لماذا قامت الحرب في السودان ؟
في مستوى السطح الناس بتردّد حكايات من أطلق الطلقة الأولى في السودان ؛
لكن ماف طلقة بتقوّم حرب، وإنّما فيه أسباب سياسيّة موضوعيّة بتموّن الحروب؛
ناقشت السؤال دا في المستوى السياسي قبل فترة [١]؛
اليوم داير أناقشه في مستوى أعلى من التجريد؛
مستوى فلسفي ممكن نقول؛
دايرين نناقش الحكمة من قيام الحرب؛
ما من منظور أطرافها، وإنّما من منظور أعلى؛
وحتّى لو كنّا مؤمنين بالخالق فلسنا نحيط بحكمته؛
حدّنا نقول “حكمة الحياة”؛
مصلحة الحياة شنو في حرب زي دي، إن كانت؟
على وجه الخصوص: مصلحة الحياة شنو في الموت والخراب؟
السؤال قد يبدو ما عنده معنى للوهلة الأولى؛
لكن بخلافنا نحن العمرنا ما بتعوّض، وحياتنا ما بتجدّد؛
فالحياة ككل ما عندها أزمة زي دي: بتموت إنت وبجي غيرك؛
وأصلاً إنت حتموت يعني، وأصلاً غيرك قاعد يولد بشكل مستمر!
للإجابة على هذا السؤال عن جدوى الحرب فخلّينا نتساءل عن كيفية نهايتها؛
ولأنّنا ما شفنا النهاية لسّة، فممكن نراجع نهاية آخر حرب كبيرة خضناها؛
حربنا مع الكورونا، والحصدت ملايين الأرواح في كوكبنا؛
انتهت كيف؟!
هل الكورونا انقرضت؟!
في الحقيقة بنلقى حصيلة اجتياح كوڤيد لمجتمعنا البشري كانت عبارة عن عمليّة تزاوج كبيرة جدّا بيننا وبين كورونا؛
حصل فيها تلاقح كبير بيناتنا؛
واالله صحي، بالمعنى الحرفي؛
الحاجة دي حصلت من غير ما نقيف ونفكّر فيها؛
لكن خلّيني أذكّرك؛
دحين إنت مش أخدت حقنة “لقاح”؛
إنت قايل اللقاح دا شنو؟
اللقاح دا جزو من الكورونا ذاتها؛
مستخرج من البروتين حقّها؛
“حقنوك” بيه شان تتعوّد عليها؛
حقنوك ضززز كدا بي “لقاح” الكورونا؛
فهمت يا أستاذ؟
فهمتِ يا ست؟!
يعني الكورونا أجبرت البشر، حتّى الما وصلتهم، يشيلوا أجنّتها، الجينز بتاعتها، داخلهم؛
الحاجة دي بمثابة باسبورت بيسمح لڤيروس كورونا يدخل جسمك ياخد إجازة ويطلع من غير ما تجيب خبره؛
أو على الأقل من غير ما يجيب خبرك؛
فالحصيلة إذن إنّه الكورونا ما انهزمت في الحرب دي؛
هل إنتصرت؟!
برضو لا؛
في مقابل التأقلم الحصل لينا، فبرضو حصل “تدجين” للكورونا؛
بدل ما كانت متوحّشة وقاتلة، بقت أكثر تصالحاً مع أجسادنا؛
على وجه الخصوص فمجتمع الكورونا تخلّص من الفصائل الوحشيّة القرضت الناس، “الكورونا الضكر” [٢]، وفضلت الفصائل الأكثر تصالحا معانا؛
فالحصيلة حصول مصالحة بيناتنا وبين الكورونا؛
تزاوج أنتج بشر أكثر تحمّلا للكوڤيد، وكورونات أكثر تسامحاً مع البشر؛
والمجتمعين تخلّصوا من المتطرّفين عندهم؛
أو على الأصح، “الحياة” تخلّصت من المتطرّفين على الجانبين.
بعد كدا نرجع لموضوعنا؛
المثال مشابه تماماً؛
الحرب دي في حصيلتها عمليّة تزاوج بين مجتمعين كبيرين داخل السودان وحوله: مجتمع مدني ومجتمع قَبلي؛
وعمليّة التصاهر ما وقفت عند المجتمعين المحلّيّين ديل، بل شملت العالم كلّه، حرفيّا!
هي ثورة كبيرة لمجتمعات بُدائيّة نجحت تلفت العالم كلّه لوجودها، وتتلاقح معاه بشكل في غاية الاتّساع شان تعيد تشكيل الخريطة الاقتصاديّة والسياسيّة والديموقرافيّة والثقافيّة؛
في أدنى مستوى، فالحرب دي حرّكت ما لا يقل عن مليار دولار كانت راكدة في قلب العاصمة، معظمها تدفّق غرباً عن طريق شبكات النهب والتهريب، وجزو منّها اتدوّر قبله عبر طبقات المجتمع، زي ما ناقشت قبل كدا [٣]؛
الحاجة دي خلقت وحتخلق انعاش اقتصادي كبير شديد في المناطق والطبقات الاجتماعيّة التدفّقت ليها الأموال دي؛
لكن ما هناك بس، وإنّما الفقد الحصل في مجتمع الخرطوم ح يخلق انعاش اقتصادي مماثل هنا برضو؛
الانعاش الاقتصادي ما بكون بتكدّس الثروة وإنّما بيكمن في سيولتها؛
فدي عمليّة تحريك إجباريّة ضخمة جدّا للاقتصاد؛
وقدر الثروات السالت غرباً عبر النهب والتهريب، فيه ثروة مماثلة تدفّقت شرقاً وشمالاً عبر النزوح؛
المليون نفر النزحوا ديل ممكن تحسب ألف دولار للراس ما بين سفر وإقامة ورشاوي وتسهيلات وعمولات وغيره؛
ومثل المبالغ دي فيه ثروات ضخمة تحرّكت في تجارة السلاح؛
وفيه عمولات دوليّة كبيرة برضو؛
وايييييك!
