في محراب النيل – النيلين
[ad_1]
في محراب النيل
عادل عسوم
وأيُّ المحاريب هو؟!
انه محرابٌ لسليلِ الفراديس!…
لعمري لا يتبين ادهاش هذا النيل الاّ من يرى أنهار أرضنا هذه ليوقن بفوته جمالاً واذهالاً!…
ولان نظم وغنى له المبدعون فينا الاّ أن هذه البهية تبقى شامة في سِفْرِ أشعارنا وأغانينا…
ألا رحم الله راحلينا التجاني يوسف بشير وعثمان حسين…
اذ كم تاسرني (في محراب النيل) هذه يااحباب!
والحقُّ اقول ان اللحن الذي وضعه عثمان حسين لهذه القصيدة الرائعة لهو اعجاز حقيقي!
نعم انه لكذلك…
ومن اراد التثبت فعليه ان يضع القصيدة امامه ويتناسى اللحن ويجهد في تلحينها؟
انها قصيدة تتابى على التلحين الا لمن اتاه الله تفردا وعبقرية!…
يااالها من كلمات باذخات وسياقٍ يسوق المرء سَوقا الى مآلات الارتماء في احضان عشق هذا النيل والوطن!…
ولعلي أقولها بملئ فِيَّ:
ان هذا العمل الفني لم يجد حظه من الانتشار وتشكيل الوجدان…
لقد تكامل الابداع فيه:
(كلمات)…
و(لحن)…
و(اداء)…
يبتدر راحلنا ومبدعنا الاداء بايقاع تصحبه الكمنجات…
أداء يحاكي سريان أمواه النيل الميممة في عنفوان الى الشمال…
ثم يترى صوته المعتَّق بالجمال ليقول:
انت يانيييييل ( في علو )…
ثم يختمها ب (ياسليل الفراديس) في خفوت كانما الامواج تتكسر على (الجروف) لتداعب اوراق نبات اللوبيا المشرورة على الجروف لتستحم ثم ترنو الى قرص الشمس فيبرق اخضرارها وهي جذلى بين ايدي النسمات تسبح الله!…
في محراب النيل
التجاني يوسف بشير
نَبِيلٌ مُوَفَّقٌ في مَسَابِكْ
بَيْنَ أَوْفَاضِكَ الْجَلالُ فمَرْحَى
بالْجَلالِ المُفِيضِ مِن أَنْسَابِكْ
حَضَنَتْكَ الأَمْلاكُ في جَنَّة الخُلْدِ
ورَفَّتْ علَى وَضِيءِ عُبَابِكْ
وأَمَدَّتْ عَلَيْكَ أَجْنِحَةً خُضْرًا
وأَضْفَتْ ثِيَابَها في رِحَابِك
فَتَحَدَّرْتَ فِي الزَّمَانِ وأَفْرَغْتًَ
عَلَى الشَّرْقِ جَنَّةً مِنْ رُضَابِكْ
بَيْنَ أحْضَانِكَ العِراضِ وفي
كَفَّيْكَ تارِيخُهُ وتَحْتَ ثِيابِكْ
مَخَرَتْكَ القُرُونُ تَشْمُرُ عَن سَاقٍ
بَعِيدِ الُخطَى قَوِيِّ السَّنَابِكْ
يَتَوَثَّبْنَ في الضِّفَافِ خِفَافاً
ثُمَّ يَرْكُضْنَ في مَمَرِّ شِعابِكْ
عَجَبٌ أنْتَ صَاعِداً في مَرَاقِيكَ
لَعَمْرِي أَوْ هَابِطَاً في انْصِبَابِكْ
مُجْتَلَى قُوَّةٍ ومَسْرَحُ أَفْكَارٍ
ومَجْلَى عَجِيبَةٍ كُلُّ مَا بِكْ
كَمْ نَبِيلٍ بِمَجْدِ مَاضِيكَ مَأْخُوذٌ
وكَمْ وَاقِفٍ عَلَى أَعْتَابِكْ
ذَاهِلاً يَكْحَلُ العُيُونَ بِبَرَّاقٍ
سَنَيٍّ مِنْ لُؤْلُؤيِّ تُرابِكْ
وصَقِيلٍ في صَفْحَةِ الماءِ فَضْفَاضٍ
نَدِيٍّ مُنَضَّرٍّ مِنْ إهَابِكْ
أيُّهَا النِّيلُ فِي الْقُلُوبِ سَلامُ
الخُلْدِ وَقْفٌ علَى نَضِيرِ شَبَابِكْ
أَنْتَ في مَسْلَكِ الدِّمَاءِ وفي
الأنْفَاسِ تَجْرِي مُدَوِّيًَا في انْسِيابِكْ
إنْ نُسِبْنا إلَيْكَ في عِزَّةِ الوَاثِقِ
رَاضِينَ وَفْرَةً عن نِصَابِكْ
أوْ رَفَلْنَا في عَدْوَتَيْكَ مُدِلِّينَ
عَلَى أُمَّةِ بِمَا في كِتَابِكْ
أَوْ عَشِقْنَا فِيكَ الجَلالَ فلَمَّا
نَقْضِ حَقَّ الذِّيَادِ عَنْ مِحَرابِكْ
أَوْ نَعِمْنَا بِكَ الزَّمَانَ فَلَمْ نَبْلُ
بَلاءَ الجُدُودِ في صَوْنِ غَابِكْ
بتَدِرُ الخطوَ وئيدا مستمداً عافيته من أمواه فيكتوريا ليشق طريقه متمهلاً في ارض المستنقعات الفسيحة ويتلوى خلالها كثعبان قد وهب جلده -بطيب خاطر- الى الناس ليحيلوه أحذية تقيهم هجير الرمضاء وحقائب تحفظ مقتنيات الحسان…
ثم يتبع سببا…
فتلتقيه ألْسِنةٌ عن اليمين والشمال تضخ في عروقه الأمواه ليستحيل نيلا أبيضاً تبرق وجنتاه تحت أشعة شمس نهارات الوسط كما (بنت عشرين) قد تدثرت بقرمصيص الحياة وعلى الرأس منها ضريرة مَحَنَّة وهي ترنو بعينين دعجاوين الى قادم أسمر قد نُبِّئَت بأنه لامحالة ملتقيها ليكتب كتابها كي يواصلا سويا رحلة العشق السرمدية الى أقاصي الشمال…
وما ان تصل الأمواه الى الخرطوم الاّ وتتهياُ الدنا كلها للعناق!
يااااااااه
لان تغنى الناس للعناق الذي نعلم …فان عناق الأمواه لأمره عجيب!
ماان تصل أمواه النيل الأبيض المتهادية في خفر فتاة الى سدرة منتهى عشقها …الاّ وينبري لها الأزرق القادم بعنفوان شاب مفتول العضلات منحدراً من هضاب الحبشة السمراء مُرْتَجّاً صدرُهُ بكرير أهلنا في بيداء البطانة وحِمبَي الرعاة وهو يمَنِّي النفس بلقاء حبيب…
فلا تلبث (توتي) الاّ وتتخلق مابين الكاف والنون تتقي بحقويها غلواء الأشواق المنبعثة من صدر الأزرق الدفاق وهو يندفع بعنفوان الى اللقاء الحميم…
فاذا بهما يناديان في الآفاق:
والتقيناااااا…
ليس في طريق الجامعة كما غنى أولئك السارقون للثورات والمزورون للتاريخ وإنما في طريق الالفة والمحبة والتحنان الذي يوقد شموع الحراك الثر الجميل…
كم لي مع بحار الدنيا وأنهارها ودٌّ وحبٌّ مقيم!…
والبحر قد أورده الله جل في علاه في قرآنه يعني به الأمواه عذبة كانت أو مالحة… والنيل لاغرو ل هو سيد البحار طُرّا!
