في محبة محمد جلال أحمد هاشم
والله ما تألمت قرييا لخبر بأكثر من خبر بتر ساق أستاذي الجميل محمد جلال أحمد هاشم. وكأنها بترت من قلبي.
الدنيا دي بتلقى فيها معلمين لكن ما بتلقى فيها موجهين ولو لقيت معلمين ما بتلقى معلمين يحرروك تحرير كبير من أوهام راسخة ويضووا ليك الطريق. تحضر في ذهني دوما مقولة الفيلسوف الألماني كانت وكيف أنه أيقظت عقله مطارق ديڤيد هيوم. وأنا عندي أستاذين في الدنيا دي لن يسعني شكرهما مهما طالت الكلمات أيقظت مطارقهم موات فكري. جاسم سلطان الذي أهدى إلى عقلي ومحمد جلال أحمد هاشم الذي أهدى إلي سودانيتي.
جاسم سلطان عكف على فهم مُشكلات الحضارة في العالم الإسلامي وعندو مشروع إسمه مشروع النهضة ملخصه إنو يهدف لتمليك الفاعلين في الشأن العام أدوات ومعارف تمكنهم من النهضة بالمجتمعات المتأثرة بالثقافة الإسلامية. بيبدا المشروع دا بقراءة تحقيبية للتاريخ الإسلامي بيمر من خلالها على أهم المحطات الفكرية في تاريخ الشعوب الإسلامية، لحدي ما يصل للصحوة الإسلامية بعد حرب النكسة في ٦٧ وصعود تيار الإخوان المسلمين. وبحكم خلفيته الإسلامية بيشرح الخلل الفكري لآيدلوجيات الحركات الإسلامية في استجابتها لتحدي التحديث وتعاملها مع الدولة الحديثة والاجتماع السياسي الحديث. في الإطار دا هو بيشرح كل الخلل الفكري المرتبط بفهمنا للدين وبيعيق تعاطينا مع واقع القرن الحادي والعشرين ودا كان مناط الاستنارة العقلية بالنسبة لي في مشروع جاسم سلطان. المهم في الموضوع وعلاقته بمحمد جلال هاشم دا إنو جاسم سلطان بيفتكر إنو أي مجموعة ناشطة في الفضاء العام لشعب لازم تعمل “ذاكرة تاريخية” أو ما يسميه هيكل عظمي للتاريخ الحضاري للشعب المعني، تحقب فيها أهم محطاته الفكرية وبالذات في الصدام بالحداثة. جاسم كان بالنسبة لي ومجموعة من الأصدقاء مدخل ممتاز للتفكير بطريقة منهجية في مشكلة السودان.
كانت فكرة تحقيب الذاكرة التاريخية للشعب السوداني دي متملكاني جدا وكان عندي شعور إنو دا مشروع كبير وضخم وبحمد الله بعد هذه المحطة التقيت بمحطة دكتور محمد جلال هاشم لأجد مفكر فذ وأصيل ينطلق من ذات الحاجة لخلق نظرية تغيير مستمدة من الأرض وليست مستجلبة من الغير. ما يميز محمد جلال هاشم تتفق أو تختلف معه هو أصالة الفكر والتفكير في إنو ماف نظرية مستجلبة من واقع آخر دون تسييق contextualisation يمكن لها أن تحقق شروط الإمكان والصلاحية في السودان. جدية وأصالة محمد جلال هاشم تجاه السودان كشعب ودولة ملهمة لأبعد الحدود.
أول مرة ألتقيه في منزلنا كان حرفيا قاعد يحقب في تاريخ الشعب السوداني وبالذات من خلال ارتطامه بالحداثة عبر الاستعمار التركي. دا ما كان مناط الاستنارة في كلامه بالنسبة لي. مناط الاستنارة الهبشني تحديدا هو معالجته لأزمة الهوية في عقل السودانيين المستعربين من أمثالي. أنا الحاجة دي حررتني لأبعد الحدود وغيرت علاقتي بالسودان دا رأسا على عقب لأنو عندي ظروف نشأة كانت تعصف بي داخليا في مسألة الهوية. فأنا بنتمي لقبيلة تدعي إنو جدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صغري يقبل بعض أعمامي رأسي ويدي وينادوني “بالشريفي” ودي قناعة راسخة في كل أسرتي! تكسرت هذه الهوية عندما سافرت مع أسرتي للملكة العربية السعودية وذقت من صغري ويلات العنصرية. متذكر إني كنت عنيف جدا تجاه أي زول بيتعنصر علي من زملائي السعوديين، وكانت المدرسة بترسل لناس البيت تشكي من عنفي تجاه الطلاب.
