عثمان ميرغني: المرحلة الثانية في حرب السودان
[ad_1]
الحرب من أكبر التحديات التي تواجه السودان وخطرها على البلد لا يمكن أن يخفى على أحد، فحريقها يمكن أن يكبر في الداخل، ويمتد إلى دول أخرى. وما يحدث اليوم هو المرحلة الأولى التي إن هزمت فيها قوات الدعم السريع في الخرطوم وفشل مخطط تسلم السلطة، فسوف نرى المرحلة الثانية من دارفور.
الرصاصة الأولى في الخرطوم انطلقت صباح يوم 15 أبريل (نيسان)، لكن المراحل التي أوصلت البلد إلى هذا الوضع بدأت في الواقع قبل ذلك بكثير. بدأت يوم أن اعتقد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) أنه صارت لديه حاضنة سياسية، وتحالفات اجتماعية، وارتباطات ومصالح خارجية توفر له غطاء لعملية القفز على السلطة.
مرت قبل ذلك مراحل عدة نفخت في طموحات الرجل وأحلامه؛ منها المرحلة التي جعلوه فيها ذراع السلطة الباطشة ومنحوه الرتب ونفخوا فيه حتى لقبه الرئيس السابق عمر البشير بـ«حمايتي». سمحوا له بوضع يده على ثروات البلد من الذهب وتهريبها، وبالتوسع في بناء الثروة والنفوذ من خلال شركات وعمليات تجارية وغير تجارية مع شبكة خارجية.
جاءت بعد ذلك، المرحلة التي جعلوه فيها الرجل الثاني في تركيبة السلطة إبان الفترة الانتقالية بعد الثورة، ومنحوه صلاحيات واسعة، ودفعوا به للتصدر في ملفات سياسية واقتصادية لم يكن مؤهلاً لها. لم يكن مستغرباً أن يصدق بعد ذلك أنه بات بمقدوره أن يستحوذ على «كعكة السلطة» كلها ويصبح الرجل الأول في ظل الفوضى، والمماحكات السياسية، والصراعات التي أطاحت بأحلام الثورة، وعرقلت الفترة الانتقالية.
أطراف كثيرة شاركت في هذا المسلسل العبثي عن دراية، أو بجهل، أو بظنها أنها أذكى من الرجل الذي حسبته «بسيطاً ومحدود الخبرة والأفق»، وأنها يمكن أن تستخدمه مطية في لعبة شد الحبال السياسية، وسباق السلطة، وسوق التحالفات والتوازنات بين المدنيين والعسكريين. وجد حميدتي الأطراف المختلفة تتسابق نحوه لكسب بندقيته حليفاً، أو للحصول على دعمه من مال الدولة المنهوب.
في تلك الأجواء رأى حميدتي فرصة لكي يناور أيضاً مع كل الأطراف بعدما تضخمت طموحاته، وتوسعت علاقاته في الداخل، ومصالحه وحساباته مع أطراف في الخارج، حتى رأى أنه يمكن أن «ينازل» حلفاءه في الجيش مستنداً إلى قواته التي نمت في العتاد والتعداد، وإلى تحالفاته الجديدة. وقد تحدث بنفسه عن حلفائه في القوى السياسية بعد اندلاع الحرب وفي أيامها الأولى التي صدق فيها أنه قاب قوسين أو أدنى من إكمال مخطط وضع يده على السلطة مع ذلك التحالف أو من خلاله. فالكل كان يحاول أن يمارس بهلوانيات سياسية في سوق تحالفات انتهازية في سباق السلطة.
وبينما البلد يحترق، يستمر البعض في الجدل ومعارك طواحين الهواء وتبادل الاتهامات. كل طرف يحاول غسل يديه من مسؤولية الحرب بإلقائها على الطرف الآخر الخصم، بينما وجد البعض في شعار «لا للحرب» ملاذاً يظنونه آمناً من مسؤولية اندلاعها واستمرارها.
بغض النظر عن أهداف أو جدوى هذه المعارك، لا أفهم كيف يمكن للمرء أن يقول إنه يقف على الحياد متدثراً بشعار «لا للحرب»، وهو يرى ممارسات أفراد «الدعم السريع»، والتدمير الممنهج لعاصمة البلاد؟
قوات الدعم السريع ارتكبت أبشع الممارسات في الخرطوم، تماماً كما فعلت ولا تزال في دارفور. قتلت وحرقت ودمرت واغتصبت واحتلت بيوت المواطنين، بل وتزوجوا فيها ونقلوا أسرهم إليها.
النتيجة أن غالبية السودانيين باتوا يقفون ضدها ويتمنون زوالها بعد ما رأوه منها، وما عانوه على أيدي أفرادها، ويرون في الجيش الدرع الذي يحول بينهم وبين الخطر الذي يهدد البلد.
هل هناك من يصدق حقاً، أن قوات الدعم السريع التي قامت بأبشع الانتهاكات في دارفور وفي الخرطوم، يمكن أن تصبح حملاً وديعاً، وشريكاً موثوقاً يأتيهم بالديمقراطية؟ وهل لعاقل أن يصدق أنها ستقبل بالتخلي عن سلاحها، الذي هو ضامن ثرواتها ونفوذها، لتصبح مجرد رقم عادي في معادلات السياسة؟ وهل بعد كل هذا الذي جرى، يمكن الوثوق بقوات الدعم السريع، والحديث عنها بوصفها قوة نظامية أو مهنية يمكن دمجها في القوات المسلحة؟
لقد تضخمت طموحات قيادات «الدعم السريع» وبات لديها مشروعها التوسعي، وأحلامها في السيطرة على مقعد الحكم في الخرطوم والسيطرة على البلد كله ومقدراته، مدعومة بتحالفات داخلية ومخططات خارجية. وحتى بعدما بدأت تخسر المعركة في الخرطوم، فإنها تتحرك للتوسع فيما يبدو أنه المرحلة التالية في الحرب. فدارفور تقضم الآن بشكل متسارع من قوات الدعم السريع التي ستجعل منها قاعدة لتحركات أكبر، مستفيدة من مطاراتها كي تأتي عبرها المساعدات والأسلحة من حلفاء متربصين بالسودان وطامعين في موارده أو أراضيه، ويأتيها أيضاً المدد من المتجندين والمرتزقة من قبائل أفريقيا الوسطى وتشاد والنيجر ومالي وغيرها. ومع تكثيف وتوسع عملياتها في دارفور واستهدافها للحاميات العسكرية ومراكز الشرطة، ستحصل أيضاً على غنائم السلاح بما فيها الأسلحة الثقيلة، لكي تنطلق بعد ذلك للسيطرة على مناطق أخرى، ومنها إلى الخرطوم الآن أو مستقبلاً في جولة أخرى لهذه الحرب، أو لتقسيم البلد.
في هذا الوقت لا بد من أن يتساءل المرء عن موقف الحركات المسلحة في دارفور وبشكل خاص تلك الموقعة على اتفاقية السلام في جوبا التي حصلت بمقتضاها على المناصب، وتتقاضى قواتها الرواتب من خزينة الدولة. فإذا كانت تقول إنها على الحياد في معركة الخرطوم، فهل هي على الحياد أيضاً فيما يدور في دارفور ويستهدف أهلها؟ وهل ستستمر في الوقوف متفرجة على أمل أن ينهك الجيش و«الدعم السريع» معاً، لتجد في ذلك فرصة لتحقيق المزيد من المكاسب؟
«الدعم السريع» لا تريد فقط استخدام الحرب في دارفور للضغط على الجيش وتشتيته في معركة الخرطوم، بل الواضح أنها ستكون «الخطة ب» والمرحلة الثانية للسيطرة على البلد أو لتقسيمه وفتح الطريق لعملية توطين داعميه ومجنديه من قبائل صحارى أفريقيا.
السودان يواجه وقتاً عصيباً ويحتاج إلى توحد الصفوف والرؤى حول خريطة طريق تخرجه من هذه الأزمة، وقبل ذلك لدعم الجيش في معركة تعلو فيها مصلحة الوطن على كل الحسابات الأخرى.
عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
—–
نقلا عن الشرق الاوسط
مصدر الخبر