لا شيء ينصف ضحايا الاسترقاق (2 -2)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
مهما يكن أمر، فقد خصَّصت جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكيَّة أفضل عقولها للإجابة على هذا التسآل الملحاح الذي استهلنا به هذا المقال بتخصيص 100 مليون دولار في سبيل تعويض أحفاد الرِّقيق. هذا هو المبلغ الذي وضعته جانباً هذه الجامعة الأمريكيَّة العريقة كميزانيَّة التعويض بعد أن نشرت تقريرها عن الرِّق، وذلك في شكل مشروع استغرق أربع سنوات في توثيق علاقات الجامعة التاريخيَّة بالرِّق، وارتباطها بالعزل العنصري. في التقرير إيَّاه يجد القارئ حقائق مؤلمة عن تاريخ مؤسَّسة اجتماعيَّة-اقتصاديَّة يعرفها الجميع، وكانوا في الماضي يحترمونها ثم يحبونها، لكنك مستعد للبكاء بأسف وحرقة على الوسادة بعد قراءة التقرير. إذ استمرَّت الإعدامات خارج نطاق القانون، وظلَّت واقعة ممارسة في الولايات المتحدة حتى خلال الثلاثينيَّات وما بعدها. وفي الحين نفسه كانت هذه الإعدامات حدثاً شعبيَّاً للمشاهدة بالنسبة للنساء والأطفال البيض. لقد تنكَّر هؤلاء البيض لسنة الحياة، وتناسوا أنَّ ما يجمع بين البشر من خصائص وصفات أكثر مما يباعد بينهم، وذلك لسبب بسيط، هو أنَّهم ينتمون إلى نوع إنساني واحد.
من يقرأ التقرير يدرك أنَّ الجامعة كانت تحتفظ – على الأقل – بحوالي 70 عبداً قبل العام 1783م، واستفادت من التبرعات الهائلة من اثنين من تجار الرِّق. تأسيساً على ذلك، كان الرِّق جزءاً لا يتجزأ من مؤسَّسة الجامعة، وكان بعض ارتباطات الجامعة بمؤسَّسة الرِّق ارتباطاً غير مباشر. إذ هناك التاجر البوسطني (من مدينة بوسطن عاصمة ولاية كومونويلث ماساتشوستس)، وهو الذي كان يتاجر بالسكر الذي كان العبيد يستميتون في زراعة قصبه في جزر البحر الكاريبي، ثمَّ هو الذي تبرَّع للمستشفى التابع للجامعة دون غيرهم من التجار الآخرين. إنَّ 10 بليون جنيه إسترليني المتراكم بواسطة مفوضي الكنيسة في بريطانيا مصدره تجارة الرِّق، وبخاصة الرِّق السلعي عبر المحيط الأطلسي إلى الأميركتين. وإنَّ بعضاً من رجال الدِّين داخل الكنيسة قد ساهموا واسترزقوا من هذه التجارة في البشر، التي تعتبر مصدراً للعار. إذ ما زالت الكنيسة مستفيدة من عائدات هذا المال في شكل استثمارات. جاء الدخل من الاستثمارات في شركة البحر الجنوبي، التي بدأ نشاطها التجاري الرئيس العام 1715م في تجارة الرِّق، وتوقفت العام 1739م. هذه الاستثمارات هي نتيجة سخاء أو هبة الملكة آن، وقد ابتلع مفوضو الكنيسة هذا الدعم الإكليركي العام 1948م.
في واحد من أقبح القصص تمَّ ترحيل خمسة عبدان أفارقة إلى مدينة بوسطن العام 1860م لعرضهم في حديقة المتحف كنماذج حيَّة للوحشيَّة. كذلك هناك قصة صبي يُدعى ستورمان، وهو الذي كان يبلغ من العمر 17 عاماً، ثمَّ هو الذي كان قد انتحر شنقاً، وتمَّ نقل جثمانه إلى الجامعة للتشريح بواسطة عالم من علماء العنصريَّة يُدعى جيفريز وايمان. كان وايمان واحداً من هؤلاء الشواذ الغوليين الفيكتوريين (نسبة إلى العهد الفيكتوري)، الذي كان يتم الاحتفاء به في العديد من الدوائر الرسميَّة والشعبيَّة، ثم كان مهووساً بمقاييس الجماجم والعظام، وهو كان زعيماً بأنَّ هذه الاختلافات البشريَّة يمكن أن تكشف السمات العرقيَّة التي يمكن أن تعود بالفائدة في تنظيم طبقات المجتمع. وفقاً إلى ذلك الفهم المعوج شرع وايمان في قياس الهيكل العظمى لستورمان بالقياس إلى أنواع القردة، ومن ثمَّ خلص – باستياء مستعظم – إلى أنَّه ينتمي إلى العائلة البشريَّة. إذ ما زالت جمجمة الصبي المستضعف حاضرة من ضمن مقتنيات جامعة هارفارد.
