المسائل في مدى جواز كتابة الأب ثرواته وأملاكه لبناته في حال حياته خشية عدم توريثهن أو مشاركة أقاربهن فيما تركه هذا الأب من ثروة إذا ما كانت كل ذريته من الإناث وحاولت دار الإفتاء المصرية حسم هذا الجدل الدائر بين بعض الفقهاء حول جواز كتابة الأب ثروته لبناته في حال حياته ونشرت على صفحتها الرسمية: «أن الشخص الواهب قد يعطي بعضا من أولاده عطاء زائدا على الآخرين نظرا لحاجته إلى هذه الزيادة كالإنفاق على مرض أصابه أو لكثرة عياله أو لصغر سنه أو لمساعدته على تكاليف التعليم أو الزواج وغير ذلك من الأمور التي تستدعي الزيادة في العطاء والهبة وفي هذه الحالة يكون الأب غير مرتكب لظلم ولا إثم عليه في ذلك لأنه تصرف فيما يملك حسبما رآه محققا للمصلحة».
وتذهب إحدى الفتاوى الشرعية إلى أنه يجوز للرجل أن يهب أملاكه وثروته لزوجته وبناته أو يبيعه لهن بيعا صوريا في حال صحته ولو مات الرجل بعد ذلك ليس لورثته المطالبة بشىء منها، وقد اتفق الفقهاء على أن بيع المحاباة من الصحيح غير المريض مرض الموت ولكنه إذا قصد الرجل بالهبة أو بيع المحاباة حرمان بقية الورثة فإنه يأثم ولكن هذا الإثم لا يبطل الهبة أو بيع المحاباة.
ويعلق الشيخ محمود صلاح من علماء الأزهر الشريف على حكم تنازل الرجل لزوجته وبناته عن تركته في حال حياته بقوله: أجاز الشرع تصرفات كل إنسان عاقل مؤهل للتصرف في ملكه فيهب ممتلكاته كيفما شاء ما لم يضر بمن ينفق عليه ومع ذلك أوجب على الأب العدل بين الأبناء ويجوز للأب أن يهب لبنات أخيه ما شاء من ماله إن كانت الهبة نافذة وليست معلقة بالموت ولم يقصد حرمان الورثة من نصيبهم الشرعي، ويجوز تقسيم الأب لماله بين بناته في حياته بالمساواة من دون أن يقصد حرمان بقية الورثة ويصبح هذا المال ملكهن في حياة الأب إذا ما تمت حيازته لهن لأن هذه الحيازة تعني قبض الهبة من الأب، وقبض العقارات يكون بتخلي الأب عن العقار، وقبض المال يكون بنقله من الأب إلي الشخص الموهوب له ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 29/20) والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء.
بوابة الأهرام
مصدر الخبر