السياسة السودانية

في الوفاء للأستاذ أندل النُّوبي

[ad_1]

الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

في يوم الجمعة الموافق 17 شباط (فبراير) 2023م كرَّمت جمعيَّة سلارا الخيريَّة بأم بدة وبدر الكبرى في مدينة أم درمان أحداً منمعلِّمي الأجيال، وذلك لما أدَّاه من دور مشرِّف في المجال التربوي، ومنثمَّ بجَّلته الجمعيَّة إيَّاها، فنعم التبجيل لهذا الأستاذ الذي أفنى جل عمره في تربية النشء، حتى تتلمذ على يديه كثرٌ من الطلاب، واتَّخذوا سبلهم في الحياة العامة سرباً.  كان ذاك اليوم مميَّزاً مباركاً برمز من رموز العطاء، ثمَّ كان الذي هو على وشك الاحتفاء به سراجاً من سُرُج العلم والمعرفة.  في ذاك اليوم الاحتفائي بدا الأستاذ المحتفى به، وقد تقدَّم به العمر، وابيضَّت لحيته وشواربه، ذاك البياض الذي يُكسب صاحبه وقاراً، وكان يبدو عليه الكبر، وأخذ يمشي بخطى متثاقلة، وكان يحمل على يده اليمنى عصاَ يتوكَّأ عليها، ثمَّ كان على جانبيه فتيان يساعدانه في المشي رويداً رويداً.  كان الأستاذ الشيخ يرتدي جلباباً طويلاً يدثِّر به قامته الفارعة، وقد ارتدي فوق الجلباب عباءة أقلَّ ما يمكن أن يقال عنها إنَّها تناسقت ألوانها مع الجلباب بذلك اللون العسجدي، ثمَّ كان قد وضع على عينيه نظارة ذات أطر بيضاء، إذ إنَّما كان يتنظَّر بها، كما يفعل من وصلت به السن إلى هذا المدى من الحياة، وبخاصة من أنفق جل عمره في الاطِّلاع، وإدامة النَّظر في الكتب.

وما أن ظهر الأستاذ للعيان، وشقَّ طريقه وئيداً وسط الجموع المترقبة المشرئبة لرؤياه، حتى علا مَنْ بالقاعة – نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً – بقصيدة منشودة تبجيلاً بهذا المعلِّم العظيم.  وما هي إلا لحظات، حتى اقتعد المعلِّم نفسه في الكرسي الذي أُعِدَّ له سلفاً، ثمَّ ما أن سنحت له الفرصة في إلقاء كلمة بهذه المناسبة الاحتفائيَّة، حتى شرع يتحدَّث دون تلعثم في الكلام، أو اعوجاج في اللِّسان.  ومنذئذٍ أبان قوَّته التعبيريَّة في الكلام كما سنبين بعد حين، وذلك برغم مما بلغ به الدهر من الكبر كما سبق الذكر.  إذاً، يا تُرى من ذا الذي يكون هذا الأستاذ الذي شاخ، ثمَّ شرعت جمعيَّة سلارا الخيريَّة في الاحتفاء به، وها نحن بصدد الحديث عنه وفاءًوإطراءً، حتى يعلم الجيل الحالي، وأجيال المستقبل مآثره؟

ولد الطفل آنذاك، الذي سرعان ما سماه والداه أندل، العام 1941م بقرية سلارا، التي تبعد حوالي 14 ميلاً غربمدينة الدَّلنج.  وما أن شبَّ على الطوق، وبلغ سن التمدرس حتى تمَّ تسجيله في مدرسة سلارا الأوليَّة (الابتدائيَّة لاحقاً) العام 1950م، وأكملها العام 1954م.  ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مدرسة سلارا قد أسَّستها جمعيَّة التبشير الكنسي التي وصل مبشِّروها إلى الدَّلنج العام 1935م، وقاموا بجولات طبيَّة بدءاً بجبل تُنديَّة، ووصلوا إلى سلارا، ومن ثمَّ شرعوا في تأسيس مركزاً للإرساليَّة فيها العام 1936م، التي تألَّفت من عيادة ومعمل وعنبر للمرضى.  وفي العام 1954م آلت إدارة الإرساليَّة إيَّاها إلى إرساليَّة السُّودان المتحدة.  على أيٍّ، فما أن اجتاز التلميذ أندل الامتحانات بجدارةحتى التحق بمدرسة كاتشا الوسطى في تخوم مدينة كادقلي في الفترة ما بين (1954-1958م)، وهي المدرسة التي أسَّستها جمعيَّة التبشير الكنسي هي الأخرى العام 1944م، وكانت هي الأولى من نوعها،حيث أمست قبلة طلاب النُّوبة، وكان الطلاب من معظم مناطق جبال النُّوبةييمِّمون وجوههم شطر تلك المدرسة.  وفي العام 1959م آلت إدارتها إلى وزارة التربية والتعليم.  ومن بعد تمَّ قبول الطالب أندل بمدرسة الفاشر الثانويَّة في الفترة ما بين (1958-1962م)، وبعدئذٍ تخرَّج في معهد التربية ببخت الرضا العام 1964م.  فإذا كان تعداد المدارس في جبال النُّوبة بتلك المحدوديَّة في ذلك الحين من الزمان، فبالاستنتاج يمكن أن نقول لعلَّ التنافس كان شديداً، وكان لا يفلح في ذلك إلا النجباء من أولي العزم.

في حياته العمليَّة عمل الأستاذ أندل معلِّماً في مدرسة الرَّهد في الفترة ما بين (1964-1966م)، وفي مدرسة كاتشا (1966-1970م)، وبمعهد التربية بالدَّلنج (1970-1973م)، ثمَّ مديراً لمدرسة سلارا الثانويَّة العامة (المتوسطة لاحقاً) في الفترة ما بين (1973-1983م)، ومكتب التعليم بالدَّلنج (1983-1986م).  ومن ثمَّ انتدب للعمل معلِّماً إلى دولة اليمن في الفترة ما بين (1986-1991م).  وبعد عودته من اليمن أسَّس المدرسة النموذجيَّة بجامعة الدَّلنج (مدرسة شيماء) في الفترة ما بين (1991-1994م)، وأُحيل إلى المعاش العام 2001م، ومن ثمَّ عاد إلى مسقط رأسه في سلارا، وتطوَّع مدرساً في مدرسة سلارا الابتدائيَّة، وإماماً لمسجد أدر بسلارا ذاتها في الفترة ما بين (2005-2011م).

لعلَّ من أبرز طلابه رئيس الوزراء الانتقالي الدكتور عبد الله حمدوك (2019-2022م)، والفريق(معاش) شرطة عوض النيل ضحية، والفريق ركن حسن داؤود كبرون، والعميد (معاش) حسن محمود، ووزير الثقافة والإعلام المكلَّف الدكتور جراهام عبد القادر، ووزير الزراعة في حكومة حمدوك الانتقاليَّة الدكتور عيسى عثمان شريف، ووزير الشؤون الإنسانيَّة الأسبق إسماعيل سعد الدِّين، ورئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال القائد عبد العزيز آدم الحلو في مدرسة الدَّلنج الرِّيفيَّة الوسطى (داخل معهد التربية بالدَّلنج)، والأمين العام للحركة الشعبيَّة القائد عمَّار أمون دلدوم بمدرسة سلارا المتوسِّطة، وممثِّل الحركة الشعبيَّة لتحرير السودان – شمال بالمملكة المتحدة وجمهوريَّة أيرلندا الدكتور عمر مصطفى شركيان، والمهندس المتخصِّص في صناعة السكر كندا توتو كوريا، والأديب الباحث محمود موسى تاور وآخرون كثر لا يسع المجال هنا لذكرهم كلهم أجمعين أبتعين.

أما في مجال العمل العام فقد كان الأستاذ أندل قد انضم إلى حركة الإخوان المسلمين في بواكير نشاط الحركة في جبال النُّوبة، وذلك باعتبارها حركة للدعوة والإرشاد الديني.  وحينما تحوَّلت الحركة إلى حزب سياسي، واعتلت السلطة في السُّودان، اعتزل أندل العمل فيها، وفضَّل الابتعاد عن السياسة، وذلك برغم من إغرائه ببعض المناصب الدستوريَّة الرفيعة.  كان الأستاذ أندل عضواً في مجلس الشعب الإقليمي، وحينها عاصر الأستاذ يوسف كوَّة مكِّي في ذاك المجلس.  ثمَّ أمسى الأستاذ أندل رئيساً لجمعيَّة سلارا التعاونيَّة في إحدى دوراتها.  إنَّه لمتزوج وأب لخمس بنات وخمسة أولاد، ويقيم حاليَّاً في حي أقوز غرب مدينة الدَّلنج.

في داره وفي ذاك الحي في تلك المدينة كان كاتب هذه الصفحات قد زاره في كانون الثاني (يناير) 2006م، وذلك بعد غيابي عن هذه المدينة التي شهدت فيها ريعان شبابي، وتتلمذت في معهدها التربوي لإعداد المعلِّمين، ثم كان الذي قد قادني إلى داره هو أحد أساتذتي الأجلاء هو الآخر، وهو الذي اختاره الرَّب أن يخلد إلى مثواه في يوم الجمعة الموافق13 كانون الثاني (يناير) 2023م.  إنَّه الأستاذ جولي أرقوف بودا أرشين – رحمه الله رحمة واسعة.  كانت الشمس قد شارفت على المغيب، أو بالأحرى لنقل قد غابت، وبدأ الليل يغشانا رويداً رويداً بأستاره السوداء، وما أن دخلنا داره، حتى وجدناه يحمل مصباحاً، وبعد الترحاب والجلوس، سأله الأستاذ جولي: أتدري من ذا الذي يكون هذا الشاب الذي اصطحبته، وأتيت به لزيارتك؟  فردَّ الأستاذ أندل بلا.  ثمَّ لم ينتظر الأستاذ جولي كثيراً، بل سرعان ما أخبره بأنه أحد طلابك بمدرسة سلارا الثانويَّة العامة، وإنَّه لعمر مصطفى شركيان.  وما أن سمع الأستاذ أندل اسمي، حتى انشرحت أساريره،وتبسَّم غبطة، ثمَّ زاد في الترحاب، وانشرح صدره سروراً وبهجة.  فنعم الأستاذ المربي أندل، فإنَّه يعتز دوماً بطلابه أيما اعتزاز.  أرأيتم إن غرس أحدكم زرعاً، ونما وأينع وأثمر، ثمَّ حصد ثماره، أفلم يكن من الفرحين!أو كما استطرد أحد زملائه الأساتذة بمدرسة سلارا المتوسطة موضِّحاً، وهو ذاك الذي يقيم حاليَّاً بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، ثمَّ إنَّه الأستاذ سعيد تاور أمون: “إنَّ البذرة الطيِّبة التي تجد السقاية والرعاية، لا بدَّ من أن يكون عطاؤها وافراً، وكان هذا شأن الطلاب الذين بذل الأستاذ الجليل أندل النُّوبي جهداً مقدَّراً في تربيتهم وتعليمهم، فله أجزل الشكر على ما بذل، وأمدَّ الله في أيَّامه، ومتَّعه بالصحة والعافية.”

وإنَّا لنذكر حديث الذين أتوا من بعدنا طلاباً إلى مدرسة سلارا، حيث كان الأستاذ أندل يردِّد لهم دوماً مقولة اللهم عزِّز هذه المدرسة بأحد العمرين: عمر الزبير الجاك وعمر مصطفى شركيان.  فقد اتَّخذ أستاذنا الجليل كلاً منا قدوة حسنة في المدرسة إيَّاها بفضل المثابرة والاجتهاد في طلب العلم، وارتياد المعرفة، وإنا والله له لشاكرين.  وحين ابتعث الأستاذ أندل معلماً معاراً للعمل في جمهوريَّة اليمن، كان لا ينفك أن يذكر تلاميذه بالخير واليمن والبركات، وكان فخوراً بهم كلما سنحت السانحة لذكراهم.

فقد ذكر أحد طلابه، وهو المهندس الكهربائي إبراهيم عبَّاس أقور، المقيم حاليَّاً بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، بأنَّ الأعوام الثلاثة التي قضاها مع زملائه في مدرسة سلارا المتوسطة، حيث قضى فيها الأستاذ أندل أطول فترة زمنيَّة في التدريس – كما أبنا آنفاً – هي التي شكَّلت مستقبلهم.  كذلك كتب أحد تلاميذه في المدرسة إيَّاها، وهو الأستاذ فضل السيد مصطفى شركيان، قائلاً إنَّه “لا يمكن تعداد مناقب هذا المربى الجليل، وإن سوَّدت في سبيل ذلك الصحائف.”  والمناقب جمع منقبة، وهي ما عُرِف به الشخص من الخصال والأخلاق الحميدة.ثمَّ قال عنه أحد زملائه في مهنة التدريس، والذي عمل معه سويَّاً في المدرسة إيَّاها، وهو الأستاذ سعيد تاور أمون مادحاً: “إنَّه لرجل تكتمل فيه صفات المعلِّم المخلص لعمله، الحازم في إدارته، الباذل وقته كله في سبيل أبنائه الطلاب (…)، وبذل كل ما يمكن في سبيل نجاح طلابه، وكان لا يبارح المدرسة، أو ينشغل بأي أمور أخرى خارج نطاق مسؤوليته، فقد كان مثالاً للمعلِّم المحب لواجبه، والإداري الذي لا يفرِّط في القيام بوظيفته ورعايتها على أفضل وجه.”

بيد أنَّ أكثر ما نتذكره، وذلكبعد أن اشتعل الرأس شيباً، هو ما تعلَّمناه مما كان يدرسنا الأستاذ أندل آنذاك في مادة اللغة الإنجليزيَّة بفروعها وهي: علم النحو والمطالعة والأدب الإنجليزي.  كان يتلو علينا الأستاذ أندل من الأدب الإنجليزي في العهد الفيكتوري (نسبة إلى الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى) رواية “جين إير” للكاتبة الإنجليزيَّةشارلوت برونتي، ورواية “مناجم الملك سليمان”، وصنوها “آلان كواترمين” للراوية الإنجليزي السير هنريرايدرهقارد. تعلقت قلوبنا بعشق تلك الرواية وغيرها من الروايات الفيكتوريات، حتى طفقنا نسرد بالتحليل حكاية رواية “مناجم الملك سليمان” الاجتماعيَّة والدينيَّة والسياسيَّة بشيء من التفصيل شديدفي إصدارة لنا سابقة بعنوان “مداد القلم” (دار المصوَّرات للنشر والطباعة والتوزيع بالخرطوم) العام2021م.  ومن فرط إعجابنا بأسلوب التلقين والتحفيظ، وترديد المفردات الجديدة، والمغامرات الباطشة، التي كانت تحويها تلك الكتب المقرَّرة لامتحان الشهادة الثانوية العامة (المتوسطة لاحقاً)، حتىحفظنا صفحات من بعضها في تلك المرحلة العمريَّة منمقتبل الشباب.  ذاك زمان ولَّى، ولكن لا نبالغ لئن قلنا ما زلنا نتذكَّر بعض تعابير تلك الكتب بعد هذه السنوات الطويلة، والعمر المديد.  ثمَّ ما زلنا نتذكر تلك الأيَّام كأحسن مما لو سمعناها بالأمس القريب، وكان الأستاذ أندل في قراءته حينذاك متئداً، وكلما تذكرنا تلك الأيَّام نجتاز الهموم، وننجو من الأحزان والأسقام التي وفدت علينا مع السن.  فلا مراء في أنَّ الذي تعلَّمناه على يد الأستاذ أندل في مادة اللغة الإنجليزيَّة في الصغر هو الذي أهَّلنا لمواصلة التعليم في الكبر عبر معهد التربية بالدَّلنج، وجامعة الجزيرة بواد مدني، وجامعتي هريوت-واط ومانشستر في إسكتلندا وإنجلترا، على التوالي.

وما أن استقرَّ بنا الأمر في بلاد الفرنجة ردحاً من الزمان، ومن ثمَّ خالطنا أهلها، وخبرنا طرائقهم، حتى أعدنا قراءة روايتي “مناجم الملك سليمان”، و”آلان كواترمين”، وعثرنا فيهما على التعابير والأوصاف العنصريَّة التي اشتهر بها جل كتَّاب الإمبراطوريَّة التي لم تكد تغيب عنها الشمس.  تلك هي حال الشعوب في مراحل الانتقال من عهدٍ إلى آخر، حيث تحتفظ دوماً بشيء من ممارسات وسلوك العصور الغابرة كثير أو قليل، وهي تلك الحال التي مرَّت بها المجتمعات الغربيَّة بُعيد إلغاء الرِّق، واحتفظت برواسب الرِّق، ألا وهي العنصريَّة.  من هذه التعابير أو المفردات لعلك واجدٌ كلمة “زنجي” – بالمعنى الاحتقاري للكلمة، وهي التي أقرب إلى “عبد”، وكذلك مفردة “متوحش”، أي غير المتحضر وغيرهما من النعوت المسيئة الاحتقاريَّة.ففي عصرنا هذا أفاق الكتَّاب والناشرون في بريطانيا، وطفقوايخضعون الكتب القديمة إلى المراقبة الأدبيَّة، ويعيدون تدقيق الأعمال الأدبيَّة والتاريخيَّة، التي تحمل الأوصاف العنصرية المقيتة من باب الصواب السياسي (Political correctness or wokism)، وليس من منطلق حرب ثقافيَّة.  إذ أقدم ناشرو أعمال رولدداهل (1916-1990م)، وهو مؤلِّف كتب الأطفال الأشهر، على حذف عبارات مثل بدين من عبارة بدين في أشدَّ ما تكون البدانة، ووصف أسود من تعبير عباءة سوداء، الذي ورد في الكتاب أكثر من مرَّة، حتى لا يبدو الكتاب مسيئاً للسُّود.  علاوة على ذلك، فإنَّ رولدداهل كان يعادي الساميَّة، أي اليهود.  إزاء ذلك تمَّت مراجعة قصص إخوان قريم من نصوصه الأصليَّة أكثر من مرَّة.  تأسيساً على ذلك جاري الحديث عن تحديث كلاسيكيات “ليديبيرد”، التي تشتمل على حكايات الأخلاق والحياة في قصصها الخاص بالجن، و”سندريلا”.

غير أنَّ منتقدي هذا التحديث الذين وقفوا في الشاطئ الآخر،وإذ نذكر منهم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، والأديب الأريب سلمان رشدي، قد شرعوا يتساءلون: هل سيقدم هؤلاء الناشرون على تغيير العبارات المسيئة، أو حذفها من أعمال الشاعر المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير (1564-1616م)؟لعلَّ هناك من ارتأى أنَّ قرار خضوع أعمال رولدداهل للمراقبة إنَّما هو قرار تجاري أكثر من أي شيء آخر، وهناك من ارتأى أنَّه لا ينبغي خضوع الأعمال التاريخيَّة للمراقبة في سبيل محو مفردات ذات صلة وثيقة بالنصوص الثقافيَّة والسياسيَّة بالطريقة التي بها كُتِبت في ذلك الحين من الزمان، ثمَّ ارتأت طائفة أنَّه لا يمكن تغيير الماضي، بل هناك من سبيل إلى تغيير المستقبل، وأنَّ مراجعة كتب الأطفال من أجل إحلال كلمات بأخرى يُعدُّ خطأً وساء سبيلاً.  بدلاً عن ذلك فعلى النقَّاد أن يكتبوا كتباً جديدة يستظهرون فيها نمطاً من الأصالة.  وماذا يكون الأمر إذا كان ما كُتِب في هذه النصوص يحمل أخطاءً فادحة، أو يكتظ اكتظاظاً ليس بقليل بالنعوت العنصريَّة الطالحة، والتعابير الماجنة.

إنَّنا لا نخشى القول بأنَّنا لا نفهم اليوم بيت شعر من الإلياذةوالأوديسا للشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس، والكوميديا الإلهيَّة للشاعر الملحمي الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م)، أو الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي جون ميلتون (1608-1674م)، وذلك بالمعنى الذي أرادوه في الأصل.إنَّ الحياة في تبدُّل مستمر، وحياة أفكارنا في تغيُّر غير مستقر، وسيعجب النَّاس منا ما هو غريب عنا.  أجل، معاني الكلمات تتغيَّر بتغيُّر الأجيال كلما ظهر جيل جديد بمصطلحاته.  فقد ذكر أستاذ علوم اللسان العربي بجامعة الجزائر المركزيَّة الدكتور سالم علوي في تأليفه الموسوم “شجاعة العربيَّة: أبحاث ودروس في فقه اللغة” الصادر العام 2006م أنَّ ألفاظ اللغة أي لغة يعتريها ما يعتري الكائن الحي من تغيُّر وتغيير، وزيادة ونقصان، ومرض وصحة، وحياة وموت، برغم من أنَّ ليس لها ذات ولا وزن ولا لون، وهي مسموعة بالآذان، موصوفة بالألسن غير منظور إليها.  وفي ذاك كله نتيجة لما يطرأ عليها من الاستعمالات المختلفة للمجتمعات المتنامية والمتباينة، والخاضعة للحاجات المتولِّدة لإشباع أغراض ورغائب البشر، وأعرافهم ومعاملاتهم، وهواجسهم الدينيَّة والدنيويَّة غير المتناهية في ظاهرة اجتماعيَّة تزدهر بازدهار فنون القول.

لا مراء في أنَّ المنظور الدلالي للألفاظ تحكُّمي، فقد تكون دلالة لفظ ما في أعلى عليين، ثمَّ يصيبها التحوُّل والتغيُّر إلى أسوأ الدلالات، ولنا مثل فيما نقول في لفظ “الجرثومة”.  فالجرثومة في وضعها اللغوي تدل على أصل الشيء كما جاء في فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي النيسابوري (961-1038م)، وقد تحوَّلت من دلالتها الأساسيَّة التي تعني الأصل والنَّسب إلى العاهة المزمنة، وغدت مصطلحاً طبيَّاً يدل على الميكروب (Microbe).  ومن الألفاظ التي اكتسبت دلالة التوسُّع والارتقاء لفظ “المسرح”، الذي كان يعني مرعى الإبل والغنم والخيل والبغال والحمير، وغيرها من الأنعام، لكن دلالتها شاعت وارتفعت إلى ذي مستوى عالٍ، له قوانينه الخاصة، ومناهجه الخاصة، واختصَّ به أقوام من الكتَّاب المختصين.  وما مصطلح “الفنان” بأقلَّ تطوُّراً من مصطلح “المسرح”، فقد كان يُطلق على الحمار الوحشي لتفنُّنه في العدو؛ لكن دلالته المتداولة اليوم تعني صاحب الموهبة الفنيَّة؛ كالشاعر والكاتب والموسيقي والمصوِّر والممثِّل، وغير هؤلاء مما يُطلق عليه مصطلح “المبدع”.  هكذا يمكن أن تتغيَّر اللغة أي لغة، وتتحوَّل من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى، أو من الانكماش إلى الازدهار أو العكس، وبالاختصار التحوُّل من حال إلى حال، أو الثبات والدوام.

