السياسة السودانية

عبدالحفيظ مريود يكتب: قف.. الإشارة لا تزال حمراء

في تصريح باكر – لم يأخذه أحد على محمل الجد، بالطبع – قال نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق حميدتي، وكان الجميع يضغط باتجاه أن الإسلاميين ما يزالون مطلقي السراح، “يبرطعون” يميناً وشمالاً، والثورة طازة، قد تم إنزالها من الموقد، قال: “ياخونا دايرننا نعتقل ناس المؤتمر الوطني كلللللهم؟ دا حزب عضويتو خمسة مليون.. نلقى ليهم سجون وين؟”.

الرقم غير دقيق، بالطبع..

لكن ملفات الإسلاميين (وطني، شعبي، إصلاح الآن، إحياء وتجديد، منبر سلام عادل، إخوان مسلمون، متمردون على الأطر التنظيمية)، تفيد بأن الرقم الذي ذكره حميدتي ليس بعيداً، تماماً.. بالتأكيد تساقط كثيرون من “المنتفعين” من المؤتمر الوطني، لأنه “وعاء جامع”.. لكن الإسلاميين يظلون إسلاميين، انتماءً، وقادرين على إعادة تقديم أنفسهم، وهو أمر يجب ألا يستهين به أي استراتيجي.

شايف كيف؟

الأكثر حداثة، قراءة عميقة، وقدرة على التحليل، لدى الشيوعيين، بعد عبد الخالق محجوب، كان محمد إبراهيم نقد.. نقد – بالتأكيد – واقع في فخ أقل عمقاً من بقية الشيوعيين.. لكنه – مثلاً – حين يكتب “هوامش على وثائق تمليك الأرض”، في كتابه “علاقات الأرض فىيالسودان” يخلص إلى أنه كان “نظاماً إقطاعياً”، ذلك الذي سلكه سلاطين الفور، الفونج، العبدلاب، بأن جعلوا “ملكية الأرض حق أصيل للسلطان، يمنحه لمن يشاء وقتما يشاء، بلا منازع”.. الفخ أيديولوجي بامتياز يجادله – بلطف، كعادته – بروفسور محمد إبراهيم أبو سليم، في مقدمته للكتاب، مشيراً إلى “الفخ الفاغر فاه”، الذي كاد أن يقع فيه نقد.. لكنه في الواقع، وقع..إذ لا يمكن اعتبار حق السلطان في تمليك الأرض ” الحواكير”، إقطاعاً إلا بجور الاعتساف..

شايف؟

وبالتالي، سيقع جميع الشيوعيين، لأنهم أقل حساسية ونباهة من نقد، في فخاخ قراءة وتحليل التأريخ والواقع.. الركاكة الفكرية والتخبط السياسي للحزب الشيوعي، بعد سقوط الإنقاذ يثبت ذلك.. فالأدوار التي لعبها الحزب في تقويض حكومة حمدوك، تفكيك قوى الحرية والتغيير، تمكين “العسكر”، لو طلب إلى الإسلاميين أن يقوموا بها، لعجزوا.. خاصة خلال السنوات الثلاث أو الأربع التي تلت سقوطهم.

الشيوعيون، البعثيون، الناصريون: من يمكن تسميتهم باليسار، “يجلون” الكرة، لا يسددون خارج المرمى، وإنما “يجلونها”، وهي ضربة جزاء..

لم تنهض التيارات العلمانية، الليبرالية، الديمقراطية من مرحلة “الحبو”، لتقف على قدميها، تمهيداً للمحاولات الابتدائية للمشي.. وهي – بكثير من التجاوز – يمكن تسميتها في (المؤتمر السوداني + الاتحادي المعارض).. يلوح سمت خادع بأن (التحول الديمقراطي) هدف للجميع، بما في ذلك اليسار. لكن النظرة الفاحصة تبين أنه قناع غاية في الطرافة.. ذلك أن (التحول الديمقراطي) يستوجب قبول الجميع، والاستسلام المتصالح مع نتائج السباق في مضمار الديمقراطية..

شايف كيف؟

يجادل أكاديميان أوربيان، ومعهما د. آدم موسى عبد الجليل، في بحث رصين بعنوان (عودة السلطات التقليدية للحكم في دارفور) – لم يترجم إلى العربية، بعد – بأنها – الإدارات الأهلية – التي ما فتئت تدخل في نسق الحداثة، مطورة ذاتها، وأدواتها للاستجابة لمتطلبات الوقت، وقادرة على إحداث توازنات مهمة، ستكون لها أدوار أكثر حساسية في المستقبل السياسي في السودان.

ينسحب ذلك، بلا شك، إلى كل (السلطات التقليدية).. والدليل على ذلك الأدوار التي ظل يلعبها الناظر محمد الأمين ترك، ومجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة، منذ سقوط الإنقاذ.. وهي – السلطات التقليدية هذه – ليست ضمن حسابات وقراءات وأنظمة تفكير اليسار والليبراليين، ولجان المقاومة، ومجموعات الشباب.. وبالتالي ستظل سنداً محتملاً للإسلاميين، لأنهم – من وقت مبكر – استطاعوا استيعابها، أو جزء كبير منها، كما فعلوا مع التيارات الصوفية..

إلى أين يقودنا ذلك؟

يقود إلى ضرورة إعادة التعامل الحكيم، وبنظر ثاقب، مع معطيات الواقع السياسي، وإعادة الاعتبار للقوى المؤثرة، بدلاً عن محاولات القفز عليها، والتذاكي الأحمق، أو تصفية الحسابات..

قبل سنتين، أو أكثر، تقريباً، كنت أعابث د. خالد التجاني النور، رئيس تحرير صحيفة “إيلاف” والسياسي النابه، قلت له “شايفك بقيت قحاتي!!”..رد – بسخرية – ” القحاتة هم البقوني”.. في إشارة إلى أنه، الإسلامي المعروف، وأحد مديري مكتب الترابي السابقين، كان قد سبق “القحاتة” بسنوات إلى الجهر بضرورة تغيير: الفكرة، الممارسة السياسية، إعادة ترتيب الأولويات، إلى الدرجة التي جعلته “مفارقاً للجماعة”.. وخالد التجاني ليس وحيداً، إذ فعل ذلك، وسط الإسلاميين، بل سبقه كثيرون، إلى درجة أنهم يمكن أن يشكلوا – بقليل من الحنكة – تياراً أقوى من تيارات قحت (جناح الموز، جناح السفارات، جناح أم جكو)، هذا فضلاً عن الإسلاميين التقليديين، مضافة إليهم (السلطات التقليدية) التي أشار إليها البحث، سابق الذكر..

شايف كيف؟

مهما يكن من أمر، فإن الحسابات القادمة – بالنظر إلى ما نحن فيه – تحتاج مصالحة شاملة، أهم بنودها أن تستوعب الإسلاميين، شاء من شاء، وأبى من أبى.. لكن على الإسلاميين، بالمقابل، أن يعيدوا بناء أطروحاتهم، أن يراجعوا ممارساتهم، أن يقدموا اعتذارات صريحة، وصادقة للشعب السوداني عن أخطائهم القاتلة، وأن يقبلوا بالعدالة..

ثم: فلينظروا أيها أزكى طعاماً، وليتلطفوا، لأن زمان العنتريات قد ولى إلى غير رجعة.

صحيفة اليوم التالي

ehtimamna


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى