عنف البادية : حكاية قوات الدعم السريع في السودان
[ad_1]
فيصل محمد صالح
من دون استصحاب مصطلح عنف البادية يصعب استيعاب وشرح ظاهرة قوات الدعم السريع وممارساتها وانتهاكاتها الواسعة التي سارت بها الركبان. فهي في الأصل ميليشيا عشائرية قامت على الأساس القبلي وتتسم عملياتها بالطابع البدوي القبلي للصراعات، وما يتبعه من سلب للغنائم وسبي للنساء عند الانتصار على القبائل المناوئة. الفرق بينها وبين ميليشيات أخرى في بلاد شبيهة، أن هذه القوات أنشأتها الدولة ونصت عليها في دستورها وووضعت لها قانونا أجازه البرلمان، وصرفت عليها من ميزانية الدولة الرسمية.
لنبدأ الحكاية من أولها، فإن استعانة الدولة بالميليشيات القبلية ليس أمرا جديدا، فمعظم حكومات السودان، العسكرية والمدنية استخدمت الميليشات القبلية في حرب الجنوب الثانية (1983-2005م)، وفي حروب دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق (2003- 2020م). وكانت المبررات أن هذه القبائل تملك سلاحها وتعرف جغرافيا مناطقها وتستطيع بالتالي حماية أراضيها الحدودية بدعم نوعي من الدولة، لتتفرغ القوات المسلحة للمعارك الأخرى. وحملت هذه الميليشيات القبلية أسماء عديدة مثل الفرسان، المراحيل، المجاهدين، حتى قننتها حكومة عمر البشير عام 2003 وأسمتها حرس الحدود واعتبرتها فوة نظامية بأرقام عسكرية.
تكونت قوات حرس الحدود من الرزيقات الشمالية، وهم “أبالة” أي من رعاة الإبل، وكان قائد القوات هو الشيخ موسى هلال زعيم قبيلة المحاميد، وهم فرع من الرزيقات. وانضم لهم محمد حمدان دقلو وأبناء عشيرته من الرزيقات الماهرية. وفي تلك الفترة أطلق أهل دارفور على هذه القوات مصطلح “الجنجويد”، وعرفوا بالقسوة والشدة والعنف الزائد، وقد كانوا يستبيحون القرى التي يعتبرونها داعمة للحركات المسلحة، فيحرقون المساكن والمزارع والمواشي، ويسلبون كل ما يقع في أيديهم باعتباره غنائم، كما مارسوا الاغتصاب كسلاح لالحاق العار بمن يحاربونهم.
انقلب محمد حمدان دقلو على الزعيم موسى هلال وتولى قيادة هذه القوات بعد أن تغير اسمها عام 2013 لقوات الدعم السريع “قدس” . في عام 2017 تم إصدار قانون خاص بقوات الدعم السريع أجازه البرلمان، واعتبرها قوة نظامية تتبع للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وتمتعت باستقلالية كبيرة من القوات المسلحة وبإمكانيات مالية كبيرة اجتذبت بعض كبار الضباط بالقوات المسلحة وبعض الذين تقاعدوا بالمعاش، وتوسعت في التجنيد حتى بلغ عدد مقاتليها من الشباب صغير السن مابين 30 إلى 40 ألف مقاتل. كما تم اعتمادها للمشاركة في حرب اليمن بمقابل مادي كبير، مما ساعدها في خلق علاقات خارجية مستقلة عن علاقات الدولة والقوات المسلحة.
عرف حميدتي بحدسه الفطري أن النظام ساقط لا محالة، فساهم مع قيادة القوات المسلحة في تنفيذ المطالب الشعبية بتغيير النظام في 11 أبريل 2019م. منذ ذلك التاريخ ازدادت أهمية الدور الذي تلعبه قوات الدعم السريع وقائدها في المجالين العسكري والسياسي، فتم تعيينه عضوا في المجلس العسكري ، ثم تولى قيادة وفد التفاوض العسكري مع المدنيين حتى التوقيع على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية.
خلال هذه الفترة أصدر الفريق البرهان مرسوما دستوريا في يوليو 2019 عدل بموجبه قانون الدعم السريع وألغى المادة التي تلزمها بالخضوع لقانون القوات المسلحة. وتمت الإشارة إلى قوات الدعم السريع في الوثيقة الدستورية كقوات نظامية، ثم عين البرهان الجنرال حميدتي نائبا لرئيس مجلس السيادة.
