السياسة السودانية

لعبة النار.. كيف تُصنع الأزمات: ناصر نموذجًا

بقلم: أجوك عوض

مشهد مُعد بعناية

تصاعدت الأحداث في ناصر بوتيرة متسارعة، وتناغمت التطورات الميدانية مع القرارات الرئاسية المفاجئة، التي جاءت في جوهرها رسائل استفزازية تهدف لاستنفاد رصيد الصبر وطاقة الاحتمال، وتعجيل الانفجار.

كل ذلك يؤكد أن المشهد برمته مُخطط بعناية للوصول إلى نتيجة محددة، باستثناء مقتل قائد المنطقة العسكرية اللواء مجور داك، حيث إن ملابسات مقتله لم تكن متوقعة، مما أضفى على الموقف لونًا أكثر قتامة.

التصريحات النارية الصادرة عن قيادات رفيعة في الدولة أبرزت ما بين السطور.. الخطة تمضي قُدمًا، وفق عقلية متعنتة تلوح بالاستعلاء والتهديد، في نهج واضح مفاده: “ارمِ قدام، وراء مؤمَّن” بعد تدجين المعارضة التي اكتفت بثدي السلطة يجري الآن التخلص من الغريم العنيد بعد إنهاكه.

ويبدو أن الحكومة جناح سلفاكير قد أخذت جميع التدابير اللازمة لتصعيد الأزمة، ويتضح ذلك من تصريح السيد نائب الرئيس بنجامين بول ميل، خلال مراسم تشييع اللواء مجور، حين قال:

“نحن نرصد كل التحريات في ناصر، ولدينا أجهزة تحدد من يحمل السلاح ومن لا يحمل.”

غير أن من السذاجة بمكان توجيه سؤال مباشر له:

إذا كنتم قادرين على تحديد من يحمل السلاح، فلماذا إذًا استهدفتم المواطنين الأبرياء الذين لا يحملونه بالقصف المدفعي والقنابل الحارقة؟

فقه الإخماد.. على خُطى الجيران

للأسف، قررت جوبا اتباع نهج “فقه الإخماد” بإصدار حكم إعدام جماعي على أهالي ناصر دون استثناء، متذرعة بأنها تواجه عدوًا يرتدي أكثر من قبعة، فاختارت الاستئصال الكلي، مستلهمة منطق “استهداف الحواضن”.

ولو كانت الحكومة حريصة فعلًا على أرواح الأبرياء، لوجدت طرقًا عدة لتجنيبهم لظى القصف، عبر إجلائهم أو إبعادهم عن ساحة المعركة.وهي تدري انها تتعامل مع وضع حساس و تتحرك بين الإلغام. لكن الواضح أن الحكومة تمسك بجميع خيوط اللعبة وتتحكم في مسرح العمليات.

وفي الوقت نفسه، يواصل إعلام النظام هوايته المفضلة، ممارسًا العجرفة والفجاجة، معلنًا بفخر:

“قواتنا قصفت ناصر، وهي بداية عملية عسكرية لاستعادة المدينة.”

خطاب إعلامي يُجسّد الاحتفاء بوجع هذا الشعب المسكين ومرارته، بل ويتعمد الاستهانة بكرامته، في مشهد مأساوي لقادة صعدوا على أكتاف هذا الشعب الذي مهر بدمائه مشوار الكرامة، ليجد نفسه اليوم مسترخصًا مستباحًا!.يتحدث الي الصحافة مستكبرا فرحا كأنه يبشر بإفتتاح محطة مياه شرب نقية في منطقة نائية أو يزف الي الناس ما ينفعهم.

ما جريمة أهالي ناصر؟

السؤال الجوهري: ما الجريمة التي اقترفها أهالي ناصر ليستحقوا هذا العقاب الجماعي والموت المجاني من حكومتهم؟

الإجابة ببساطة: لم يفعلوا أكثر من رفع شكاوي ومطالبة السلطات برفع الضرر عنهم، باستبدال القوات المتمركزة في منطقتهم منذ ثماني سنوات، بقوات جديدة كما نصّت الاتفاقية.

طالبوا بحل مشاكل ناتجة عن تقصير الحكومة في تنفيذ الاتفاقات والقيام بواجباتها، لا أكثر.

جذور الأزمة.. سلاح منفلت وحكومة غائبة

الانتشار العشوائي للسلاح بين المواطنين حوّل ناصر إلى ساحة يحكمها قانون الغاب، حيث البقاء للأقوى.

في ظل غياب الدولة، فشلت الحكومة في جمع السلاح، واتبعت منهجًا أحاديًا في نزع السلاح، فكانت النتيجة فشل العمليات واضطرار الأهالي لتكوين مليشيات محلية للدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم.

لم تكن مشكلتهم وليدة اللحظة. فمنذ سيطرة الحكومة على المنطقة عام 2014، ظلت القوات الحكومية مرابطة دون أبسط مقومات البقاء، بعد أن تخلت عنها الحكومة ،لا تتقاضي مرتبات بعد أن أصبحت تصرف سنويًا أو نصف سنوي بوجه عام

ورغم توقيع اتفاقية نصّت على إعادة تشكيل قوات مشتركة، لم تُستبدل تلك القوات، وتواصلت التجاوزات من عمليات نهب قوت الأهالي والاعتداء على اعراضهم  من قبل قوات تقطعت بها السبل لسنوات طوال، في ظل غياب الإرادة السياسية لتنفيذ الاتفاق.لم تسطيع القيادة العليا للجيش الشعبي استعياب بأن مرحلة ادارة الدولة تختلف عن أسلوب  الغابة . 

دائرة مفرغة.. واتفاقيات معطّلة

كل تلك المشكلات مترابطة، حلّ أحدها يفضي إلى حل الآخر، لكن الحكومة اختارت مسار الانتقام الصامت، متقاعسة عن تنفيذ الاتفاقيات، مفضّلة تمديد الفترة الانتقالية لأجل غير مسمى بذريعة الحجج الواهية.

كان بإمكان الحكومة قطع الطريق على المليشيات المسلحة بفرض سيادة القانون والتزامات الاتفاق، لكن برودها في التعامل مع واقع متأزم يعقّد الأزمة، ويفتح الباب أمام انفجار شامل يصعب احتواؤه لاحقًا.

وبالطبع، لا نُبرّر ما تقوم به المليشيات، ولا نبارك حمل السلاح كوسيلة لتحقيق المطالب، فهذا يفتح صندوق شرٍّ لا قرار له.

لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن السلطة تتحمل نصيب الأسد من تفاقم الوضع، نتيجة لسياسة التراخي والتواطؤ المقصود.فقد صبر أهالي ناصر علي المكاره.

قيادة بلا بوصلة.. ورهانات على دماء الأبرياء

بينما يظن الدكتور رياك مشار أن الحنكة السياسية تعني وضع أكثر من طبخة على النار، واضعًا قدمًا في أروقة السلطة، وأخرى عند عتبات الغابة،مع استغلال البسطاء وإستمالتهم لعقد تحالفات مرحلية لن تلبث أن تنتهي بالوصول لكرسي السلطة.وتركهم لمواجهة مصيرهم.

 لا يكترث الرئيس سلفاكير  بلعبة البيضة والحجر  غير مبالٍ بأن الثمن هو دماء الأبرياء وكرامتهم.

قيادة بلا بوصلة، تُمارس القهر، وكأنّ الضحايا فئران حقل تُجرى عليهم تجارب الهيمنة.فماذا يعني أن تستقوي الحكومات علي شعوبها المستضعفة.هذا الشعب وجد نفسه بين مطرقة الأنانية و سندان البطش .كل ذلك مرده الي خلافات شخصية بين الرجلين نتاج انهيار جذور الثقة بينهما.

ما تُنفقه الحكومة على حياكة المؤامرات، لو أنفقت ربعه على تنمية البلاد، لعبرت إلى بر الأمان.

لكن بدلًا من ذلك، تواصل التهديد والوعيد، وتغرق في رفاهية النخبة على حساب شعب مسحوق، يعاني الجوع والفقر المقع يعيش على الكفاف، في وقتٍ ينعم فيه المسؤولون بسيارات فارهة وسفرات واستشفاء خارجي.ومع ذلك تستخسر عليها القيادات الجلوس بسلام علي مقاعد الفرجة ؟!

التهجير والتجويع.. سياسة مكشوفة

الجيش الابيض في ناصر ليس استثناء  التجربة متكررة  في أكثر من منطقة بجنوب السودان، والسبب ذاته وقد تضافرت عوامل عدة لهذا الاضطرار حيث انعدام مشاريع التنمية، وارتفاع معدلات البطالة، وغياب الدولة ولكن الدولة تتعامل  بمنطق 

             والقاه في اليم مكتوفي اليدين

              وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

ومع كل أزمة، تُدفع الشعوب للجوء إلى دول الجوار، لتتولى المنظمات الإنسانية سدّ العجز.

لكن، ما عادت المنظمات قادرة على تغطية هذا الفشل الذريع، في ظل تقليص الدعم الخارجي، كما صرّحت منسقة الشؤون الإنسانية أنيتا كيكي، بأن العنف الأخير أدى لتشريد 50,000 مواطن، وعشرات الآلاف عبروا إلى إثيوبيا.ويعيش الناس أوضاعا إنسانية مزرية القنابل الحارقة من خلفهم وتفشي الكوليرا ،و الخريف أمامهم .مع انهيار تام في القطاع الصحي.

هل تعي الحكومة أن هذا المسار ليس في صالحها، محليًا أو دوليًا؟لا نظنها ترهق نفسها بقراءت الواقع طالما أنها ليس تحت طائلة المعانأة.

متى ندرك حجم المأساة؟

الرجولة الحقيقية ليست في افتعال الأزمات، بل في التصدي لها وحلها.

لو أن جلسات توقيع اتفاقيات السلام انعقدت في معسكرات اللاجئين، بدلًا من الفنادق الفاخرة، لما اندلعت الحروب مجددًا.

المرأة الجنوبية سئمت الحزن والوجع، وجيل كامل ترعرع على وقع المآسي ذاتها، وينجب اليوم أطفالًا في نفس الظرف البائس. إلى متى تصرّ القيادة على مصادرة أحلامنا، وحقنا في الحياة بكرامة؟


المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى