ماذا تريد روسيا من السودان؟
تعود بدايات العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفييتي والسودان إلى يناير/ كانون الثاني 1956، بعد انفصال السودان عن مصر التي كانت ترتبط استراتيجياً خلال تلك المرحلة بالكتلة السوفييتية، وعبر نحو ستة عقود، مرّت هذه العلاقات بتحوّلات عديدة متناقضة في بعض الأحيان. ففي الستينيات، شهدت تطوّراً مطّردا، وتم توقيع اتفاقيات عديدة ساعدت على تطوير التعاون بين البلدين في شتى المجالات. ومع بداية السبعينيات، قطعت حكومة جعفر نميري العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، بعد فشل انقلاب الرائد هاشم العطا المدعوم من موسكو، وذلك حتى نهاية الثمانينيات. ومع انقلاب 1989، بدأت العلاقات تعود تدريجياً قبل أن ينهار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وإعلان السودان اعترافه الرسمي بروسيا الاتحادية في ديسمبر/ كانون الأول 1991. وصولاً إلى إبريل/ نيسان 2002، عندما زار وزير الدفاع السوداني، بكري حسن صالح، روسيا، وجرى التوقيع على اتفاقية تعاون عسكري بين الحكومتين، في مارس/ آذار 2003، خلال زيارة إلى الخرطوم أدّاها يوري خوزيانينوف نائب رئيس لجنة التعاون العسكري والتقني الروسية، كما جرى الاتفاق عام 2007 على تشكيل لجنة لتطوير التعاون.
تتعدّد أوراق القوة الاستراتيجية التي يتمتع بها السودان، وجعلت منه هدفاً لتنافس أطراف إقليمية ودولية عديدة، في مقدمتها روسيا الاتحادية، ومنها: أولا، الموقع الاستراتيجي في شرق القارة الأفريقية، وكونه حلقةَ وصل تربط بين دول شمال القارة وجنوبها وشرقها وغربها، كما يجاور حدوديًّا دولًا مهمة وعديدة، مصر وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا. وهو ما يعني التأثير على أقاليم ممتدّة تشهد تنافسًا عالميًّا وإقليميًّا حولها، مثل منطقة الساحل والصحراء، والشرق الأوسط والخليج العربي والبحر المتوسط، والبحر الأحمر والقرن الأفريقي. ثانيا، السواحل البحرية: حيث يمتلك السودان ثاني أطول ساحل على البحر الأحمر (نحو 720 كلم)، ما يزيد من أهميته في أمن البحر الأحمر، والتأثير على الملاحة التي تمر عبر مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وقناة السويس عند المدخل الشمالي للبحر الأحمر الذي يعدّ من أهم الممرّات البحرية في العالم، وهو ما زاد من حدّة التنافس الدولي والإقليمي على الموانئ السودانية عليه. ثالثا، العمق الاستراتيجي: حيث تصل مساحة السودان إلى 1,886,000 كم²، يحتل بها موقع ثالث أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا بعد انفصال الجنوب عام 2011 (مساحة جنوب السودان 644,329 كم²)، وهذا الامتداد الجغرافي فضلًا عن منافذه البرية الممتدة جعلته يمتلك منفذًا بحريًّا استراتيجيًّا يستمد جانباً كبيراً من أهميته من أنه منفذ لدول في الجوار تصنّف مغلقة، لكونها ليس لها سواحل بحرية، مثل تشاد وجنوب السودان، وأفريقيا الوسطى، وإثيوبيا. ويعدّ ميناء بورتسودان أهم الموانئ السودانية، كما تعد مدينة بورتسودان مركزًا لوجستيًّا وتجاريًّا مهمًّا مع وجود مصفاة نفط رئيسية فيها. رابعا، الثروات الطبيعية: يتمتع السودان بوفرة في الموارد والثروات الطبيعية، كاليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط، حيث يمتلك ثالث أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم، و ثالث أكبر احتياطي في أفريقيا من إنتاج الذهب، والثالث عشر عالميًّا، فضلًا عن وجود نحو 220 مليون فدّان صالحة للزراعة وثروة حيوانية تقدر بأكثر من 150 مليون رأس، ما يؤهله لأن يكون سلَّة غذاء العالم، وخصوصا مع وفرة مياه الأمطار والأنهار التي يتمتع بها. خامسا، القواعد العسكرية: خلال زيارة قام بها الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، طالب الروس بإقامة قاعدة لهم في الأراضي السودانية على البحر الأحمر لحماية بلاده من التهديدات الأميركية، وفق تصريحاته، وارتبطت دعوة البشير باعتباراتٍ عديدة، منها وجود هواجس من إمكانية إعادة الرئيس الأميركي ترامب فرض العقوبات على بلاده، كما أراد التلويح لواشنطن بأن إبقاء بلاده على قوائم الإرهاب سيجعلها تتحرّك نحو موسكو، هذا بجانب مكافأة روسيا على مواقفها المؤيدة له في المحافل الدولية، بداية من المحكمة الجنائية الدولية، ورفض موسكو القرار الصادر بحق البشير عام 2008، وانسحابها عام 2016 من التصديق عليه، وكذلك موقف روسيا من أزمة دارفور وعملية تدويلها، ودعمها خفض عدد قوات “يوناميد” الأممية ـ الأفريقية المشتركة العاملة في السودان، حيث دفعت باتجاه صدور قرار من مجلس الأمن بالإجماع في يوليو/ تموز 2017، بشأن الخفض التدريجي لهذه القوات بنسبة 40%، تمهيدا لإحلال القوات السودانية محلها.