توسعت قوات الدعم السريع في التجنيد حتى تم تقدير عددها في الفترة الأخيرة بمائة ألف مقاتل، وتنوعت مصادر تسليحها، ومنحها البرهان كثير من معسكرات الجيش وجهاز الأمن والمخابرات لتتبع لها، وتم انتداب عدد كبير من ضباط الجيش للعمل بالدعم السريع.
وتميزت القوات بالوضع المالي المميز لجنودها وضباطها بشكل لا يمكن مقارنته بمرتبات وامتيازات الجيش. ورغم هذا التوسع إلا أن قيادة القوات استمرت ذات طابع عشائري وأسري محدود، فعبد الرحيم دقلو شقيق حميدتي هو نائب القائد، وشقيقهم الثالث القوني مسؤول الاستثمارات، وأبناء عمومتهم وخؤولتهم يتولون الإشراف على كل مفاصل القوات. وبتنسيق كامل مع قيادة القوات المسلحة أقام المكون العسكري علاقات وثيقة مع روسيا واسرائيل، متخطيا الحكومة المدنية.
لم يمر هذا الأمر دون غضب وسخط القواعد الوسيطة والدنيا من القوات المسلحة، فقد كانت المقارنة ظالمة، ظلت عملية توزيع الرتب لقوات الدعم السريع مستفزة للضباط الذين يتدربون بالكلية الحربية ويتلقون عشرات الدورات والكورسات وسنوات الخبرة لينالوا ترقية لرتبة أعلى، ثم يجدون شاب حديث السن لم ينهي دراسته الثانوية بنجاح يحمل نفس رتبتهم بقوات الدعم السريع.
بالمقابل أيضا ظلت القوى السياسية المدنية التي ساهمت في الثورة تطالب بحل قوات الدعم السريع ودمجها في القوات المسلحة لتكون هناك قوات مسلحة وطنية واحدة، وظل شعار التظاهرات الشعبية المنادية بمدنية الدولة “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”. ولم تنس الجماهير أن قوات الدعم السريع كانت القوة الضاربة في مذبحة فض الاعتصام السلمي في يوينو 2019 . المدهش إن البرهان وقيادة الدولة العسكرية هم من ظلوا يدافعون عن الدعم السريع ويرفضون المطالبات بحله، وكانت ردودهم الدائمة أن الدعم السريع خرجت من رحم القوات المسلحة وأنها جزء منها. وكافأ البرهان الجنرال حميدتي بعد مشاركته في الانقلاب العسكري على الفترة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021م، فمنح قوات الدعم السريع 30% من أسهم منظومة الصناعات الدفاعية، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الاقتصادية والصناعية في البلاد.
توسعت طموحات حميدتي وبدا واضحا أن موقع الرجل الثاني لا يكفيه، في الوقت الذي كان البرهان يتلاعب أيضا بالاتفاقات التي يوقعها مع القوى السياسية المدنية ثم يتنكر لها، وبدا الصراع بين الرجلين صامتا، وكاد أن يتحول لصدام عسكري أكثر من مرة، خاصة بعد اتهام حميدتي للبرهان بأنه عاد ليتحالف مع رموز النظام القديم الذين يعتبرون حميدتي عدوهم الأول، فقد صنعوه ودعموه لكنه تنكر لهم وساهم في الإطاحة بنظامهم.
تطورت الأمور خلال ثلاثة أشهر من العداء الصامت، للتلاسن العلني في أجهزة الإعلام ولقاءات التنوير العسكرية، ووصلت لاحتكاكات متعددة هنا وهناك، وساهمت جهات من رموز النظام القديم، ذات مصلحة في دفع الأطراف للحرب، بزعم جاهزيتهم لدعم البرهان للقضاء على قوات حميدتي في ثلاثة أيام. مضت الآن خمسون يوما دفعت فيها البلاد ثمنا باهظا من الخسائر البشرية والمادية وتدمير البنيات الأساسية وتخريب الاقتصاد الوطني، دون أن يعرف أحد متى ستنتهي هذه الحرب، بل دون وجود تفسير معقول لبدايتها في هذا التوقيت بالضبطـ ، خاصة بعد أن وقع البرهان وحميدتي مع القوى المدنية الاتفاق الإطاري ا*لذي نص على دمج الدعم السريع في القوات المسلحة، وهذا أول اتفاق من نوغه خلال السنوات الأخيرة.
المصدر