خرج هارباً بأمر الثورة .. وعاد بطلاً تحت حماية الانقلاب ..! ”الفراغ” يخلق من عودة “إيلا” حدثاً
يبدو أن ما يحدث من تراجع ثوري في بعض المواقف طبيعياً بعد أن عرف الجميع أن إنقلاب ٢٥ أكتوبر لم يكن إلا انقلابا للنظام المباد بأمر الثورة الشعبية، حيث عمل المعسكر الانقلابي مبكرا لجعل قوى الثورة مرفوضة بل أراد لها أن تصل مرحلة الكراهية من الشعب ووضعها بديلا للمؤتمر الوطني في خانة السخط والرفض، وظهر ذلك من خلال تركيز جميع الخطابات السياسية للعسكريين والقوى السياسية الشريكة في الإنقلاب على انتقاد قوى إعلان الحرية والتغيير في جميع الخطابات حتى وإن لم تأتِ مناسبة لذلك والإغفال التام عن طرح أي مشروع لهم وهذا يعني أن مشروعهم هو هدم الثورة لا غير، هذا ما جعل في نظر البعض أن الحالة الثورية قد وصلت مرحلة الاندثار بسبب القرارت الجريئة للسلطة الانقلابية من إطلاق سراح بعض المتهمين وفك حجز الأرصدة والحسابات لمنسوبي النظام البائد.
الفراغ السياسي..
وبعد عام على الإنقلاب الذي خلف فراغا سياسيا كبيرا، أصبح البعض يرى أن ظهور أي نوعٍ من القيادات حتى الذين اسقطهم الشعب يمكن الترحيب بهم بناءً على خلفيات عملية سابقة أو جهوية ومناطقية، لأن الآلة الإعلامية قد توجهت نحو ضرب قيادات الثورة بنشر الأكاذيب والتنميط حتى يصدق الشعب أنهم أسوأ من الذين قامت ضدهم الثورة، مع ذلك ركز الإنقلاب على صعود بعض القيادات التي تحالف معها وجعلها حاضنة لتنفيذ إنقلابه والتي لا وزن لها بل ساهم في جعل بعضهم أضحوكة ومصدرا للتهكم والسخرية (عن قصد) من قبل الشعب، كل هذه الأشياء لم تأتِ صدفةً بل كان عملا منظما حتى يتسع الفراغ ولا يرى الشعب قيادة أخرى جديدة يمكن أن تقود البلاد غير الذين سقطوا في أبريل ٢٠١٩.
زخم عودة إيلا..
في زخم هذه الأحداث تبقى عودة محمد طاهر إيلا (آخر رئيس وزراء في حكومة الإنقاذ المبادة) أمرا طبيعياً بعد الإنقلاب على الثورة وليست على قوى إعلان الحرية والتغيير، لأن الثورة هي ليست (قحت) بل هي ثورة شعب كامل، وأصبحت نوايا وأسباب الإنقلاب واضحة ولا تحتاج لأي عناء تفسير أو وصفها بتصحيح المسار، فعودة “إيلا” واستقباله ببورتسودان تعكس تماما الخطوات القادمة للانقلابيين وبيان من هم وراء إنقلاب ٢٥ أكتوبر، وهذه العودة وما وجدته من اهتمام يعود إلى الفراغ الكبير بعد أن ظهرت قيادات مصنوعة من قبل الانقلابيين لا تجد القبول ليصبح إيلا مرغوبا وتصنع عودته حدثا معاكسا لما كان عليه الوضع قبل ٢٥ اكتوبر والذي إن كانت له عودة في ذلك الحين ستكون سرية بدلا من هذا الوضع المعكوس، ولم تتأخر عودته هذه بسبب مشاغله بالخارج فكان له أن يعود بعد شهر من الإنقلاب ولكن الترتيب حتم عليه التأخير لخلق أرضية ثابتة له منها ظهور بعض القيادات السياسية لا وزن لها بالشرق حتى يصبح بديلا أفضل.
شعبية الوالي السابق..
