عبد الخالق محجوب عن معارضة الإثارة ومعارضة النهضة
أكثرت مؤخراً من الدعوة للتمييز بين “معارضة المقاومة” التي هي إثارة طبعت المعارضة في عهدي نميري والبشير بصورة خاصة و”معارضة النهضة”. ولم يكسد سوق ثورات التغيير إلا لأن مقاومتها لم تتطلع لأبعد من تغيير النظام. وأذكر من كان يقول لي والله كتابتك الكتيرة دي لا جدوى منه. خلينا نسقط ولاد الكلب ديل وكل شيء يترتب في وقته. وربما لاحظتم أنه أنعقد مؤتمران عن الاقتصاد بعد ثورتي 1985 و2018 وعوتهم قامت. وسألت ألم يكن بالوسع تضييق وجهات النظر تلك خلال ثلاثين عاماً إذا اكتسبت المعارضة “عادة الثقافة”. وكان مقتل ثورة 2018 في معارضة جاءت للدولة و”اباطا والنجم” من مشروع متوافق عليه في إدارة التغيير من منصة الدولة. وسجلت الثورة المضادة أول نصرها ضد مشروع تغيير المناهج الفضائحي (فيه نقل عن مقررات مدرسية في العالم العربي بغير عرفان، وتلقين الطلاب أيدلوجيا السودان الجديد من نص للعقيد قرنق) الذي كان القراي رأس رمحه. وكتبت يومها إنه جاء لهذه المهمة العصيبة ولم يبد أنه قرأ حتى ما كتبه إخوانه النور حمد وخلف الله عبود عن مناهج الإنقاذ. وخبأ الرجل بعد أن أهدى الثورة المضادة نصراً سهلاً.
أعرض هنا لأول من عرفت عنه التمييز بين معارضة الإثارة ومعارضة النهضة وهو استاذنا عبد الخالق محجوب. قلت:
كان عبد الخالق محجوب هو أول من ميز بين معارضة الإثارة ومعارضة النهضة. والمراد بالأولى هي التي عبأت نفسها لإسقاط النظام القديم بينما معارضة النهضة هي التي لا تنهض بمعارضة هذا النظام فحسب، بل لا تدخر طاقة أيضاً في اصطفاء رؤية للنظام العاقب تهد النظام الحكم وبنيته الاجتماعية والاقتصادية في برنامج واحد.
جاء ذلك عن عبد الخالق محجوب في تقرير اللجنة المركزية لمؤتمر الحزب الشيوعي الرابع في 1967 الذي صدر في 1967 بعنوان “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” في الباب الثاني من الجزء الثاني من الكتاب. فلم يَحُل الدور الاستثنائي للحزب الشيوعي في معارضة نظام الفريق عبود من يأخذ طبيعة تلك المعارضة ومحدوديتها بالشدة. فعرض لنواقص في العمل الشيوعي خلال فترة حكم عبود لم تجعل من الطبقة العاملة وحلفائها قيادة تحمل الثورة المنتظرة إلى تغيير ما بنا. ولما لم ينجح الحزب في مهمته في تعزيز قيادة الطبقة العاملة للتغيير نهضت البرجوازية الصغيرة بذلك الدور. وهي طبقة كما رأينا في الثورة الأخيرة لم ترق رؤيتها للتغيير للنفاذ بالزلزلة إلى تراكيب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية التي تنتج النظام القديم وتعيد إنتاجه.
فذكر عبد الخالق تحركات جماهيرية جرت في صيف 1964 (منها فرض العمال استعادة اتحادهم وانتخاب الشفيع أحمد الشيخ زعيماً له) قال إنها بشرت بارتفاع جديد في مستوى نضال الشعب تؤذن بالارتقاء للإطاحة للنظام بثورة وطنية ديمقراطية. وهي الثورة الرهينة بالطبقة العاملة إلا أن بقية الجماهير لم تصل يومها إلى ذلك المستوى من تغيير الأوضاع لأن “الجو العام كان ما يزال محبوساً في إطار الخلاص من الديكتاتورية العسكرية والرغبة في التخلص منها”.
ومع الدور المميز للحزب في جبهة الهيئات (التي كانت قيادة ثورة أكتوبر) إلا أن قيام تلك الجبهة نفسه، في قوله، “كان في قاعه يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (مثقفي البرجوازية الصغيرة) لإيجاد قيادة لهم تعبر عن مطامحهم. كان يعبر عن حقيقة أن هذه الأقسام لم تكن ترى موضوعياً في تنظيمات الطبقة العاملة معبراً عن أمانيها”, 128-129. وكان ذلك نقصاً مشهوداً في عمل الحزب الشيوعي الذي لم يترق بمعارضته من الإثارة للنهضة. فواجه الحكم العسكري بشرف، ولكنها مواجهة قاصرة. قال عبد الخالق كان على الحزب الشيوعي أن يواجهه “لا بوصفه ديكتاتورية عسكرية، بل بوصفه نظاماً طبقياً أداته العسكرية”. وشتان. فسقوط النظم الديكتاتورية مثنى وثلاث كان حظنا من ثورتنا الإثارية التي لم نبلغ بها النهضة التي لا تقوم إلا على رؤية تتقحم تراكيب المجتمع فتقضي على وحش النظام التقليدي في قاعه جملة لا رأساً بعد رأس.
عبد الله علي إبراهيم
مصدر الخبر