المعضلة الهوياتية دي في جوهرها إنك بتكون شايف نفسك عربي الأصل ودا بيديك مبرر تشوف إنك عرقيا متوفق على القبائل غير العربية في السودان! لأنو إدعائك الذاتي زي ما قال محمد جلال هاشم ما إنك عربي اللسان أو الثقافة لكن عربي العرق. لكن المراية دايما خاذلك تجاه الإدعاء دا وبتخليك دايما تكون باحث عن صفات جمال متعلقة بمركز العرق العربي زي اللون والشعر السبيبي الناعم وما إلى ذلك، وداير تتميز عرقيا عن كل ما يبعدك عن العرق العربي. بتذكر لمن كنت أمشي دولة عربية ويسألني زول أنت من جنوب السودان ولا من الشمال بتضايق جدا وأقول في روحي بالله عاين الوهمي دا ما شايف لوني ولا ما شايف سبيبة شعري. فبلتقى روحك من أثر صدمة زي دي مركز مع فلان دا لونه فاتح وداك شعرو ناعم، وبل الحاجة دي أثرها العميق بجي في سقوطك أمام نفسك في معايير الجمال، وسعيك الحثيث لإنبات أبناء مظاهرهم أكثر ارتباطا بمركز الهوية العربي. أها يلا أي استعلاء عرقي داخلي لمن تمشي حتة زي السعودية بيتضح ليك زيفه. محمد جلال قال في الجلسة ديك إنو دا وعي آيدولوجي زائف وشرح إنو أي هوية عندها مركز وهامش وآخر. فقال لينا الإشكال في إدعاء عروبية العرق إنو بتكتشف زيفه في لحظتين: لمن تعيش في مجتمع عربي العرق فعلا ولمن تسافر لي هوية أخرى زي لمن تجي بريطانيا مثلا. حكى قصة أنا لمن جيت هنا شاهدتها عيانا بيانا. قال في أي فورم في بريطانيا في سؤال عن العرق. فبيسألوك أنت عرقك شنو؟! عربي ولا أسود أفريقي ولأ أسود كاريبي ولا غيرو ولا غيرو. في نهاية الفورم بيخو ليك خيار “أخرى”. فقال المشكلة الهوياتية الذاتية والوعي الزائف بالهوية بيتجسد في إنو السوداني الزيي بيواجه في اللحظة دي بإشكال. لو قال عربي، عروبة عرق ما عروبة لسان، حيكون واضح للخواجة إنو كضاب، لكن بينك وبين نفسك أنت مقتنع إنك عربي العرق، فببساطة بتحسم المشكلة دي بي إنك تختار “أخرى”. يلا هنا لمن قال إنو مشكلة أعلب السودانيين الزيي الفي الوسط النيلي، اللي هم الناس المستفيدين من دولة ما بعد الاستعمار وداخلين في حروب حولها مع السودانيين الما عندهم إدعاء إنهم عرب عرقا، بيختاروا “أخرى”. هو بيفتكر إنو دا جوهر الاضطراب والهروب من حقيقة أننا أفارقة سود. بيفسر آليات انتخاب نخبة ما عندها مشروع وطني من ٥٦ بهذه الحقيقة: حقيقة عدم التصالح مع النفس والوعي الزائف بالهوية وبالذات مكون العرق وشعور الدونية تجاه العرب والاستعلاء العرقي تجاه الأفارقة. لأنك بتبقى عامل زي الجيل التاني من أبناء المغتربين في الغرب، لا قادرين ينتموا لي مجموعاتهم الأصلية ولا قادرين ينتموا لمجتمعات هجرتهم، ولا قادرين يحتفوا بتنوع انتمائاتهم دا. وهنا هبشني جدا لمن قال في الجلسة ديك في ناس التشكل النفسي لهويتهم في السودان بيخليهم حيكونوا سعيدين جدا لو السودان دا صفى على متر مربع واحد الناس الفيو كلهم لونهم فاتح وشعرهم سبيبي ناعم ويتحدثون العربية بطلاقة. وديل الذين ما اهتزت لهم شعرة لانفصال الجنوب. حقيقة وقتها ضربني في الأنكل وفي عمق نفسيتي وما حزنت على انفصال الجنوب إلا في تلك اللحظة، وأدركت مقولة القدال بتاعت قول استقل أو استقال: فأنا من أكثر من خبر العنصرية وكرهها وأرى أن الجنوب استقلّ ولم ينفصل أو ربما استقال. بعداك طبعا حزنت عليو أكتر لمن قريت عن التحول الصناعي، وأدركت إننا كسودانيين ما مشكلتنا في إدارة التنوع هوياتية بقدر ما إنو عندنا ضيق خيال جيواستراتيجي في تعريف السودان كوطن وصياغة نظرية أمن قومي ليو: نظرية لو أردنا يوما ما نحتها بحقها سندرك حينها أننا فرطنا في كنز جيواستراتيجي بانفصال الجنوب.
طبعا كتيرين جدا ما بيتفقوا مع الكلام دا، لكن أنا على المستوى الشخصي الكلام دا حررني جدا، وغير علاقتي بالسودان تماما وإحساسي بي كل الشعوب السودانية على تنوعها واختلافها. ودا كان قبل كدا مدخل كبير جدا لتصالح نفسي مع الذات، فلمن وصلت بيريطانيا اخترت أفريقي أسود من القائمة بكامل الارتياح ولو سمعت الكلام دا من صغري ما كان حأعاني نفسيا في طفولتي في السعودية لعدم اعتراف مركز الهوية بانتمائي عرقيا ليو. ولذلك تحديدا محمد جلال هاشم أهداني وعي ذاتي عميق بنفسي وسودانيتي، وفي بتر ساقه بتر لكينونة غائرة في نفسي.
لكن عموما تتفق ولا تختلف، مدخل محمد جلال هاشم لتفسير الصراع في السودان من خلال منهج التحليل الثقافي أميز ما فيه هو مسلمته المنهجية الأولى القائمة على أن الصراع في دول ما بعد الاستعمار صراع على جهاز السلطة عبر استثمار آيدلوجيات هوياتية ما قبل دولتية في تجييش المجموعات الثقافية فيها. دا فلك منهج التحليل الثقافي وهو زاد أصيل للفكر السوداني مهما اختلفت معه في النتائج. وعليك باستمرار التمييز بين محمد جلال المفكر ومحمد جلال السياسي. فمحمد جلال المفكر لبنة راسخة في فهم الاجتماع السياسي السوداني أثبتها الأثر قبل المسير وعدسة لقراءة واقعنا سنعجز كثيرا لو تجاوزناها دون استيعابها. الشعوب الحرة أو المستقلة لها من النقدانية وتبني النقد كنظرية ما يجعلها قادرة دوما على انتقاء الطيب من فكر مفكريها وعزل الخبيث؛ دون التبني لفكر المفكر كله كطيب أو عزله كله كخبيث.
يلا بعداك، في محطة أخرى مع محمد جلال، لمن كنت في اللحظات الأخيرة قبل إرسال كتابي في التفكير النقدي للمطبعة، رسلتو ليو. فلمن قراو اتصل علي مباشرة وقال لي لازم نقعد سوا نعدل طريقة كتابتك. قال لي أنا ما حأسمح بي إنو كتاب يكون كاتبه سوداني ما يكون متقن. عكف معي ما لا يقل عن أسبوعين لفترة تتجاوز التلاتة ساعات في اليوم علمني فيها قواعد الكتابة التحريرية. ومحمد جلال طبعا كان رئيس تحرير دار نشر جامعة الخرطوم وبيحرر كتب لأساتذة زي عبد الله الطيب. ودا بيوريك قدر شنو أنا حرفيا كنت محظوظ. فعلمني أدق التفاصيل في الكتابة. من كتابة الفقرة لحدي الجملة المفتاحية، وطبعا بيهيج فيك أثناء ما بيعلمك لامن تفهم عرض تقول قحاتي. ما تخلي لي فرقة بين الكلمات؛ شيل النقطة دي برة؛ خت فاصلة منقوطة هنا؛ وهكذا. وله حس اتقان عالي حد المرضية بيخليو يلقط المسافة الزائدة بين كلمتين على بعد مترين. وأهم فكرة تحريرية اتعلمتها منو إنو في أي مكتوب الفقرة الأولى فاتحة لكل الفقرات والجمل المفتاحية في كل فقرة فاتحة لكل أفكار الفقرة بحيث إنو لو في فكرة في الفقرة ما حوتها الجملة المفتاحية مفروض تتعمل في فقرة جديدة. بتذكر بعدها عملنا معاو ومجموعة من الأصدقاء محاضرة بعنوان “كيف تكتب فقرة”. قعدت بعدها أعدت كتابة الكتاب من أول جديد. والحاجة الاتعلمتها منو ساعدتني جدا في التميز في كل المقالات الكتبتها في الفلسفة في الدبلوما والماجستير، وكانت دايما التعليقات من الأساتذة هنا مشيدة جدا بالنمط التحريري. وطبعا هو كان بكتب لي كل خطابات التوصية الساعدتني جدا في أنا ألقى قبول من الجامعات لتغيير المجال من الطب للفسلفة. محتفظ بهذه التوصيات وهي من أكثر ما أفاخر به. مكتوبة بلغة أنجليزية رصينة وأدبية مبهرة.
لكن المدهش حد الصدمة في محمد جلال هاشم هو الجدية تجاه السودان مهما تختلف معه. محمد جلال يحفظ السودان بيت بيت ودار دار وزنقة زنقة. متذكر جراء ثورة ديسمبر كان في لقاءات مشتركة بيوصف فيها بتفاصيل مدهشة لبعض شباب المقاومة في الولايات مناطقهم عشان يشرح ليهم الفرق بين أنواع المظاهرات. مثقف عضوي حقيقي وأصيل.
والله يا دكتور عجزت تماما عن الاتصال بك، لكن من على البعد أبلغك المحبة التي تعلم وأن ساقك بترت من سويداء القلب، وما كتيرة على البلد.
عمرو صالح يس
مصدر الخبر