هذا هو نمط القصص الذي يستوجب معرفته عن تواريخ المؤسَّسات القديمة التي طالما ملأت الأرض شأواً وعظمة. حاولت هارفارد السمسرة بارتباطاتها بدعاة إلغاء العبوديَّة، ونشطاء مطالبي الحقوق المدنيَّة، ثمَّ تفاخرت بأوائل خريجيها وأساتذتها السُّود. كذلك لزاماً علينا أن نكشف الأقنعة عن هذه الصُّور القميئة برغم من أنَّ الجامعة قد سعت سعياً حثيثاً في أن تستجلب التهاني الذاتيَّة لنفسها ودورها في المجتمع. وفي الحق، هل هذا هو ما نحن مدينون للموتى: الذكرى مما عانوا منه وعلى يد من، ولماذا؟
إذاً، ما هو دور ال100 مليون دولار؟ لقد تمَّ تخصيص هذا المال لتعليم الأطفال السُّود، وسكان أمريكا الأصلاء (الهنود الحمر)، وتمويل الأبحاث والشراكة مع جامعات السُّود التاريخيَّة، وبناء العلائق مع أحفاد أرقاء جامعة هارفارد. لا شك في أنَّ هذه المشروعات جديرة بالاهتمام، لكن المستحقين الحقيقيين لهذه التعويضات غير موجودين على قيد الحياة، فضلاً عن أنَّهم مجهولون، لأنَّ ضحايا الجرائم قضوا نحبهم منذ فترة ليست بقصيرة، وأمسوا عظاماً نخرة. ليس هناك من ثمة شيء يمكن أن يجلب العدالة لهؤلاء الضحايا. إذا كان بإمكان المال شراء الخلاص، فهل 100 مليون دولار (0.18% من الهبات التي تحصل عليها هارفارد) كافية؟ ولِمَ لم يتم تخصيص ميزانية أكبر؟ إذ مضى أحد الكتَّاب قائلاً إنَّه ليرى أنَّ من الأفضل بيع الجامعة بأكملها، ومنح ثرواتها إلى ليبيريا، برغم من أنَّ ذلك سوف لا يغيَّر من أمر الماضي شيئاً. وقد قال قائل آخر إنَّه ليحمل رؤية فضلى ألا وهي أن نترك التاريخ للتاريخ، ونترك المال للعالم الحديث، وذلك بمشكلاتها وحلولها. ومضى هذا الزعيم الدَّعي صاحب الرؤية الفضلى سائلاً مستنكراً: هل ماضي هارفارد ملائم؟ وأجاب على سؤاله الاستهجاني بنعم في حال الاحتفاء بها، أو البحث في إرثها. ثم أضاف سؤالاً آخر ألا وهو: هل الجامعة ملائمة للقرارات التي تخص تعليم الأطفال المتضرِّرين، أو ملائمة لأي بحث علمي ينبغي أن تموِّله؟ وأجاب بلا على الإطلاق، واستطرد قائلاً بأنَّ على الجامعة أن تفهم الفرق. هذه التساؤلات التي ذهب إليها صاحبنا إيَّاه مغرضة وتعبِّر إما عن جهل بماهيَّة الجامعة كمؤسَّسة تربويَّة، أو ينطلق من منبر ناكر للعدالة. لا ريب في أنَّ الرِّق جريمة إنسانيَّة، ومقترفو الجريمة يستحقون دوماً العقاب، ولا تسقط مثل هذه الجرائم الغليظة بالتقادم لأنَّها متعلِّقة بالنفس، وبأي ذنبٍ استرقَّت أو قُتِلت، ثمَّ إنَّ الجريمة تتطلَّب إنصاف الضحية أو أهله أو أحفاده، برغم من أنَّ هذه التعويضات الماليَّة للدم سوف لا تبعث ذويهم من القبور يوفضون، أي يسرعون. ثمَّ هناك المسؤولية الأخلاقيَّة التي ينبغي أن تأتي في شكل اعتذار للشعوب التي استرقت، ولأحفادهم الذين ما زالوا يعانون من آثار الاسترقاق بظواهرها الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة المتعدِّدة.
كذلك لقد فات على السائل المستنكر أعلاه أنَّ للجامعة دوراً ينبغي أن تلعبه في المجتمع كمؤسَّسة تربويَّة، وهو القيام بأبحاث اجتماعيَّة للمساهمة في حل مشكلات المجتمع المختلفة، وعليها أن تقوم بإنزال هذه الأبحاث في صورها التطبيقيَّة لمعالجة الأوضاع القائمة. وبما أنَّ الرِّق كانت ظاهرة اجتماعيَّة-اقتصاديَّة بماضيه الأسوأ، ظلت تداعياته السالبة مترسِّبة في المجتمعات التي مارستها، وبخاصة المجتمعات الغربيَّة والشرقيَّة. لذا من المهم في الأمر أن تقوم جامعاتنا ومراكز البحوث والدور الثقافيَّة في السُّودان بالانخراط في الدراسات الانسانيَّة التي تخص مؤسَّسة الرِّق، حتى نتخلص من عقابيل، أي علل، الاسترقاق، التي ما زالت متفشية في المجتمع السُّوداني.
في نافلة المقال نودُّ أن نقول إنَّنا لا نستطيع أن نعطي موضوع الرِّق حقه في البحث والاستطراد مهما بحثنا، ومهما استطردنا، ومهما كنا حراصاً على ذينك البحث والاستطراد. فليس من اليسر يسراً تغطية ظاهرة من الظاهرات الكونيَّة التي امتدَّت قروناً عدداً، وظهرت آثارها في البر والبحر، وعبرت القارات في صفحات ورقيَّة، لكن المقالات التسعة عشر التي نشرناها في صحيفة “السُّوداني” قبل أسابيع مضت، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، قد لامست ماضي الرِّق وتداعياته. فالرِّق مذموم لما فيه من ترجيح للباطل، وسلوك للبغي، وانتصار لغير القصد وفي غير وجه حق. وفي شأن الرِّق أيضاً نشرنا سفرنا الموسوم “التركيَّة في كردفان.. جبال النُّوبة وأهوال الاسترقاق”، الذي نشرته دار المصوَّرات للطباعة والنشر والتوزيع في الخرطوم العام 2022م، حتى يقف السُّودانيُّون على ما فعله الأتراك-المصريُّون في كردفان على وجه العموم، وجبال النُّوبة على وجه الخصوص، وذلك إبَّان حكمهم في السُّودان في الفترة التي امتدَّت ما بين (1821-1885م). كان يحدو بنا الأمل من نشر هذا السفر أن نلفت نظر النَّاس حول مسألة الرِّق، وأن نسلِّط الأضواء الكاشفة على الظلم التاريخي، الذي أفرز قضايا الحاضر المستعصي حلها.
ففي سبيل تأسيس مستقبل تسوده الحريَّة والسَّلام والعدالة والمساواة والتعدُّديَّة ينبغي علينا أوَّلاً أن نعترف بماضينا، ونفهم تاريخنا، حتى نتعامل مع الحاضر، ونخطِّط لهذا المستقبل. فلكم يبدو الأمر مستلطفاً مقنعاً عند البعض أن نتهرَّب من طرق هذه الموضوعات، أو نضع ضرباً من الحِرْم على تناولها، زعماً منه أنَّها قد عفت عليها نوائب الدهر وعواديه، أو ذلك لأنَّها ستفسد الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة المعاصرة، وتثير الموجدة والأضغان. ولكن التاريخ ليس رهناً بالأهواء الذاتيَّة، ولا الحسابات الحاليَّة؛ إنَّه لواقع معقَّد ينبغي درسه بمختلف تجلِّياته وإعادة اكتشافه.
هوامش وإحالات
(1) The Daily Telegraph, Saturday, 30 April 2022.
المصدر