عبد الحفيظ مريود يكتب: سيد الخطيب
كان الأستاذ علي يس رئيس قسم الثقافة والمنوعات، بصحيفة “الإنقاذ الوطني”، قد أخذني – بعد ثلاثة أشهر من انضمامي للقسم متعاوناً – لمقابلة رئيس التحرير، الأستاذ سيد الخطيب، قبل توقيع العقد، موظفاً.. كنت شاباً عشرينياً.. ثمة رهبة وهيبة تتسامعها وأنت بالصيحفة عن سيد الخطيب.. وذلك، بالطبع، قبل سمعته المنتشرة وسط الإسلاميين، مثقفاً، شاعراً، مستنيراً، وأحد الذين تعاقبوا على إدارة مكتب حسن الترابي، أحد المفصولين من جامعة الخرطوم عقب أحداث سياسية عاصفة إبان حكم نميري، وأحد القادمين من أمريكا، بعد أن قضى فيها سنوات طويلة.
شايف كيف؟
رحب بي، قال كلاماً مقتضباً، واعداً بأنني سأوقع العقد غداً، حاثاً لي على بذل ما في وسعى للتطور والتطوير، كانت دقائق معدودات، وخرجنا..
كنت، بالطبع، أقرأ عموده بالأخيرة “وارد الوقت”.. اللغة الرصينة، والأفكار المرتبة.. أقرأ ترجماته التي ننشرها في “ملف القصة”، لبورخيس.. لا يشبه الإسلاميين في شيء.. وهذا هو الأمر اللافت.. أحب الإسلاميين الذين لا يشبهون الإسلاميين.. كيف ذلك؟
ثمة مخبز آلي، يخرج قطعاً من الخبز متشابهة.. الوزن، الحجم، الشكل، درجة النضج.. ذلك المخبز أخرج رغيفاً كثيراً من الإسلاميين: شكل الملبس، سواء بلدي أو أفرنجي، اللغة التي تتشابه مثل الببغاوات، المفردات “الترابية” اللازمة، الغرور و”التعالم”، كما يسميه صديقي محمد يوسف، عليه رحمة الله..
شايف كيف؟
لكن إسلامياً أنيقاً، يلبس على الموضة، يدخن السجائر بكثافة، يترجم لخورخي لويس بورخيس، يقرأ لميلان كونديرا، ويناقش في قصيدة النثر، غير مهووس بالزي الإسلامي للمرأة، لن يكون إسلامياً.. قليل الكلام، لا يحب المناصب، ولا المنابر، ولا العنتريات: ينبغي مراجعة “إسلاميته”..
شايف؟
بعد ما يقارب العام، في نهار رمضان كنت خارجا للركب المواصلات، إلى بيت العزابة.. توقفت سيارة كريسيدا بيضاء إلى جانبي، كان هو أوصلني إلى شارع بيتنا في السجانة شرق.. فرصة الطريق، القصيرة هذه، عرفت شخصاً لطيفاً، أنيسا، رقيقاً.. قادراً على التواصل، عكس ما يشاع.. فيما بعد التقيته – بحكم رئاسة التحرير – كثيراً.. لم يكن في مقدور الكثيرين من المحررين في الصحيفة أن يلتقوه، يتحدثوا إليه، بأريحية.. ثمة هالة وهيبة تحيط بالرجل.. وصورة في إطار من الصرامة.. كان الواحد “يتضاير”، حين يستدعيه رئيس التحرير، أو يدخل إليه – في وردية محرر السهرة – أخبار الصفحة الأولى، بعد العشاء، لمراجعتها.. قليلون كسروا الحواجز والهيبة: محفوظ عابدين منهم..
شايف كيف؟
الاسم الذي طغى، على أسماء الموقعين على مذكرة العشرة، كان سيد الخطيب.. يرجح أنها صياغته.. المذكرة التي مهدت لمفاصلة الإسلاميين، فيما بعد.. والتي كانت تطالب بإصلاحات هيكلية في المؤتمر الوطني، من بينها تقليص صلاحيات الأمين العام، وتفعيل عمل الأمانات.. يمكن اعتبار المذكرة أول فعل “مغاير”، تغيا التخلص من النظام التقليدي للحركة الإسلامية، الحزب، والعلاقة بجهاز الدولة.
لاحقاً، تلاقينا في “هيئة الأعمال الفكرية”.. كان رئيساً لمجلس الإدارة، خلفاً لأمين حسن عمر، الذي أصبح رئيساً لمجلس الأمناء، فيما بقي المحبوب عبد السلام، مديراً تنفيذياً.. كنت مجرد محرر بالهيئة.
كنت أدخل مكتبه كثيراً، بلا استئذان.. يمد لي علبة البينسون الكبيرة، أدخن معه.. نتونس كأصدقاء.. يمكن لسيد الخطيب أن يكون قريباً منك.. يشاركك مشاكلك الصغيرة الخاصة، ويعمل على المساعدة في حلها، بمودة، رغم الفوارق.. كما كنت أزوره في مكتبه بمركز الدراسات الاستراتيجية..
شايف كيف؟
فيما بعد، حين انضممت، ضمن المؤسسين لصحيفة “رأي الشعب”، أحضر لي ابن عمر محمد أحمد كتاباً للبروفسير علي المزروعي، يحرضني على ترجمة أحد فصوله ونشره، على حلقات بالصحيفة.. على الصفحة الأولى إهداء من عبد الدافع الخطيب، لشقيقه، سيد..
لكن “مذكرة التفاهم” بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، جعلت جهاز الأمن يصادر الصحيفة بما فيها الكتاب.
لكنني أفتأ أتساءل: كيف لأحد المستنيرين مثل سيد الخطيب، أن يظل عضواً بالمكتب القيادي للمؤتمر الوطني، دون أن يحدث فارقاً؟.. على الأقل فعل أمين حسن عمر شيئاً: جهر بمعارضته لأشياء عديدة في الحكومة والحزب، من بينها قانون النظام العام، وإعادة ترشيح عمر البشير.. وأشياء أخرى كثيرة ما الذي منع شخصاً بقامة سيد الخطيب أن يستأنف مذكرة العشرة ويقود إصلاحات مهمة؟ كان ضمن مفاوضي نيفاشا، وينسب إليه خطاب “الوثبة”..
شايف كيف؟
كانت السفينة تغرق.. يتسرب إليها.. وستجر معها البلاد إلى قاع المحيط.. لكن قليلين كانوا على استعداد للمجاهدة من أجل التغيير، النجاة الجماعية، أو مفارقة الجماعة إن غوت..
مع ذلك يظل سيد الخطيب أحد أساتذتي المهمين.. رجلاً يعيش في الظل، بعيداً عن الأضواء، لا يميل إلى مخالطة الناس.. حاد الذكاء، ودوداً ومتواضع..
هل أكون نجحت في رسم صورة تقريبية؟
لا أظن…
صحيفة الجريدة
مصدر الخبر