حرب تكذب على نفسها في السودان
قبل الحرب الحالية لم يكن أحد من سياسيي السودان قد طرح على الملأ مشكلة وجود ميليشيا غير قانونية يمكنها أن تنقلب على الدولة في أية لحظة.
مَن يصدق أن ميليشيا ما يمكن أن تكون جزءا من قوات نظامية تشرف عليها الدولة التي تمولها وتتحكم بحركتها فهو اما ان يكون جاهلا أو متواطئا إذا لم أقل منافقا.
الميليشيا لا تقوم إلا لحاجات تقع خارج المصلحة الوطنية ولا تخدم إلا فئة بعينها ومن أجل أهداف مؤقتة. تلك هي حال الميليشيات في كل مكان. اما أن تكون عنصرية أو طائفية. وهي في ذلك أشبه بتجمعات المرتزقة التي لا تتورع عن القيام بأي شيء. لقد اخترعت الميليشيات من أجل القيام بأعمال قذرة لا تسمح القوانين للجيوش النظامية بالقيام بها. وفي الأساس فإن ظهور الميليشيات مرتبط بضعف أو غياب الدولة والأسوأ أن تكون للنظام السياسي أهداف سيئة مبيتة يسعى إلى الوصول إليها من خلال تنظيمات عسكرية غير رسمية هي الميليشيات.
وليس خافيا على أحد أن قوات الدعم السريع التي أشعلت الحرب في السودان وقامت باحتلال المستشفيات وحرق بيوت المدنيين بعد نهبها هي في الأصل ميليشيا جرى تأسيسها من أجل ارتكاب جرائم إبادة جماعية في حق المدنيين في دارفور وكان “جنجويد” هو الاسم المعروف لها. والعالم كله يعرف ما “جنجويد”. ذلك لأن أدراج مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية ممتلئة بالملفات التي تحتوي على جرائم تلك الميليشيا التي وضع نظام عمر حسن البشير على عاتقها مسؤولية القضاء على الحركات المتمردة في أقليم دارفور. لم يكن البشير كثير الاهتمام بمصير المدنيين في ذلك الاقليم لذلك لم تقلقه أنباء المذابح التي كانت تحدث هناك.
من المؤكد أن استمرار قوات الدعم السريع في الوجود بعد سقوط نظام البشير هو دليل على أن العسكر لم يكونوا راغبين في التخلي عن التنظيمات المسلحة غير النظامية التي يثقون بها أكثر من ثقتهم بالجيش الذي يُفترض أنهم من أبنائه. قبل الحرب الحالية لم يكن أحد من سياسيي السودان قد طرح على الملأ مشكلة وجود ميليشيا غير قانونية يمكنها أن تنقلب على الدولة في أية لحظة. لقد صدق النظام كذبة هو مَن أطلقها. كانت قوات الدعم السريع نظريا جزءا من القوات المسلحة لذلك فإن تمويلها يتم من أموال الشعب السوداني. ذلك ما يحدث في العراق تماما. فالحشد الشعبي وهو مجموعة الميليشيات الشيعية التابعة للحرس الثوري الإيراني هو على المستوى النظري جزء من القوات المسلحة العراقية وله في الميزانية العراقية حصة كبيرة. غير أنه في الحقيقة يمكن أن يقصف بيت رئيس الورزاء إن مسه بكلمة.
استعمل البشير الجنجويد لذبح سكان دارفورد وحين شعر أن الجريمة لم يعد اخفاؤها ميسرا الحق تلك الميليشيا بالقوات المسلحة بعد أن غير اسمها إلى قوات الدعم السريع. كذبة صدقها البشير ولم يشعر مَن انقلبوا عليه بضرورة أن ينظروا إليها من منظار وطني. لم يطالب أحد العسكر بالكشف عن تلك الحقيقة. وهم اليوم يدفعون الثمن بعد أن ماطلوا كثيرا في مسألة تسليم السلطة إلى المدنيين. ولو وصل المدنيون إلى السلطة لاكتشفوا الحقيقة. حقيقة النظام الذي كان قد صنع ضمانات لبقائه من خلال الحفاظ على ميليشيا مجرمة، أضفى عليها صفة القوات الرديفة للجيش وهي في حقيقتها ليست كذلك. ما يحدث اليوم يؤكد ذلك.
حين شعرت ميليشيا الدعم السريع أن هناك رغبة حقيقية بدمجها بالقوات المسلحة أشعلت الحرب. ومن سخريات القدر أن العالم يرعى مفاوضات بين الدولة السودانية وميليشيا كانت قد أنشأتها لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولكن الأمور ستزداد سوءا في حال لم يسع العالم إلى إيقاف القتال العبثي. على الأقل من أجل حماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم. لقد امتهن الطرفان الكذب. فقوات الدعم السريع لا تملك شرعيا حق الوجود إلا من خلال كذبة ارتباطها بالقوات المسلحة كما أن الدولة لا تملك سوى أن تلوم النظام السياسي الذي غطى بقوانينه على جرائم ميليشيا أدانها العالم.
حين قبل السودان بالشروط الأميركية لإنهاء الحصار عليه ومنها التطبيع مع إسرائيل كان النظام السياسي فيه يعتقد أنه صار في مأمن ولم يخطر على باله أن عدوه الحقيقي لم يكن الحراك المدني، بل الميليشيات التي لا تزال تعبث بالأرض فسادا في ظل تمويل حكومي هو عبارة عن سرقة علنية لأموال الشعب. سيُقال إن النظام السوداتي يدفع الآن ثمن خطأه ولكن الحقيقة ليست كذلك. لعالم مساهمة كبيرة في الحرب.
الشرق الأوسط
مصدر الخبر