دكتور ياسر أبّشر يكتب: دروس للسفير الأميركي (1)
في كولومبس (أوهايو) رأيت شبح ڤيتنام Vietnam Ghost مُجسّداً. نعم رأيته مجسداً في رجل أسود هو جيمس وولتر.
بعد حضور مناسبة في الكنيسة دعانا القسيس لتناول وجبة في مطعم قريب. جلس بجانبي جيمس وولتر، وعرفني بنفسه قائلاً إنه من قُدامى المحاربين، وأنه قاتل في ڤيتنام. وكعادة الأمريكيين الذين جعلتهم وحشة الوحدة والفردية لا يصبرون على حفظ أسرارهم الشخصية كلما وجدوا سانحة للتنفيس عمّا تضيق به صدورهم حتى للغريب، قال لي جيمس وولتر أنه يعاني من حالة نفسية نتيجة لما ارتكبه من فظائع وجرائم في فيتنام، وأن أشباح الأرواح البريئة التي قتلها تطارده في نومه ويقظته، ثم بكى بحُرقة وألَم.
تعاطفت مع الرجل، فقلت له: إنني أعرف علاجاً يطرد هذه الأشباح منه، وترجمت له سورة قل هو الله أحد، فبكى مجدداً لكن بكاءه هذه المرة كان بكاء من وجد راحة فيما سمع، وقال:
يا لله هذا كلام حلو لم اسمع بمثله من قبل. قلت له إن علاجه يوجد في إنجيل المسلمين (عامة الأمريكان يسمون القرآن إنجيل المسلمين Muslim Bible)، ونصحته بأن يشترى نسخة مترجمة منه.
سُرّ جيمس وولتر بما سمعه مني. وتقديراً منه لتعاطفي معه، سألني عن أكثر شيء أحبه، وشعرت أنه يريد أن يهديني شيئاً. وحتى لا أثقل كاهله قلت له: إنني أحب هذه الشطة. وكانت قارورة صغيرة من شطة سائلة أمريكية معروفة تسمى تباسكو توجد أمامنا في طاولة الطعام. وفي الغد فاجأني جيمس وولتر بكرتونة مليئة بقوارير شطة تباسكو!!!
فَرّ الأمريكان لِوَاذاً من ڤيتنام بعد أن فقدوا خمسين ألف قتيل وعشرات ألوف الجرحى، وعشرات ألوف المعاقين نفسياً – مثل جيمس وولتر – تطاردهم أشباح ڤيتنام. ثم تكررت نفس هذه الأشباح بعد أن خرجوا من العراق وبعد أن خرجوا من أفغانستان. وهكذا وفي كل مرة لا يتوبون ولا هم يستغفرون. وهكذا – وفي كل مرة – تنطبق عليهم مقولة ونستون تشرتشل حين سخر من تكرارهم لمغامراتهم الفاشلة:
“يستطيع الأمريكان أن يفعلوا الصواب لكن بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى”
Americans will always do the right thing , after exhausting all alternatives.
وفي كل بلد دخله الأمريكان جاؤوا بنكرات عميلة. ففي أفغانستان جاؤوا بحامد كرزاي الذي أصبح مضرب الأمثال في العمالة، وفي العراق جاؤوا بأحمد الجلبي الذي نبذه الأمريكان أنفسهم لأنهم علموا بعد فوات الأوان أنه كان يوافيهم بمعلومات مُضللة عن بلده!!! يكذب بشأن أماكن وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام رحمه الله.
الذي ذكرني بهذا هو تصريحات السفير الأميركي الجديد بالسودان عن الورقة التي تبناها نفر من نقابة تسيير المحامين وسموها دستوراً، وكذلك تصريحاته حين التقى من سُمّيَ نقيب الصحفيين الجديد.
سيدي سفير أمريكا:
بما أنني سوداني وأعرف بلدي جيداً، ومعرفتي بأميركا لا بأس بها، فاسمح لي أن أُعَلَمك، فما أشد حاجتك لدروسي.
فاعلم أولاً أن من تلتقيهم واتخذتهم أخلاء ومراجع في شأننا، هم عين أحمد الجلبي الذي ضللكم بشأن أسلحة الدمار الشامل ولتعلم أن ما تسميه حواراً معهم (Dialogue) هو في حقيقة أمره مناجاة لنفسك وحوار ذاتي (Monologue),
أنت حقيقةً تتحدث مع نفسك في أدني درجاتها، وتأمرها بما يجب عليها أن تفعل في مواجهة كل الأكثرية، لأن من تلتقيهم قلة تابعة لك استأجرتها بذهبك.
وتلتقي نكرات. فمثلاً من جعلته جماعات الناشطين التابعين للأحزاب المجهرية (البعث والناصري) أو حزب أقلية كالشيوعي ) رئيساً لنقابة الصحفيين غير الشرعية، نكرة في عالم الصحافة. تخيل رجلاً جُعل نقيباً للصحفيين ولم نعرف له مساهمات نيّرة ولا كتابات تداولها الناس لعمقها. كان مراسلاً لوكالة أجنبية فقط. وحينما تُذكر الصحافة في السودان فنحن نعرف ضياء الدين بلال ومحجوب محمد صالح وعادل الباز والهندي عز الدين وصادق الرزيقي، وأبو العزايم وتيتاوي وعِروة. ولعلمك فقد شُرّد معظم أولئك وضُيَق عليهم وأغلقت صحفهم أو جرى الاستيلاء عليها. وأغلقت محطات تلفزة ومحطات إذاعة وشرّد الصحفيون والإعلاميون. حدث هذا وانت تتحدث عن الحريات والديمقراطية يا مُمثّل ( سيدة العالم الحر ) !!!
رأيتك تتحدث عن نقابة وصف مجلس الصحافة والمطبوعات اجتماع تزوير تكوينها بغير الشرعي. وأقيمت بلا حضور قضائي بطريقة مخالفة للقانون، وأنت لا تستحي أن تصفها بأنها “نموذج” للقطاعات الأخرى. أنت يا سيدي تريد أن تُعطينا صحافة بلا ضمير لتحولنا إلى شعب من الحمير، وهيهات.
كيف تكون نموذجاً وأكثر من شارك في تكوينها لم يزاولوا المهنة ولم يسجلوا في سجل القيد الصحفي خلال كل السنوات الماضية. والسؤال الثاني هو: لماذا لم يُدعَ كبار الصحفيين ولم يحضر رؤساء التحرير لمهزلة تكوينها. ثم تأتي أنت لتقول إن تكوينها “نموذج”!!!
ولا عجب صدور هذا من سفير أميركا فغطرسة القوة Arrogance of Power تعميك، وتمكين عملائك هدفك ومقصدك. قرأنا لاسكار وايلد Oscar Wilde:
“تساءلت الدوقة: أين يذهب الأميركان السيئون حين يكذب؟
فأجابها لورد هنري مهمهماً: “يذهبون إلى أميركا “.
“Where do bad Americans go to when they lie?? “Inquired the Duchess. “They go to America “murmured Lord Henry.
رجائي أن تذهب إلى أميركا. فلن نأسف عليك!!! وأخيراً أرجو أن تسمح لي سعادة السفير ببضعة أسئلة:
⁃ لماذا لم تتحدث عن انتهاك الحريات واعتقال المعارضين لسنوات دون محاكمة؟؟
⁃ لماذا لم تستفسر عن المحكمة الدستورية؟؟
⁃ ماذا فعل أتباعك للتحضير للانتخابات؟؟
⁃ ولماذا؟؟
⁃ وأين؟؟
⁃ وكيف؟؟
⁃ عشرات الأسئلة تنتظر منك إجابات.
دكتور ياسر أبّشر
مصدر الخبر