لا يدرك كثيرون من قادة الانقلابات العسكرية في القارّة أن النظام الروسي، إذا ما طال أمد الحرب في أوكرانيا، قد لا يكون قادراً على حماية أمنه، فكيف له بأمن الآخرين؟
واتفاقية القاعدة العسكرية التي ناقشتها الدولتان تم رفعها إلى مجلس الدوما الروسي الذي أقرّها ورفعها إلى الرئيس بوتين الذي صادق عليها بصفة نهائية في 16 فبراير/ شباط 2020، سعياً نحو تعزيز حضورها في شرق القارّة الأفريقية ووسطها، بعد التسهيلات التى حصلت عليها في الصحراء الغربية المصرية وشرق ليبيا، وتمدّدها في تشاد وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، وهي منطقة تُشكل سوقاً للسلاح ومصدراً مستقبلياً ضخماً للموارد والثروات الطبيعية. وفعلياً بدأت روسيا بالفعل في بناء القاعدة في “فلامنغو” على البحر الأحمر، ووصلت إلى المنطقة قوات وخبراء من روسيا (حوالى 300 عنصر) بدأوا بخطوات التنفيذ، عبر نصب المعدّات الخاصة بهوائيات الاتصالات، وأعلنت أنها قدّمت للسودان من الخدمات ما يؤهلها للحصول على قاعدة لوجستية لصيانة قطعها البحرية الموجودة في البحر الأحمر، وأنها أوفت بالتزاماتها وقدّمت المقابل الذي جرى الاتفاق عليه بين الطرفين.
وقد نصّت بنود الاتفاقية على أن تكون مدتها 25 عاماً قابلة للتجديد عشرة أعوام إضافية، مع عدم منح أي قوة أو دولة أخرى مركزاً لوجستياً مماثلاً على ساحل البحر الأحمر، وألا تكون للسودان أي ولاية قانونية داخل منطقة القاعدة، فضلاً عن تقديم القاعدة الخدمات لسفن ذات طبيعة نووية، وإقامة إنشاءات على الأرض المحاذية لساحل القاعدة بحوالى 50 كيلومتراً إلى الداخل السوداني، يتم فيها نصب هوائيات وأجهزة تنصت، ويتم استخدامها في عمليات الإصلاح والتموين وإعادة الإمداد لأفراد أطقم السفن الروسية. ويحق للجانب السوداني استخدام منطقة الإرساء، بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي، وتحدد الاتفاقية إمكانية بقاء أربع سفن حربية حدّا أقصى في القاعدة البحرية، ويحقّ لروسيا أن تنقل عبر مرافئ السودان ومطاراته أسلحة وذخائر ومعدات ضرورية لتشغيل تلك القاعدة.
تراهن نظم الانقلابات العسكرية والاستبدادية العربية على نظام بوتين لضمان أمنها وبقائها، وتراهن روسيا على هذه النظم في تعظيم ثرواتها ونفوذها في القارّة الأفريقية
وقد جرى التوقيع على إنشاء القاعدة العسكرية البحرية الروسية في السودان فعلياً في عهد البشير، لكن أهميتها تعاظمت لحكّام السودان الجدد بعد انقلابي يونيو/ حزيران 2019، وأكتوبر/ تشرين الأول 2021، حيث أعلنت روسيا دعمها الانقلاب. وفي قمة سوتشي، أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تعهّد الرئيس، بوتين، بتنفيذ عدة اتفاقيات دفاعية روسية مع السودان، تحت مسمّيات مختلفة، منها: إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية السودانية وتعزيز قدراتها وقواتها، والتعاون في المجال النووي السلمي، وزيادة الصادرات من الأسلحة الروسية إلى السودان التي تأتي في المرتبة الثانية أفريقيا بعد الجزائر في حجم هذه الصادرات. وفي هذا الإطار، تعدّدت زيارات المسؤولين السودانيين إلى روسيا، مثل وزيرة الخارجية السابقة مريم الصادق المهدي، ووزير الدفاع ياسين إبراهيم ياسين، ثم زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حميدتي، بين 23 فبراير/ شباط و3 مارس/ آذار 2022، لتعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية بين الطرفين، كما تردّد كذلك الحديث عن نقل كميات ضخمة من الذهب السوداني إلى روسيا.
وفي السادس من فبراير/ شباط 2023، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الخرطوم، أكّد خلالها إن روسيا والسودان متفقتان على “التوجّه نحو عالم ديمقراطي متعدّد الأقطاب”، وأن موسكو تنتظر موافقة الخرطوم بشأن بدء العمل الجادّ في قاعدة فلامنجو، وضرورة التنسيق المشترك في المحافل الدولية لإصلاح الأمم المتحدة، في ظل التحديات التي تواجهها روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية.
وفي إطار هذه الاعتبارات، يمكن القول إنه في الوقت الذي تراهن فيه نظم الانقلابات العسكرية والاستبدادية العربية على نظام بوتين لضمان أمنها وبقائها، تراهن روسيا على هذه النظم في تعظيم ثرواتها ونفوذها في القارة الأفريقية، ومحاولة فكّ الدائرة الحديدية التي تحاول الولايات المتحدة فرضها عليها، ولا يدرك كثيرون من قادة الانقلابات العسكرية في القارّة أن النظام الروسي، إذا ما طال أمد الحرب في أوكرانيا، قد لا يكون قادراً على حماية أمنه، فكيف له بأمن الآخرين؟ كما لا يدرك هؤلاء القادة أن الولايات المتحدة لن تسمح لأيٍّ منهم بالتغريد خارج السرب الذي ترسم خطوطه في مواجهة روسيا والصين، وإلا فأدوات إسقاطهم جاهزةٌ للتحريك أقرب مما يظنون.
روسيا اليوم
مصدر الخبر