بلا شك فإن للوالي السابق مناصرين وللحزب المحلول جماهير ظلت تخرج لاستقبال الرئيس المعزول بالشرق مستندين على بعض الإنجازات التي اظهرتها حكومة إيلا إبان حكمه للولاية، وهنالك أيضا القبيلة والعشيرة والأهالي البسطاء الذين عملت قوى الظلام إبان حكومه على تحييدهم ثم جعلهم يقارنون بين أيام ما كان محمد طاهر والياً وما بين عهد حكومة الثورة والاعتماد على ذلك لتغبيش الوعي، ومهد الإنقلاب قبل وقوعه وبعده لجعل رموز الإنقاذ أبطالا خسرهم الوطن بعد الثورة ليعبد لهم الطريق ويعيد لهم أراضيهم المفقودة حتى يجدوا موطئ قدم مستقبلا لتكتمل عودة النظام البائد كاملا..
لم يكن “إيلا” فاشلا في عهده بالبحر الأحمر عند الكثيرين بعد الظلم الكبير والتهميش الذي عاشه الشرق طوال سنوات حكم الإنقاذ التي سبقت تعيينه والياً، لذلك فإن الحشود التي روجت وذهبت لاستقباله والتي حشدت أيضا هي حشود شعبية قبلية لا تمثل المؤتمر الوطني ولكن الحزب المحلول استثمر في ذلك لمزيد من الكسب السياسي وضرب قوى الثورة، فخروج الجماهير كان سببه الأول الفراغ الكبير للقادة السياسيين لأن الثلاثين عاما التي حكمت فيها الإنقاذ ركزت على صناعة شخصيات وليس نظام حكم أو تأسيسا للديمقراطية، لذلك لم تترك المؤسسات السياسية تخلق برامج ووجودا جماعيا فحاربت الأحزاب وشيطنتها وحتى الإسلاميين داخل حزبهم لم يؤطروا لفكرة الحكم الجماعي،و البرامج الحزبية والرؤى الثابتة بل ركزت على صناعة شخصيات ذات ثقل قبلي ومناطقي يتفق عليها الشعب لتحمل الحزب على أكتفاها كصناعة شخصية البشير حتى بدأ الشعب يقول (البشير كويس لكن التحت كعبين) بالرغم من أنه هو رئيس الحزب ورئيس الدولة، فكان بالإمكان صناعة مؤسسات حزبية سياسية قوية تحمل الشخصيات بدلا عن حمل الشخصيات لها لتبقى دون ارتباط بالأشخاص.
سقوط الحكومة على رأسه ..
محمد طاهر إيلا أتى رئيساً للوزراء مع بداية انهيار نظام المؤتمر الوطني وتدهور الدولة اقتصاديا فلم ينقذها بل شهد الإسلاميون السقوط في عهد رئاسته للحكومة، لم ينقذ الوضع ولم يكن البشير أيضا منقذا ولا أحمد هارون برغم شخصياتهم الشعبية الكبيرة التي يتمتعون بها، لأن الغضب كان على النظام كاملا، لذلك يبقى إيلا أحد اعمدة الإنقاذ التي اسقطتها الثورة وما كان له أن يعود بهذه الاحتفائية لولا تواطؤ هذا الإنقلاب مع النظام السابق، ومع تمتعه بالحق الكامل في العودة لوطنه والعيش فيه ولم تقم حكومة الثورة بنفيه أو ابعاده بل غادر لوحده، ولم يعد لأن نيابة المال العام قد أصدرت أمرا للقبض عليه مما جعله يظل هاربا، لذلك تبقى عودته هذه بعد الاطمئنان الكامل بعدم القبض عليه بحماية كاملة من السلطات الانقلابية .
سيقيم محمد طاهر إيلا بين أهله وقبيلته وعشيرته ويتجول بكامل حريته بل سيمارس السياسة بعيدا عن المؤتمر الوطني المحظور فعليا بأمر الثورة وظاهريا بأمر الإنقلاب دون أن يمنعه أحد..
الخرطوم ــ أيمن بدوي
صحيفة الحراك السياسي
مصدر الخبر