,لا أدري لِمَ جُبِلْتُ على محبة الأمواه وليس للنشأة أيما وشائج تربطني بنهر أو بحر ان كان من حيث عمل الوالد الذي عمل في الحقل الطبي منذ نعومة أظفاره الى أن لقي ربه رحمه الله وغفر له أو حين دراستي أو حتى بين يدي عملي الحالي…
لقد دفعني ذلك كي أسائل صديقا لي يشاركني ذات حب الأمواه وهو من قبل ذلك يشاطرني تلمس ملامح الوضاءة والجمال خلال حراك حياةٍ مابخلت علينا بجناح صداقة وأخوة في الله فما لبث الا ان قال:
-لان كنت تقايس الأمر ياصديقي مابين أمواه ويابسة فلك أن تقيس على أمرين قد عُرضا على نبينا صلوات الله وسلامه عليه عندما خُيِّرَ مابين اللبن والخمر فكان اللبن اليه أحب!… فما كان مني الاّ أن استصحبت خاطرته وأقعيتُ الى نفسي أسائلها:
-لعل اليابسة بما حوت من مواطن ادهاش انما تسوق الى (طين) يشد وثاقي الى التراب الذي لا يلامس-بالقطع-مشاعراً أو عواطفاً أو روح…
أما الماء …فهو صنو للروح من حيث التسامي الى عَلٍ اذ هو يتبخر من على الأرض ليَصَّعَّدَ في السماء ليحيله الله جل في علاه سحابا ثم يجعله ركاما يخرج الودق من خلاله ثم يسوقه الى بلدٍ ميت فينداح فيها مطرا ينفع الناس والغرس والحيوان!…
ألا رعى الله سني عمر تعلمت خلالها السباحة في القاش ثم شددتُ وثاق اجادتها في النيل بين يدي أهلنا السكوت والمحس في أقاصي شمالنا الحبيب…
فالنيل بين ظهرانيهم تكاد تجد للتاريخ في دفق أمواهه طعمٌ ولون وعطر!…
وكم صدق سيف الدين الدسوقي -لافض فوه-اذ يقول:
عُد بي الى النيل لاتسأل عن التعب!
انها كلمات تهفو الى القلب كما تحنو الأمواه الى الشطِّ بين يدي صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية!…
يالهذا السيف الدسوقي!!
عد بي الى النيل لا تسال عن التعب
الشوق طي ضلوعي ليس باللعب
لي في الديار ديار كلما طرفت عيني
يرف ضياها في دجى هدبي
وذكريات احبائي اذا خطرت
احس بالموج فوق البحر يلعب بي
شيخ كأن وقار الكون لحيته
واخرون دماهم كونت نسبي
واصدقاء عيون فضلهم مدد
ان حدثوك حسبت الصوت صوت نبي
امي التي وهبت حرفي تالقه
تجئ رحمتها من منبع خصب
وان تغيب في درب الحياة ابي
قامت الى عبئها ايضا بعبء ابي
والناس في وطني شوق يهدهدهم
كما يهز نسيم قامة القصب
والجار يعشق للجيران من سبب
وقد يحبهم جدا بلا سبب
الناس اروع ما فيهم بساطتهم
لكن معدنهم اغلى من الذهب
عد بي الى النيل لا تسأل عن التعب
قلبي يحن حنين الاينق النجب
من كان يحمل يمثلي حب موطنه
يأبى الغياب ولو في الانجم الشهب
ثارت جراحي نيرانا يؤججها
عدو الرياح على قلبي وفي عصبي
كنا سماء تبث الخير منهمرا على البلاد
كقطر الديمة السكب
وكان موطننا عزا ومفتخرا
ما هن في عمره يوما لمغتصب
وقدوة لشعوب لا تماثلنا
في الحلم والعلم والاخلاق والادب
والكنز كان هو الانسان مكتملا
في محفل الجد لم يهرب ولم يغب
والنيل ان فاض اروتنا جداوله
وان تراجع جاد النخل بالرطب
والحب اروع ما في الكون نغزله
خيطا من الشمس او قطرا من السحب
والحنبك الفذ في الاغصان لمعته
ازرت بكل صنوف الكرم والعنب
والناس قااتهم طالت اذا هتفوا
بالشمس جيئي تعالي هاهنا اقتربي
جاءت على خجل حيرى تسائلهم
من ذا على النيل يا احباب يهتف بي
ماذا اصاب ضمير الناس في زمن
صعب كان به داء من الكلب
هذا زمان غريب كيف نعرفه
او كيف يعرفنا من زحمة الحقب
ارجع الي شباب العمر مؤتزرا
بالحب والوصل لا بالوعد في الكتب
وامسح عن القلب ما يلقاه من عنت
واغسل عن الوجه لون الحزن والغضب
فقد اعود كما قد كنت من زمن
فخر الشباب ورب الفن والادب
…
هذه لعمري قصيدة في قامة هذا النيل قدرا وجمالا!
ولا ادري لماذا لم يلتفت اليها مطربونا ليتغنوا بها؟!
اللهم أرحم عبدك سيف الدين الدسوقي واغفر له وافتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
يتم اللقاء في مقرن النيلين، ويُكتبُ كتاب الأزرق على الأبيض، فتصطف الأشجار على الضفتين تهش للعروسين…
وإذا باللعوب من مائسات النخيل تغازلها الأنسام، فتلين لتوزع شبالات فرحٍ من جريد، وبين هذه وتلك تترى أصوات القماري والبلوم (حَمْدو ربكم …حَمْدو ربكم)، ويتهادى النيل من بعدها لينثر على الضفاف النماء والخضرة، وأقف من خلف باب الزمن لأنظر من كوَّته إلى حضارات تمددت على الشطين آلافا من السنوات من قبل الميلاد في سوبا والقماير…
وتداعى أشعار سني الدراسة الأولى إلى خاطري جذلى تشي بشاعرية لأهل السودان مطبوعة:
أيها النيل سلاما ماجرى في الأرض ماء
أنت يانيل كريم أنت عون ورجاء
كلما ازددت ارتفاعا زاد في الناس الرخاء
بك يحي الزرع والضرع ويغني الفقراء
دمت للسودان كنزا وليدم منك الوفاء
وكذلك رديفتها:
النيل ماء بلادي
به تطيب الحياة
قفي قليلا ونادي
بمجده يافتاتي
فاذا بي ترتسم على وجهي ابتسامة وقد تداعت الذكريات يوم انبريت للابيات الاخيرة -وأنا الصبي حينها-فلحنتها بلحن أغنية القطار المرّا لراحلنا عثمان الشفيع فكانت حديث الأساتذة والزملاء من التلاميذ ولعلها كانت أولى خطواتي الى عوالم تذوق الشعر ومن ثم الولوج الى عوالم التلحين…
وتترى الأشعار فتنبري رائعة جمّاع الى الخاطر:
وادٍ من السحر أم ماء وشطآن
أم جنة زفها للناس رضوان؟
كل الحياة ربيع مشرق نضر
في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في واديه حالمةً
يحفها موكب بالعطر ريان
وللطبيعة شدو في جوانبه
له صدى في رحاب النفس مرنان
إذا العنادل حيا النيل صادحها
والليل ساجٍ، فصمت الليل آذان
حتى إذا ابتسم الفجر النضير لها
وباكرته أهازيج وألحان
تحدر النور من آفاقه طرباً
واستقبلته الروابي وهو نشوان
أقبلت من ربوةٍ فيحاء ضاحكة
في كل معنىً بها للسحر ايوان!
والنيل مندفع كاللحن أرسله
من المزامير إحساس ووجدان!
وطالما ازلفنا راحلة الشعر وشرعنا نتلمس (مخاليهِ) فلاباس من تصفحٍ لبعض الأبيات الخالدات في الذاكرة…
ألا جزى الله من وضع منهج (المحفوظات) خلال ازمنة مضت وان كنت اسى على (ضحالة) عمق التسمية بلفظة المحفوظات وعدم تناسبها مع الايرادات إلا ان لذلك براحٌ آخرٌ لعلي اتناول في ثناياه أمر مناهجنا ماضيها وحاضرها بحول والله…
أقول…