إنّما الأثر الأكبر من الاقتصادي هو التأثير الاجتماعي والتلاقح الثقافي؛
هل حصل أيّ تلاقح ثقافي بيننا وبين الجنجويد؟!
بالحيل!
غصباً عنّنا وعنّهم؛
فحتّى الفرد السوداني العايش في أكثر الدول أماناً، صارت كوابيس الحروب تقلق منامه؛
كلّنا؛
حتّى لو ما سمعنا صوت القصف والرصاص، ح تلقانا اضطرّينا نشوف مناظر الدم، ونطوّر وعي عسكري؛
وكلّنا على الجانب المتمدّن، بلا استثناء، ازداد عندنا الوعي بالخطر؛
وحصيلة ذلك في النهاية ح تكون انتشار ثقافة التعامل مع السلاح والدفاع عن النفس والخ؛
واللي هي دي الثقافة المنتشرة بشكل طبيعي في المجتمعات الجايين منّها الجنجويد؛
حيث لا وجود للدولة بالصورة البنعرفها نحن؛
بتدافع عن حرماتك بسلاحك!
في المقابل، فجزو كبير من ثقافة المدينة انتقل للجنجويد؛
أو اتزرعت بذرته، لو تحرّينا الدقّة؛
وأفضل تجسيد للحاجة دي هي صورهم النشروها داخل منازل المدينة؛
الصور دي في الحقيقة انطبعت أكتر في نفوسهم؛
..
خلًونا نختصر الكلام؛
الجنجويد شافوا ولمسوا نعمة المدينة، وحيفضلوا باقي عمرهم يبحثوا عنها؛
وأذاقونا قسوة البادية، وحنفضل باقوا عمرنا نهرب منّها؛
يعني قاسمونا أمننا، وقسموا لينا من خوفهم!
والآن؛
ما الفائدة من كلّ هذا التأمّل؟!
(وان كان مختصر شديد بالمناسبة)
ما يطلع فلسفة ساي 😄؛
الحكمة من استيعاب حكمة الحياة إنّنا نتعلّم نسايرها بدل نتحدّاها؛
لو استوعبت الكلام المقتضب دا كويّس يمكن يغيّر نظرتك للحرب من أوّلها لآخرها؛
ونظرتك للحياة كلّها؛
الناس الرافعين شعار “لا للحرب” بيشوفوا للناس المنحازين لأحد جانبيها، زيّنا، بشوفوهم أنانيّين؛
ومن الصعب جدددا على أحدهم أن يعي حجم الأنانيّة التي يمارسها بموقفه المطلق ضد الحرب؛
“الحلول التفاوضيّة” البتكلّموا عنّها دي حلول مبتذلة خالص، بتحل مشكلة قطاع محدود من المدنيّين، من غير ما تعالج جذور الأزمة؛
بتمنح حميدتي وعشيرته حظوة داخل المجتمع المدني، مقابل الاحتفاظ بامتيازات أهل المدينة وحرمان الآخرين؛
لمن واحد لابس بدلة يقول: “ماف حل غير دمج الميليشيا في الجيش”؛
فالحل البتكلّم عنّه دا حل مؤقّت لمشكلة تهديد الميليشيا لمجتمع المدينة؛
لكن ما حل مشكلة تطلّع حاضنة الميليشيا الاجتماعيّة للاندماج في المجتمع المدني؛
بدخّلهم في المدينة من الباب الغلط؛
يعيّنهم حرّاس على قانون هم ما مدركين قيمته ولا متوافقين عليه؛
والنتيجة إنّهم ح ينفذوا قانونهم هم “البُدائي” عبر أدوات إنفاذ القانون بتاعة الدولة الحديثة؛
والنتيجة هي الكارثة النحن فيها دي؛
و”بدائي” هنا ما مقصود بيها إساءة أو ازدراء، وإنّما توصيف فنّي لمستوى تعقيد الوعي والقوانين التابعة ليه؛
خلاصة الكلام إنّنا نتعلّم نرعى ونطوّر عمليّة التلاقح الاجتماعي والثقافي والفكري والاقتصادي بصورة واعية وإيجابيّة قبل ما الحياة تفرضها علينا بصورة قسريّة؛
الحرب ح تنتهي ان شاء الله بالتخلّص من العناصر المتطرّفة على الجانبين؛
ح ينتهي حميدتي وعشيرته الدايرين يخضعوا المدينة لسلطة البادية؛
وحينتهي النادي النخبوي الرافض يتنازل عن امتيازاته لصالح توسيع دائرة التمدّن!
قوموا إلى “صلاتكم” يرحمكم الله.
عبد الله جعفر
مصدر الخبر