فى الأزمة السودانية, أيهما المخرج, الاحتواء أم الإخضاع
بقلم حسين اركو مناوى.
المخرج من الأزمات الكبيرة يحتاج إلى أفكار كبيرة…. فى عالم الصراعات اياً كان نوع الصراع لن يستمر الصراع إلى ما لا نهاية, لا بد لاىّ صراع نهايات… النهايات لا تخرج من ثلاثة خيارات؛ الانتصار أو الهزيمة أو التسوية.
الانتصار , الهزيمة , التسوية, كلها نتائج لإعمال العقل البشرى عبر تخطيط عادة تُعرف بالتخطيط الاستراتيجي وهنا الأفكار الكبيرة تلعب دوراً محورياً لتحديد أي من الخيارات ستصير إليها النتائج.
من أراد أن يبني منزلاً وهو يفكر فى مواد غير مواد بيئته ويُصّر أن يجلب مواداً من بيئة خيالية لن يبنى ذلك المنزل ولو عاش عمر سيدنا نوح.. هذا هو تقريباً التفكير السياسي فى السودان.
للسودان واقع اجتماعي وسياسي ليس بسهولة أن تتجاوزه جهة ما لإدارة دولاب الدولة ومن العجز أن نفشل فى التعامل مع هذا الواقع وخاصة من الناحية السياسية وإذا كان سر نجاح السياسة هو البراغماتية, المرء يتساءل أين هذه البراغماتية فى السياسة السودانية الغارقة في شبر ماء من أبجديات العلاقة بين الثلاثى التى تؤسس الوطن ( الجغرافيا-الشعب- الحكومة)، وهي معادلة بسيطة تنتهي بالمواطنة الحقيقية والمواطنة هى أساس الدولة.
لا تتوفر دراسات أو برنامج أو مشروع وطنى, قامت على أساس الواقع الاجتماعي السياسي فى السودان , حتى رؤية وأفكار السودان الجديد ذَبُلت ويَبست قبل أن تنمو وتكبر بقوة تلاقح الأفكار فيما بيننا كشعب متنوع فى الأعراق واللغات والثقافات.
إذا ما تواضع أهل السودان باطيافهم السياسية والاجتماعية على الجلوس في طاولة الحوار بغض النظر عن أفكارهم, اسلامية, اشتراكية, علمانية , وطنية… فإن مثل هذا الحوار يكشف مكامن الأزمة ودون شك يساعد على البحث عن مخرج يتسامى فوق نقاط الخلاف.
الطبيعة الاجتماعية والسياسية فى السودان لا تشجع على أن نستورد تجارب لكى نُخاطب بها الأزمة السودانية الفريدة ولكن لا يمنع ذلك من أن نستفيد من التجارب البشرية وخاصة من تجارب الشعوب التى تشبهنا فى كثير من أوجه الحياة. جنوب أفريقيا خرجت من أزمة كبيرة, رواندا خرجت من أزمة دموية كادت أن تتلاشى بسببها دويلة رواندا…. تنجانيقا وزنجبار كانتا مثالاً لإقامة اتحادٍ عُرف بدولة تنزانيا, وأمثلة كثيرة أخرى فى التاريخ البشرى.
هنا تبرز لنا اسئلة مهمة وكبيرة عن المخرج من الأزمة وإذا ما تم طرح هذه الأسئلة على طاولة حوار سوداني سوداني لا أشك فى إنّ قناعات مشتركة سوف تتكون وتدفع نحو المخرج من الأزمة. والأسئلة هى كما يفرضه عنوان المقال؛ كيف نفكر نحن السودانيون فى المخرج من الأزمة؟ ما هى أنسب استراتيجية مخاطبة الأزمة السودانية؟ هل هي استراتيجية الاحتواء أم استراتيجية الاخضاع؟
الاحتواء, الاخضاع,هما مفردتان قد لا تختلف الناس فى تفسيرهما عندما نستخدم خارج سياق, decontextualized ولكنهما كمصطلحين فى منظور السياسة والاجتماع تفسيرهما يحتاج إلى قوة سياقية highly contextualization.
فى السياسة الإحتواء لا يمكن أن يُفسّر إلا في مناخ الإشراك inclusion والإقصاء exclusion وهما مصطلحان قوتهما وأهميتهما في المجتمعات المنقسمة عرقياً في الدرجة الأولى وفي الدرجة الثانية المجتمعات التي تعاني من تقاطعات سياسية حادة وإذا نظرنا إلى المصطلحين, كليهما أفضل نموذج لدراسة حالة الدولة السودانية.
الحروب التي اندلعت فى السودان وعلى مدى ستين سنة كانت تُدار فى سياق الإقصاء exclusion لأن معظم أدبيات الحرب سواء حرب الجنوب أو حرب دارفور أو فى المنطقتين كانت ذات شحنة عالية من قضايا التحرر في إطار المشاركة السياسية وكان مصطلح المواطنة كمعيار لمعالجة الأزمة السودانية إلا أن تطبيق فكرة المواطنة فى الدولة السودانية يمكن أن يتم عبر نماذج مختلفة حتى نتمكن من محافظة وحدة البلاد وبالضرورة السودان يحتاج إلى نماذج من الإشراك تشكل الحد الأدنى التى تلتقى فيها كل التقاطعات, والنماذج المطلوبة قد تكون أحد هذه الخيارات أو جزء منها؛
-استراتيجية الفيدرالية وقد تكون فيدرالية إثنية أو فيدرالية ثقافية بدرجات متفاوتة بما فيها الحكم الذاتي.
– استراتيجية الديمقراطية التوافقية consensus democracy وهي استراتيجية مهمة فى الدول التى لديها مشكلة الأقليات حيث يتم إشراكهم بصيغة من صيغ المشاركة ومن أفضل النماذج, نجد فى سويسرا ولبنان والدنمارك وبلجيكا وقد يسرت الديمقراطية التوافقية فى احتواء مشكلات اللغة والثقافة وجعلت مشاركة الأقليات فى اتخاذ القرار السياسي ممكناً.
بغياب هذه الاستراتيجيات كآليات عملية بها يتم الاحتواء سيكون البديل هو أن يطل شبح أو غول استراتيجية الهيمنة والإخضاع برأسه وهذه الاستراتيجية بالضرورة تنتهى بكارثة نتائجها أما الإبادة الجماعية أو التهجير القسرى أو تقرير المصير. السودان جربت استراتيجية الهيمنة والإخضاع لمدة ست عقود و جنينا ثمارها المرة وذقنا ويلات الإبادة والتهجير وذهب جزء من الوطن تحت طائلة تقرير المصير.
بعد كل هذه التجارب المريرة, هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة أم لا زلنا أسرى علقية متطلعة إلى الوراء retrospective mind والتى لا تعرف غير الانتقام. عندما خرج نلسون مانديلا من المعتقل, كان عامة الناس يعتقدون إنه تحرر من قيد الحبس ولكن الرجل كان يرى أبعد من التحرر بمعناه المجرد , كان يرى إنه تحرر من عقلية الانتقام وذلك التحرر هو الذى قاد جنوب أفريقيا إلى التسوية التاريخية.
السودان الآن دخل مرحلة لم تبق أمام الشعب السودانى خيارات كثيرة بل هناك خيار واحد هو الوفاق ولن يتأتى ذلك إلا بأعمال تفكير عظيم على قدر أزمة المرحلة التى نحن فيها لكى يقود البلاد إلى تسوية تاريخية. الأفكار السائدة اليوم لن تقود إلى اىّ تسوية تاريخية ما لم يتخلى صناع القرار والسياسيين عامة وأصحاب الفكر عن كل ما له علاقة بالرؤية الاقصائية التي أقعدت الدولة السودانية لعقود من الزمن.
الأفكار الكبيرة المتقدمة هي التي تؤسس أرضية صلبة للتسوية التاريخية ولكن مثل هذه الأفكار تحتاج إلى أعلام ناضج يساعد على التلاقح الفكري كما تساعد الرياح على تلقيح السحب الممطرة, أما الإعلام الذي يسود اليوم فضاء السياسة لن يقدم شيئاً ذا جدوى ولو استمر ألف سنة سيظل داخل شرانق بغاث الأفكار غارقاً فى جزيئات مجهرية وردود أفعال وهو بائس في لغته الرسالية. ما يُبث اليوم في الإعلام يساهم بقدر كبير في هزيمة اى فكرة عظيمة نحو تسوية تاريخية لأن الإعلام وخاصة سوشيال مبدئيا غدت ساحة تدار فيها معارك مضحكة لا تقدم للفكر شيئاً وهى من شاكلة الرفس والعض و التناطح ومبارزة الديكة.
السودان فعلاً يعيش ظرفاً حرجاً يضع أمام بنيه خيارات صعبة والمرحلة أعتقد أنسب مرحلة للتسوية التاريخية ويجب أن نخوض التجربة بارادتنا الخالصة من خلال منهج نبتكره نحن السودانيون قبل يُمْلَى علينا خارجياً.
التجارب التى من حولنا تُعلمنا كان ثمة قادة تاريخيين أمسكوا بأعنة مجريات السياسة وقادوا إلى تسوية تاريخية. القيادة التاريخية في جنوب أفريقيا تكفلت عناء التسوية التاريخية وكفى الله المؤمنين شر القتال, أما السودان لظروف انعدام قيادة تاريخية وقدوة, يتطلب من الشعب السودان أن يبتكروا منهجاً بديلاً للوصول إلى تسوية تاريخية والخيار الأنسب هو عقد مائدة حوار مستديرة تطرح فيها بشفافية كل القضايا الرئيسية للأزمة السودانية ولا ضير أن يكون هناك مراقبون دوليون ومثل هذا الحوار يجب ألا يُشترط عليه الزمن لأن الجوهرليس عامل الزمن إنما المطلوب هو الوصول إلى تسوية تنهي الأزمة التي استمرت أكثر من سنتين سنة, فليستمر الحوار سنة كاملة ولكن الأهم هو الوصول إلى تسوية سياسية تاريخية تأتي بمخرجٍ نهائيٍ من عنق الزجاجة.
المصدر