لم تزل في الذاكرة أشعارٌ فخيمة لقيصر الشعر أحمد شوقي رحمه الله وحافظ إبراهيم شاعر النيل استميحكم عذارا لايراد بعضها خطفا قبل المواصلة في تحبير خواطري وما يتبدى لي من ملامس الجمال وادهاش امواه هذا النيل وهو يجتاز بعنفوان الأزرق الدفاق وبهاء الأبيض الرقراق جنادلنا المتتالية بدءا من حدود ولاية الخرطوم مع بدايات ولاية نهر النيل وصولا الى أقاصي شمالنا الحبيب…
ولعلني ابتدر بماتعة شوقي التي لانفتا -جلنا- نستظهرها عن ظهر قلب إلا وهي:
النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر
وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر
رَيّانُ الصَفحَةِ وَالمَنظَر
ما أَبهى الخُلدَ وَما أَنضَر
البَحرُ الفَيّاضُ القُدسُ
الساقي الناسَ وَما غَرَسوا
وَهوَ المِنوالُ لِما لَبِسوا
وَالمُنعِمُ بِالقُطنِ الأَنوَر
جَعلَ الإِحسانَ لَهُ شَرعا
لَم يُخلِ الوادِيَ مِن مَرعى
فَتَرى زَرعاً يَتلو زَرعا
وَهُنا يُجنى وَهُنا يُبذَر
جارٍ وَيُرى لَيسَ بِجارِ
لِأَناةٍ فيهِ وَوَقار يَنصَبُّ
كَتَلٍ مُنهارِ وَيَضِجُّ فَتَحسَبُهُ يَزأَر
حَبَشِيُّ اللَونِ كَجيرَتِهِ
مِن مَنبَعِهِ و بُحَيرَتِهِ
صَبَغَ الشَطَّينِ بِسُمرَتِهِ
لَوناً كَالمِسكِ وَكَالعَنبَ
ويصل الإبداع الى ذراه عندما نظم القيصر شوقي قصيدته الباذخة (من أي عهد في القرى تتدفق) فإذا بها تتلقفها يدا السنباطي ليكون ميسها في حِجرِ كوكب الشرق وإذا بالدنا تصدح سرمديا…!!!
فيااااااللبهاء!
وياااااالتلاقح الحرف البهي والموسقة الباذخة والأداء الفخيم الراقي!…
ومافتئ العروسان مضمخان بخُمرة الحياة يغذان السير صوب الشمال…
تتهاى الأمواه جذلى تحفها الضفتان المكحولتان بخضرة الأشجار…
ومافتئ صوت راحلنا عثمان حسين يغني لراحلنا التجاني يوسف بشير اذ يقول:
فَتَحَدَّرْتَ فِي الزَّمَانِ وأَفْرَغْتً
عَلَى الشَّرْقِ جَنَّةً مِنْ رُضَابِكْ
بَيْنَ أحْضَانِكَ العِراضِ وفي
كَفَّيْكَ تارِيخُهُ وتَحْتَ ثِيابِكْ
مَخَرَتْكَ القُرُونُ تَشْمُرُ عَن سَاقٍ
بَعِيدِ الُخطَى قَوِيِّ السَّنَابِكْ
يَتَوَثَّبْنَ في الضِّفَافِ خِفَافاً
ثُمَّ يَرْكُضْنَ في مَمَرِّ شِعابِكْ
عَجَبٌ أنْتَ صَاعِداً في مَرَاقِيكَ
لَعَمْرِي أَوْ هَابِطَاً في انْصِبَابِكْ
مُجْتَلَى قُوَّةٍ ومَسْرَحُ أَفْكَارٍ
ومَجْلَى عَجِيبَةٍ كُلُّ مَا بِكْ
كَمْ نَبِيلٍ بِمَجْدِ مَاضِيكَ مَأْخُوذٌ
وكَمْ وَاقِفٍ عَلَى أَعْتَابِكْ
ذَاهِلاً يَكْحَلُ العُيُونَ بِبَرَّاقٍ
سَنَيٍّ مِنْ لُؤْلُؤيِّ تُرابِكْ
وصَقِيلٍ في صَفْحَةِ الماءِ فَضْفَاضٍ
نَدِيٍّ مُنَضَّرٍّ مِنْ إهَابِكْ
يااااااللصباحات عندما تلثم الخيوط البيض من الفجر أثداء الأمواج على أديم مياهك أيها النيل الحبيب!
وألا رحم الله طيبنا الدوش عندما غنى له راحلنا وردي فقال:
وفي صحْيَة جروف النيـل
مـع الموجَـهْ الصباحيَّـه
وقفتُ يوماً أتلمس برودة المياه بأطراف اصابع قدمي فبدت أمامي مواكب (الأمواه) تتدافع جذلى صوب الشمال…
والأمواج مافتئت مواليد تلتقم خيوط اشعة الشمس الآتية من السماء ليبرق اديم الأمواه ببسمات تضيف -الى جمال السوح- جمالا قشيبا…
وتلك سمكة تقفز من بين الأمواج …لعلها تسبح الله …
أو لعلها تسعى حثيثا كي تكحِّل عينيها من خضرة الشطين…
ولا تلبث الاّ أن تتلصص نسمة طروب تبحث عن اللّعوب من فاتنات النخيل التي تميس في دلال وترقص مهفهفة بجريد لها وعراجين ثمار…
ودونها شدو القماري وأسراب الزرازير الباحثة عن ال(كُريق وود لقاي) وبعض ثمار المانجو…
ومن البعيد يتعالى خوار بقرة حلوب ونهيق حمار…
وعن اليمين صوت ينادي:
-ياولد شوف الجدول دا اتملا؟…
وتلك امرأة تستعجل ابنها كي يأتي ويحمل دونها (قش البهايم)…
وفي ايقاع جمييييل تتتابع أصوات (بوابير الموية)(تك تك تك تك…..دق دق دق دق)…
وعلى البعد نسوة وسط الجروف يقطفن ثمار البامية …
والباذنجان…
والطماطم …
وبالجوار أصوات أطفال يتضاحكون ويلعبون بين أوراق الموز واللوبيا ويتقاذفون بثمار الليمون…
ف(يستِّفني) الأرتواء…
وتشفُّ روحي …
ويتسع صدري ليسع كل الأنسام المشبعة بأوكسجين الأمواه…
بل لعله-حينها- يسع الدنيا كلها! …
انها عوالم النيل ياأحباب!…
فما ان كُتِبَ كتاب الأزرق الدفاق على الأبيض الرقراق بجوار توتي أرباب العقائد:
الاّ وشقشقت العصافير وهدلت القماري وهمهم البلوم بأن ياأمواه انطلقي الى الشمال…
واذا بالأنسام تسر في آذان الأشجار بأن الشمس قد اهدتنا قرمصيصا موشى بالذهب لنجعله على عاتق العروسين وهما يتهيآن للمسير…
فيضج الكون بصوت الدلوكة…
ويتصاعد رويدا رويدا أصوات الصبايا:
يا عديله يا بيضا يا ملايكه سيري معا
الليلة شويم بقدرة الله
ود العزة والمهلة عروسو الضوت السهله
الليلة شويم بقدرة الله
وشيلتو الفي البلد بهلا وقايم الليلة شايل اهلو
الليلة شويم بقدرة الله
يوم اتلمّن البنوت وصوت الصفقة والزغرود
الليلة شويم بقدرة الله
هلالو الفي الجبين مربوط وريحة الحنة والمجموع
الليلة شويم بقدرة الله
يا عديله يا بيضا يا ملايكه سيري معا
الليلة شويم بقدرة الله
هذا النيل أحسبه-والله أعلم أنه الوادي المقدس طوى…
وجبل البركل (أحسبه) جبل الطور…
قد أكون مخطئاً…ولكن ليس هناك من تأكيد بالمباني والمعاني في ثنايا التفاسير (يجزم) بأن هذا أو ذاك ل هو الوادي المقدس طوى وأن هذا أو ذاك ل هو جبل الطور!…
فلماذا لايكون نهر النيل هو الوادي المقدس طوى المعنى وأن جبل البركل هو جبل الطور؟!
تمعنوا معي في الآتي:
يقول الحق جل في علاه في سورة طه:
( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إلاأَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)
لقد ورد بأن القدوس هو اسم من اسماء الله الحسنى …
والقدوس في اللغة هو القادر على الاحياء …
وبذلك فان المُقدّس هو اشتقاق من ذات الاسم …
فعندما تطلق لفظة المقدس على وادي ما ينبغي أن ينصرف ذلك الى وادٍ يبعث الحياة أو تنبعث الحياة منه أو بسببه، ولعمري أي وادٍ مقدس يبعث بالحياة ان لم يكن نهرا يجري فيه الماء العذب الذي جعل الله منه كل شئ حي؟!
وهل هناك واديا اقدس من نهر النيل؟!
أما الشجرة المباركة فلا أخالها شجرة الزيتون كما ورد في العديد من التفاسير…
هذه الشجرة أراها ذات نوعية الشجرة التي ما فتئت تلازم قصص الأنبياء والمخلصين من عباد الله وامائه…
انها شجرة مريم عليها السلام التي انجبت عيسى عليه السلام تحتها ياأحباب:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) 23-26 مريم
نعم انها شجرة النخيل، فشجرة النخيل أدعى لأن ترُرى من البعيد لموسى عليه السلام وهو ينظر النار الموقدة في البعيد بين يدي شتاء صحراوي قارس وقاس:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) 30 القصص
وشاطئ الوادي الأيمن ل هو الضفة الشرقية من نهر النيل…
سألت جدِّي محمد الحسن حاجنور رحمه الاه يوما:
-ياجدي انتو ليه جيتو من نوري واستقريتو هنا في الحتة دي في البركل (تحت)؟!
ما كان منه رحمه الله الاّ أن هش في وجههي وربت على رأسي وقال بفصحاه الوضيئة تلك:
-هذا المكان يابني من البركة بمكان اذ قد أتى الله اليه ب موسى عليه السلام!…
لذلك فاني أوقن بأن جبل الطور ل هو جبل البركل الذي لازمه التعظيم والتقديس طوال قرون اذ مافتئت كل الحضارات التي نشأت في تلك المنطقة تحفظ له ذات المهابة الى الدرجة التي جعلوه مكانا لتعميد وتنصيب ملوكهم ومركزا لاتخاذ القرارات المصيرية ومنطلقا للجيوش وموئلا لتوحيد الله دون كل ارجاء الدنيا القديمة التي كانت تشرك بالله!
في واجهة الجبل هناك ذؤابة يسميها أهل المنطقة بالشُرْمَة وهي عمود منفصل من الجبل، هذا الجزء من الجبل تبين من الصور القديمة للجبل أنه تم نحته من أجدادنا على شكل رأس(ثعبان) عظيم، وفي البال عصى موسى التي احالها الله إلى ثعبان عظيم!
وفي البال أيضا وزير مالية الكنداكة الذي كان يخرج من مروي بقافلة الخير صوب مدينة اورشليم القدس فينتظره أهلها من اليهود بفارغ الصبر كل عام.
وذات النيل هو ال(يم) الذي أمر الله أم موسى بأن تلقيه ليأخذه-من بعد-فرعون:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) 7
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) 8 القصص
وذات النيل هذا فيه ملتقى البحرين الذي التقى فيه موسى عليه السلام بالرجل الصالح (النبي الخِدِر) كما ورد خلال رواية للراحل البروف عبدالله الطيب…
هذا النيل هو النهر الذي حدثت على ضفافه جل قصة رحلة نبي الله موسى …
ف السفينة التي خرقها الرجل الصالح لا أحسبها الاّ مُرْكَب من مراكب أهلنا الكنوز اذ كم رأيتُ رصيفات لها خلال طفولتي في شمالنا الحبيب من أقصاه الى أقصاه…
وقصة الجدار الذي بناه لا أخاله الاّ كان في قرية من قرى أهلنا النوبة في الشمال…
وكذلك قتل الغلام قد كان هناك…
قولوا لي بربِّكم:
ألا يستحق نهرٌ بكل هذا الزخم من التأريخ والتقديس بأن يكون سليل فراديس في وجدان أهله وخالداً في الوجدان، وينطلق النيل صوب الشمال فيزداد كيل بعير بأمواه نهر عطبرة، ولكأني به يروم عودة -مرة أخرى-الى الجنوب بعيد صراع مع جنادل شلال السبلوقة، لكنه يستقوي بأمواه نهر عطبرة فيتخذ له مسارا الى الجنوب الغربي الى أن يصل الى ديار أهلي الشايقية…
هناااااك عند عند خط اقتران السماء بالصحراء تراءت هامة جبل وكأنه يغتسل في ضوء الفجر نافض عنه غبار أزمنة عديدة…
بدا جبل البركل على غير عادته منطلق الأسارير يرنو بناظريه بعيييييدا الى ماوراء التاريخ، وتمددت الأرض من تحته في ثوب أخضر قشيب مترام في دعة وهي ترنو الى أمواه النيل المنطلقة في عنفوان وهي تحمل في جوفها أنواعا من السمك وفي لجتها ألوان من ثقافات قبائل الجنوب والشرق والوسط…
وفجأة، يبدو من خلف الأفق غبارٌ كثييييف دونه موكب مهيب يشق عنان السماء ليحط في شموخ على هامة الجبل!…
ويترجل فارسان بلباس الملوك من بين يديهما الخدم والحشم لينصب لهما عرشان من خشب الأبنوس وكتل العاج وسبائك الذهب…
وبدا في يد كل منهما منظار طويل يتطلع به الى جهة الشمال الشرقي…
واذا بالأول يخاطب الثاني:
-أنظر يا طهرقا/ترهاقا لقد شب أحفادنا عن الطوق وبدأوا في أكمال المسيرة…
فيجيب الآخر:
-صدقت يابعانخي فليباركهم الرب الواحد…
-انه لسد عظيم هذا الذي يبنونه!…
ويعقِّب نفرٌ من الحاشية:
(أنه ياأصحاب الجلالة خزان الحامداب ويسميه الناس بسد مروي)…
ينظر كل منهما الى الآخر في حبور ويتعانقان، وتقرع الطبول، ويردد الجبل صدى الموسيقى الملكية…
ويخرج أهل البركل وكريمة يستطلعون الخبر وأنظارهم معلقة بهامة الجبل، ويتدافع الناس الى ساحة الجبل، فيتقدم اليهم بعانخي ملوحا بيد وممسكا بيد ترهاقا باليد الأخرى ويبدأ في الحديث بصوت ملوكي وقور:
(ياأيها الناس ليبارككم الرب الواحد …
أنكم بهذا الصرح العظيم ترتقون في ثبات على سلم التاريخ…
ونحن وترهاقا لواثقون بأن السودان سائر بجد على طريق المجد والسؤدد…
انطلقوا ياأهل السودان مباركين من الرب الواحد)…
فيهتف الناس بصوت واحد:
لا أله الا الله، الله أكبر…
ويتواصل الهتاف لاأله الا الله محمد رسول الله، فيسجد الملِكان ثم يتوجهان الى الحشود ويهتفان مع الناس لاأله الا الله محمد رسول الله…
ثم تختلط الحشود، ويشتد الهتاف وقرع الطبول…
وفجأة…
أصحو على صوت أذان الفجر وهو يرفع من فوق مئذنة جامع البركل العتيق…
فاذا بي تقتحمني هذه الأبيات:
أتصدقون؟!…
ان قلتُ انّي أعشق الجبالا
معمور بها الفؤاد لايستكين بالا
وكيف لا؟ …
***
فهاجرٌ من قبلي قد عشقت جبلين
فأضحى عشقها لقومنا (سعيا) ودين
***
كذاك عشقي! …
لا أرى لنفسي دونه فكاكا
اذ هو لجبل هنا يرنو الى جبل هناكا
صنوان في الشموخ (بركل) و(تاكا)
توزعت أمشاج أهلي بين هذا وذاكا
***
فالأصل يضرب في الشمال له جذورا
حيث يجري النيل يسقي زرعه والبورا
***
يشق صدر أرضنا السمراء في عزيمة
وينحني تأدبا في البركل الذي يلي كريمة
***
وقد حوى في جوفه التاريخ والأسماك
تاريخ قوم ذاخر بالنصر كل حراك
***
الماء فيه ريان بلون البُنّ أشهُرا
والموج يصطخب لسيفه قد اشهرا
***
ينبيك عن مخاض
بالخير حين فاض
***
فيرفد الجروف نبتا يانعا دونما أشواك
***
ثم يصفو أشهُرا
فيستحيل أزرقا
***
تمده السماء من اهابها بلونها نهارا
وفي المساء…
يستحيل سطحه مرآة حسن لأنجمٍ سهارا
***
ونخيل بالشط تهفو بجريد مائسات
يرقصن في دلال بين أيدي النسمات
***
أودعها الأله كل لون
سيقانها تشربت بذات لون البنّ
***
سبيطها يزينه الصفار
وثمرها يخضرُّ في البدار
***
وبعد أشهر…
ينداح صفرة
وحمرة…
ليكتسي بذات لون البنّ دونما هلاك
***
وفي الجوار…
ينتصب التاريخ جبلا أسمرا
له اسمان اسم (جدّي) والبركلا
تحرسه أسودٌ هي ليست حجرا
***
اللون فيه ذات لون البنّ
ومعبدٌ قد زانه التوحيد ذات يوم
بناه آمون الذي ملك الدنا والقوم
البركل
عادل عسوم
مصدر الخبر