ضرام “أكتوبر” يتسعر من جديد
الجميل الفاضل
في منتصف ستينات القرن الماضي، سقط علي دماغ شاعر ملهم، اعتقاد غامض.. هو أن”اكتوبر” من بين سائر الشهور قد “كان في امتنا منذ الأزل”.
لم أكن أتصور كيف صار “محمد المكي ابراهيم” الي هذه الدرجة من اليقين العميق، في أزلية ارتباط هذا الشهر بأمة السودان.
بيد أن اشارة لطيفة أخري، خرجت من بين ثنايا قول للاستاذ محمود محمد طه عززت فيما أري ظن هذا الشاعر، في أن لاكتوبر عري بالسودان وأهله، ربما تفوق حتي تصوراتنا لقيمة هذا الشهر.
يقول الاستاذ محمود: “ثورة أكتوبر (٦٤) ثورة لم تكتمل بعد، وإنما هي تقع بين مرحلتين.. نفذت منها المرحلة الأولى، مرحلة العاطفة المتسامية التي جمعت الشعب على ارادة التغيير.
اما المرحلة الثانية من ثورة أكتوبر هي مرحلة الفكر المستحصد العاصف الذي يتسامي بإرادة التغيير الي المستوى الذي يملك معه الشعب المعرفة بطريقة التغيير.
اذن فإن ثورة أكتوبر لم تمت ولا تزال نارها تضطرم، ولكن غطي عليها ركام من الرماد.
فنحن إنما نريد أن تتولى رياح الفكر العاصف بعثرة هذا الرماد حتى يتسعر ضرام أكتوبر من جديد فتحرق نارها الفساد، ويهدي نورها خطوات الصلاح”.
وبالمقابل يقول “الشاعر” في مقاربة مدهشة مع قول “المفكر”:
(كان أكتوبر في أمتنا منذ الازل
كان خلف الصبر والأحزان يحيا
صامدا منتظرا حتى إذا الصبح اطل
أشعل التاريخ نارا واشتعل.
والي ان يقول:
وتسلحنا باكتوبر لن نرجع شبرا
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا مجدا ووفرة).
ومن هنا بدا لي ان اكتوبر شهرا سودانيا بإمتياز، إذ ليس ثمة شهر في الرزنامة أكثر سودانية منه.
شهر تواضع اهل السودان علي اطلاق وصف “اكتوبر الأخضر” عليه.
هذا اللون “الأخضر” الذي يرتبط عند السودانيين، بالخصب والنماء، لا يصفون به سوي ما يحبون من الأيام والاشياء والناس، في معرض التقريظ والمدح والثناء.
فالسودانيون شعب متقلب الأطوار، يصعب التنبوء بتصرفاته، شعب له شرعته ومنهاجه وقانونه الخاص.
شعب يجيد كعادته دائما السباحة خارج الطقس، بل وخارج مألوف الناس علي ظهر هذا الكوكب.
وبالتالي فإن امر أهل السودان المغرمين بكل ما يمت للأخضر بصله، أمر كله عجبا، مثله مثل نموذج “الخضر” عليه السلام، في التصرفات التي تبدو كأنها تخالف العقل والمنطق الطبيعي في كل شيء، رغم انها تجري في الحقيقة، بأمر ربها الي نهايات سعيدة، تختلف عن ظاهرها المخيف والموحش.
فهنا تتساوق المنن في طي المحن، وتأتي المزايا في طي البلايا.
ليصبح خرق سفينة “مساكين البحر” خير لهم من سلامتها، وقتل فلذة كبد “ابوين مؤمنين” رحمة بهما، وبناء جدار في “قرية البخلاء” فضل مستحق.
المهم في السودان كما قال الفيتوري:
لن تبصرنا بمآق غير مآقينا
لن تعرفنا
ما لم نجذبك فتعرفنا و تكاشفنا
أدنى ما فينا قد يعلونا
يا ياقوت
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا.
لكن السؤال: تري هل من يدقون الصخر الان، باتوا علي مقربة من امتلاك المعرفة بطريقة التغيير؟.
المصدر