حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء (2-9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في الستينيَّات من القرن العشرين والصراع آنذاك بين الصَّادق وعمه الإمام الهادي قد وصل طريقاً مسدودة، اجتمع سكرتير الحزب الوطني الاتحادي الشيخ محمد أحمد المرضي بالسيِّد الصَّادق المهدي محذِّراً في منزل السيِّد إسحق محمد الخليفة شريف، وهو من أسرة المهدي في حي العباسيَّة بأم درمان، وكان ذاك اللقاء في تمام الساعة الواحدة والنصف من صباح 18 تموز (يوليو) 1966م، حتى لا تصل إليهم أذن، ولا تدركهم عين. إذاً، عمَّ حذَّر الشيخ المرضي السيِّد الصَّادق المهدي؟ قال الشيخ المرضي – محذِّراً فيما قال – وقد كان قلقاً ومستعجلاً كعادته: “أسمع يا بني أراك قد خالفت عمك “وكسرت معه القحف”، يعني كسروا الفخارة التي لن يعاد إصلاحها، وأراك قد أوشكت أن تدخل في حلف وتآلف مع حزبنا (الحزب الوطني الاتحادي). أنا سكرتير ذلك الحزب، أنصحك بالابتعاد عن الأزهري فهو خبير ومحنَّك ومجرِّب وعنيف في آنٍ واحد، وأنت صغير وبلا تجارب، ولا أي شيء. والله يا ولدي “اللي حيعملو فيك الأزهري سيكون له جلاجل، وسيتفرَّج عليك القاصي والداني، وسيمرمط بك الأرض في أول لحظة تتاح له، فأنصحك للمرة الأخيرة بالابتعاد عنه، والرجوع إلى عمك وأهلك وطائفتك، ولا داعي لخلق المشكلات والخلافات، فهذا أضمن وأبقى وأبرك لك، ألا هل بلغت اللهم فأشهد!”
بالطبع والطبيعة، لم ينصاع الصَّادق إلى هذه النصيحة النصوح، ودخل في ائتلاف مع حزب الأزهري في حكومته التي امتدَّت تسعة أشهر كما تنبأ لها محمد أحمد محجوب حين تمَّ إسقاط حكومته بسحب الثقة منه في البرلمان (الجمعيَّة التأسيسيَّة)، وتنحَّى جانباً إلى مقاعد المعارضة، وألقى خطابه الأشهر الذي كان تنبؤاً، وقد صدق فيما تنبَّأ به في أمر الصَّادق وحكومته، ودفع الصَّادق ثمناً غالياً وباهظاً في سبيل ما كان يؤمن به، حيث ضحَّى بأقرب الأقربين إليه. لم يكن الشيخ المرضي عند حديثه للصَّادق علَّام الغيوب، ولم يكن بنبي، وإنَّما كان حديث العارف بكل شيء مما تعلَّمه من التجارب، وصقلته الحوادث.
وهل ننسى جولات وصولات الشريف حسين الهندي مع الصَّادق المهدي! عندما بادره الصَّادق المهدي بالعداء، واستطاع في حماس وغليان، وعنفوان قوَّته حينما شكَّل حكومته في تموز (يوليو) 1966م بائتلاف مع السيِّد إسماعيل الأزهري أن يقصي الشريف حسين الهندي من وزارة المالية، ويمنحه وزارة الحكم المحلي. فبرغم من اعتراض حزب الأزهري الشديد انحنى الأزهري والشريف معاً لعاصفة الصَّادق العنيفة باعتبار أنَّها نزوة وفورة مرحليَّة لن تمر طويلاً، وفعلاً لم تعمر طويلاً، فقد دبَّ الخلاف بين الفريقين المؤتلفين تماماً كما تنبَّأ الشيخ محمد أحمد المرضي، وتمكَّن الأزهري ومن ورائه الشريف حسين الهندي وبطانته من النوَّاب من إقصاء المهدي لا من رئاسة الحكومة فحسب، بل من الجمعيَّة التأسيسيَّة ذاتها عندما حلَّها الأزهري كليَّاً بقرار صغير اتكأ فيه على الدستور المسكين، وحاول الصَّادق أن يقاوم قرار الحل، فنصب خيمة كبيرة أمام داره أسمَّاها البرلمان السُّوداني، وجمع وحشر في داخلها نوَّابه، وعيَّن لها رئيساً هو السيِّد أحمد إبراهيم دريج، ودعا الصحافيين لحضور جلساتها، ولكن الخيمة انهارت خلال أسبوع واحد، ومن ثمَّ لجأ الصَّادق بعدها للمحاكم في قضايا دستوريَّة لا أول لها ولا نهاية!
أسوة بالسياسات البريطانيَّة المترهلة في التعامل مع الإدارة الأهليَّة، أسَّس حزب الأمَّة قاعدته السياسيَّة وسط الصفوة الإقليميَّة، وكافأتها بمنحها وظائفاً في المركز من أجل تهميش جمهور الناخبين. هكذا استطاع حزب الأمَّة بمكر سيء اجتذاب بعض قادة جبهة نهضة دارفور، وكان أبرزهم المرحوم أحمد إبراهيم دريج. والمدهش في الأمر أنَّ حزب الأمَّة كان يستغل أنصاره من الغرب وفي النيل الأبيض والجزيرة أبا، ويجلبهم بين الحين والآخر لإرهاب منافسيه السياسيين في العاصمة. وفي تلك الأثناء كان الأنصاري عندما يستدعيه الإمام في العاصمة للضغط على خصومه السياسيين، وذلك عندما تدلهم الخطوب، لتجدنَّه مستميتاً فيما يؤمن به؛ إذ كان يطلِّق زوجته وأولاده، ويضع على كتفه “الكفن”، ثمَّ يهاجر إلى الخرطوم، ساعياً إلى حيث أتى النداء، انتظاراً للجهاد، في سبيل الدفاع عنه بالمُهجة والرُّوح مهما كان شاقاً ومريراً؛ والمُهجة هي دم القلب، ولا بقاء للنَّفس بعدما تُراق مُهجتها.
حدث ذلك إبَّان افتتاح الجمعيَّة التأسيسيَّة (البرلمان) في دورته الثانية في يوم الاثنين الأوَّل من آذار (مارس) 1954م، “وكانت زيارة (الرئيس المصري) اللواء محمد نجيب للخرطوم إشارة لقيام مظاهرة كبرى من جانب الأنصار قُدِّر عدد المشتركين فيها بحوالي 40.000 شخصاً، وقُتِل في أعمال العنف التي صاحبتها 100 شخصاً، وأُلغي افتتاح البرلمان.” إذ أورد بعض المصادر أنَّه راح ضحية تلك الاشتباكات 34 قتيلاً من الشرطة والأنصار وغيرهم من المواطنين، منهم الطالب أبو القاسم ميرغني، الذي كان في ريعان شبابه، وهو ذاك الذي كان يتطلَّع إلى المستقبل المشرق. ومات أيضاً ميرغني عثمان صالح، وهو كان من رجال حزب الأمَّة البارزين، وكان يحاول أن يهدِّئ من ثائرة الثائرين، وأن يوجِّههم التوجيه الصحيح، فعدوا عليه، وأردوه قتيلاً بأسلحة متوحِّشة لا تنذر ولا ترحم ولا تبقي، وكذلك كان من بين القتلى قومندان عام شرطة مديريَّة الخرطوم ماكويجان، ومساعده الحكمدار مصطفى المهدي. أما الرئيس المصري الراحل محمد نجيب فقد ذكر في مذكراته أنَّ عدد القتلى قُدِّر بحوالي 71 قتيلاً و107 جرحى، وكتب الصحافي عبد الرحمن مختار في مذكراته “خريف الفرح.. أسرار السُّودان (1950-1970م)” قائلاً إنَّ عدد القتلى تجاوز الثلاثمائة من الجانبين. تلك المذبحة المشؤومة اعتبرها الصَّادق المهدي في كتابه “يسألونك عن المهديَّة” “دليلاً على فيض من روح التضحية والفداء لا حد له.” والغريب في الأمر أنَّه حين يأتي خريج جامعة أوكسفورد إلى الخرطوم سرعان ما يعبَّر لا عن قيم أوكسفورد، بل عن “القيم الإنسانيَّة العامة للدعوة المهدويَّة في نفوس أتباعها.” هذا فقد حاولنا إماطة اللثام عن تلك الأحداث الغابرة ووقائعها، حتى لا تتوارى بعيداً خلف جدار الزمان، وتصبح مجرَّد تاريخ وذكريات.
للمقال بقيَّة،،،
المصدر