أيَّاً كان من أمر اللغة، فقد كان الأستاذ أندل صارماً في الأوامر والنواهي، والفروض والواجبات، التي لا طائل تحتها أو فوقها، والالتزامات التي بلغت في الشدَّة غاية لا غاية بعدها، لكنها كانت مبجَّلة ومحترمة، لا تُنفَّذ بجدل أو اعتراض أو تمحيص، بل إنَّك لا تخالفها، وإلا تعرَّضت لأشد التقريع، والعقاب المروِّع.  فلا سبيل إلى الشك في أنَّ طلابه، الذين سموا يوماً فوق عوالمهم، وبلغوا إلى تبيان وتبيين معرفة ذواتهم، ومعرفة تجارب الذين حولهم، حتى أيقنوا أنَّ الذي كان يشتد فيه عليهم الأستاذ أندل، ويلحُّ عليهم في طلبه إلحاحاً ليس بقليل من أضراب العلوم والمعارف، ما كان إلا لمصالحهم الآجلة في الحياة الدنيا لئن هم أرادوا ارتياد دروب السعادة والرفاه في المستقبل.

علاوة على ذلك، فقد علمنا حينذاك أنَّ الأستاذ أندل كان مصارعاً بارعاً لا يشق له غبار، وهو الذي ينتمي إلى قرية سلارا، حيث موطن “بلَّوُور.. عملاق سلارا”، أي تلك الشخصيَّة الأسطوريَّة التي كتب عنها صديقنا الأديب الألمعي محمود موسى تاور بشيء من التشويق شديد.  وتمتاز منطقة سلارا عامة، وتُنديَّة ومناطق قبيل الأما الأخرى خاصة بمصارعين شداد غلاظ، حيث أوتوا بفضل الله بسطة في الحجم والجسم، ولا يضاهيهم في الحجوم والجسوم إلا مصارعي قبيل الكورنقو.  فهل أذكِّركم بما عرفناهم في ذلك الرَّدح من الزمان من المصارعين الأفذاذ في جولاتهم وصولاتهم في الاحتفالات الطقسية (سبر النِّتل مثالا)، حيث كنا نشاهد مصارعة الكبار في ساحة الأسبار!  فهناك إخوان قاو (سبت وعيسى وعبد الباقي)، وإبراهيم سبع جبال، وإدريس حجر.  وهل أذكِّركم كذلك بشخصيَّة عبَّاس عقرب في السبعينيَّات من القرن العشرين المنقضي، وهو الذي يتحدَّر من جبال أما الثمانية، والجبل دلالة على المنطقة، وهذه المناطق هي: سلارا وتُنديَّة وكلارا وكُرمني والنِّتل وككرة والفوس وحجر سلطان (عجبنا)؛ وعبَّاس عقرب هو الذي سُمِّي عليه ميدان عقرب بالخرطوم بحري، وفي أمره ذاك حكاية أخرى!

أما بعد فها أنذا نسطِّر هذه الكلمات القليلات في حق من كان له الفضل المستعظم في أن نشق طريقنا إلى منابر العلم والتعليم.  فكم من أنامل سطَّرت كلمات في حق مَنْ نعجز أن نرد لهم الجميل، ولو القليل!  وكم من معلِّم جاهد في سبيل العلم والتعليم، حتى يصبح من الأجيال من كان له شأن في البناء والعمران، وتنمية المجتمع!  إنَّ المعلِّم للشعوب لحياتها ودليلها وعطاؤها المتفاني.  فمَنْ منَّا لا يدري بأنَّ بالمعلِّم تشرق الحياة، وبه نستبشر المستقبل.  أفليس من الحق أن نقول شكراً لمعلِّمنا أندل النُّوبي كنقر سالمون من قلوبنا برغم من أنَّ كل عبارات الشكر والامتنان لا يمكن أن تعبِّر عن مدى تقديرنا وتوقيرنا واحترامنا له، وكذا الشكر موجه من أعماق قلوبنا لجميع الأساتيذ الذين كانوا سبباً في تعليمنا، ومحبتنا للعلم، والذين كانوا سبباً في وصولنا إلى هذه الأماكن التي نحن فيها الآن، فلولاهم لما عرفنا معنى النجاح، وسر الفلاح.

 

 

 

[ad_2]
المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى