حرب أبريل: محطةٌ مفصليةٌ في سيرورةِ بناءِ الدولة السودانية!
الواثق كمير
[email protected]
الجيش الواحِد: كيفّ يتشكَّل؟
قليلٌ من المراقبين للمشهدِ السياسي السوداني، قبل مِيلاد الاتفاق الإطاري، من لم يكُن يتكهن، أو يحِسُ، بما أُطلقّ عليه “الحرب المؤجلة” بين القائد العام للجيش وقائد قوات الدعم السريع في سياق صراعِهِما على سلطةِ الدولة. اندلع هذا الاقتتال الدامي، الذي تشهده البلاد منذ الخامس عشر من أبريل، خاصة في عاصمتها، على خلفيةِ الخلافِ العسكري-السياسي حول سُبُلِ التوصل إلى جيشٍ وطنيٍ واحدٍ وموحدٍ، بحُكمِ الاتفاق الإطاري الذي وقعه القائدان مع قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي وتنظيمات سياسية ومِهنية أُخرى، في 5 ديسمبر 2022. أُحاولُ في هذه الورقة أن أُلقي الضوءّ على خلفية ودوافع وطبيعة وتداعيات هذا الصراع المُسلح في سياقِ عملية تشكيل هذا الجيش الموحد، المُدماك الأساس لبناء دولة المُواطنة السودانية.
الحرب: هل الاتفاق الإطاري هو السبب؟
كثيرٌ من القيادات السياسية المناوئة لقوى الحرية والتغيير، خاصة وسط الإسلاميين، تحمِّلُ مجموعة المجلس المركزي مسوؤلية اشتعال الحرب الدائرة الآن بين الجيش وقوات الدعم السريع. يستشهدُ هؤلاء الخصوم بتصريحات لبعض قيادات هذا التحالف قبل برهةٍ قليلةٍ من اندلاع القتال بأنّه “لا بديل للاتفاق الإطاري إلاّ الحرب”، بل وذهب البعض للمُطالبة بضرورة إدانة وتجريم هذه القيادات (لحدِ الفتوى بقتلهم) بوصفهم مشاركين في التخطيط والإعداد لها. وعلى نفس طول الموجة، ترُد مجموعة المجلس المركزي ومناصروها بأنّ الحرب ليست بين الجيش وقوات الدعم السريع إنما بين الإسلاميين (في قيادة الجيش)، من جِهةٍ، وقوات الدعم السريع، من جِهةٍ أُخرى، بحجة أن “الكيزان” بِحُكمِ سيطرتهم على الجيش السوداني يهدِفون إلى وأدِ الاتفاق الإطاري ووقف العملية السياسية من أجلِ العودة للسلطة. في رأيي أنّ الافتراضين، هكذا على إطلاقهما، يفتقِران للموضوعية ويُصُبّا الزيتّ على نار الخلاف والاستقطاب السياسي المحتدم، بما يضرُ بالتعاطي السليم مع تداعيات الاقتتال الماثل ويضع العِصي في دواليب سيرورة الانتقال السلمي والتحول الديمقراطي. لا مجال للتنابز المتبادل والاتهام بالخيانة والعمالة في وقتِ عصيب يعاني فيه كل السودانيين من ويلات حربٍ لم تخطُر على بالِهم، ويحتاج إلى تماسُكِ الجبهة المدنية. فمن جِهةٍ، ليس بيدِ قوى المجلس المركزي سلاحٌ تُشعِلُ به الحرب، وقطعاً لا مصلحة لهذه القوى في حربٍ تقطع عليهم الطريق للسلطة المنشودة. بل، فربما أنه من ايجابيات الاتفاق الإطاري فتحه باب الحوار والنقاش العام حول الجيش والمؤسسة العسكرية، المسألة التي كانت تُعدُ من المحرمات في التناول الصحفي وكتابات الرأي العام.
ومن جِهةٍ أُخرى، لا يحتاج الجيش أن يكون تابعاً ل “الكيزان” حتى يقاتل قوات تخلت عن مُهمتها في الاسناد العسكري له، واستهدفت قيادتَه بالاعتقال أو القتلِ. فإن كان الجيش “جيش كيزان”، فهو نفس الجيش الذي وقعت معه قوى الثورة في أغسطس 2019 الوثيقة الدستورية القائمة على الشراكة في سلطة الانتقال. ليس ذلك فحسب، أفلم تسعى قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي للتوقيع معه على الاتفاق الإطاري؟ فهل تحتاج الثورة إلى مليشيا الدعم السريع لإصلاح الجيش؟ حقاً، “يصَرُ الكثير من أهل الرأي على اختزال الحرب في تآمر إخواني ولا شيء غير ذلك. وينسى جُلّ هؤلاء أنّ هذا هو نفس الجيش الذي سجن البشير وقيادات الإخوان. وهو نفس الجيش الذي لم يأمنه البشير فأنشأ قوات الدعم السريع لتحميه من غضبته. فهل يجوز في هذا السياق القولَ بسيطرة مُطلقة للإخوان على هذا الجيش؟ (معتصم الأقرع، “الحرب والاختيار الصعب والاختزال المُمميت”، SPLMN.net، 24 مايو 2023). ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني، بأي حالٍ من الأحوال، إعفاءهم من نصيبهم في تحمُل المسئولية بإنشاء وتأسيس المليشيات الموازية للجيش والقوات النظامية الأخرى. ثُمّ، ماذا عن القطاعات الواسعة من عامة السودانيين ممن يقفون مع القوات المسلحة كمؤسسة وحيدة تحتكر عنف الدولة، فهل هم كلهم “كيزان”؟ إن كان كذلك، فإن النظر إلى هذا الأمر، والحصول لخلاصات بشأنه، يستدعي التروي عبر التفكير والتفاكر والحوار الجاد، بدلاً عن رمي كُل الداء على الكيزان، على نسقِ ما وصفه عبدُ الله علي إبراهيم ب “لوثة عداء الكيزان”!
ذلك، بجانبِ أنّ العلاقة بين قائدي الجيش والدعم السريع لم تكُن مؤخراً “سمناً على عسلٍ”، في ظلِّ التوتر السافر في هذه العلاقة إثر إعلان قائد الدعم السريع عن ندمه على مشاركته في انقلاب “فض الشراكة”، والتلاسنات المتبادلة المنشورة ببن الجنرالين. إذن، الاشتباك المسلح بين الجيش والدعم السريع لم يكُن مُحتاجاً للاتفاق الإطاري حتى يقع. الدافعُ الرئيس للحرب هو استحالة استدامة حالة وجود جيشين بقيادتين مستقلتين في دولةٍ واحدةٍ. كيف؟
الدمج أم القيادة والسيطرة؟
ولو أنّ الاتفاق الإطاري ليس هو السبب المباشر في إشعال هذه الحرب، إلاّ أنّ ورشة عمل “الإصلاح الأمني والعسكريّ” قد قدحت زنادها، وذلك بكشفِها عن جوهر الخلاف بين قيادتي الجيش والدعم السريع. ولعل ذلك يُفسِر عبارة “لا بديل للاتفاق إلاّ الحرب” بمعنى أنّ ما قصده من أدلوا بها، عن توقعٍ، هو أنّ مدى الخلاف بين القائدين قد يصل بهما إلى المواجهة العسكرية في حالة عدم اتفاقهما على قضتين أساسيتين، في أجندة الورشة، لم يتم حسمُ أمرهما. القضيتان هما: 1) المدة الزمنية لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، طالما أنّ مبدأ الدمج منصوصٌ عليه في الاتفاقِ الإطاري الممهورِ بتوقيع القائدين أنفسهما، و2) القيادة والسيطرة على قوات الدعم السريع خلال ما تبقى من عُمر الانتقال. في ظني أنّ “الاختلاف” على مدة عملية الدمج، طالت أم قصُرت، يُمكن تجاوزه والاتفاق على مدى زمنيٍ يُحقق الهدف. بجانبِ أنّ تاريخ السودان تذخرُ دفاتره باتفاقيات الدمج والتسريح في حروباته مع الحركات المسلحة مُنذ زمن أنانيا 1، في 1972، حتى اتفاقية جوبا للسلام في 2020. لكن، يظل “الخِلافُ” الجوهري هو حول من تؤول له القيادة والسيطرة، على قوات الدعم السريع، لحين إكمال عملية الدمج هذه.
فالبرغمِ من القبول “الظاهري” لقائد الدعم السريع بدمج قواته في الجيش إلاّ أنّه، في تناقضٍ بائنٍ مع قوله هذا، يريدُ أن تكون هذه القوات باقية باستقلالٍ كاملٍ عن الجيش. فبالرغمِ من النص الصريح في الاتفاق الإطاري على أنّ “قوات الدعم السريع قوات عسكرية تتبع للقوات المسلحة ويحدد القانون أهدافها ومهامها ويكون رأس الدولة قائداً أعلى لقوات الدعم السريع”، إلاّ أنّ قائد هذه القوات يرغبُ في أن يكون تابعاً فقط لرئيس مجلس السيادة المدني (الذي يُشارك في اختياره) بشرطِ ألا يأتمرُ بأمرِ القائد العام للجيش. وبذلك، تتساوى مليشيا الدعم السريع مع القوات المسلحة في احتكارِ أدوات العُنف في البلاد في وضعٍ شائهٍ لدولةٍ واحدةٍ بجيشينِ مُستقلين. صحيحٌ أنّ قيادة الجيش تعايشت مع هذا الوضع الشاذ طوال الفترة الماضية من عُمرِ الانتقال. ومع ذلك، لا يخفى على المراقبين التذمُرُ المُعلن عنه وسط قطاع واسع من ضباط القوات المسلحة في الرتب الوسيطة والدنيا وصف الضباط والجنود، ضد تمدد قوات الدعم السريع والتماع نجم قائده. ورغماً عن أنّ قائد الدعم السريع والقائد العام للجيش شريكان منذ عقدينِ من الزمان، ولكن من المعلومِ أنّ هذا الحِلف لا يجدُ قبولاً وسط قطاعٍ واسعٍ من ضباط القوات المسلحة. في نهاية المطاف، بعد أن تُرِك أمر التوصل للاتفاق حول أمر تكوين الجيش الواحد والموحد للحوار في “الورشة”، اختارت قيادتا الجيش والدعم السريع “الدوشكا” لحسمِ الأمر، فسلاحُهما السنان وليس اللسان.
التحول الديمقراطي: من انقلبّ على من؟
في أكثرِ من لقاء (صوتي) مع القنوات الفضائية كررّ قائد مليشيا الدعم السريع وصفه للقائد العام للجيش بالمجرم “الانقلابي” الذي ابتدر هذا الاقتتال، بينما هو يقاتل من أجل التحول الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين. حقيقة… أتفهمُ أنّ الفريق أول البرهان والفريق أول حميدتي انقلبّا على الشراكة في حُكم الفترة الانتقالية، التي أسستها الوثيقة الدستورية في 2019, ولكن يستعصي عليّ فهمَ أن يكون القائد العام للجيش قد انقلبّ على قائد الدعم السريع، الذي يعترف قائده بأنّ قواته خرجت من رحم الجيش، وإلاّ أن يكونَ قد انقلب على نفسه؟ فكيف تنقلب قيادة الجيش على قواتٍ تابعةٍ لها، ومن المفترض أن تكون داعمةً للجيش، سواء بقانون الدعم السريع أو بقانون القوات المسلحة؟ فلا توجدّ وثيقة دستورية ينقلب الجيش عليها، إنما خلاصة ما تم التوصل له هو مجرد اتفاقٍ اطاريٍ، مخُتلفٌ عليه وتُناهِضه قوى سياسية واجتماعية مُقدرة، ولم يصل إلى نهاياته المنطقية! وربما هذا ما قصده قائد الدعم السريع بقوله: “لم تكن لي مشكلة مع البرهان قبل الاتفاق الإطاري والسياسي الذي رفضه”.
بل على العكس، هذا يجعلنا نضع في الاعتبار الزعم بأنّ الانقلاب الحقيقي فقد دبره قائد الدعم السريع بهدف قتل أو قبض القائد العام للجيش واستلام السلطة، كما ظل يُرددُ هو بنفسه حتى لحظة كتابة مسودة هذه الورقة، ربما بعِلمِ بعض السياسيين، ومُباركة قوى إقليمة ودولية. العديد من المراقبين ومراكزِ الدراسات والمُؤسسات البحثية قد رصدت المُساندة الخارجية لهذه الخطة التي تهدف إلى اخضاع الجيش لقيادة وسيطرة قوات الدعم السريع، وتغيير الأوضاع السياسية في البلاد. تقريرا منظمتي “فورين بولسي” (23 أبريل) و”آفريكا كونفدينشيال” (27 أبريل)، يدحضانِ رواية قائد الدعم السريع بأنّ الجيشَ هو من بادر بالهجوم عليه. النشرتان بيَّنتا بالأدِلةِ والبراهين أن قائد “المليشيا” كان يُخططُ للانقلاب، بل جاء تقرير “فورين بولِسي” تحت عنوان “صعود حميدتي: يُهددُ الاستقرار الإقليمي”. وبغضِ النظرِ عن من أطلق الطلقة الأولى، فإنّ اقتحام قوات الدعم السريع لبيت الضيافة الرئاسي صبيحة اندلاع القتال في محاولة لاغتيال القائد العام للجيش، يقفُ شاهداً شاخصاً على خُطةِ قائد الدعم السريع. ولعل هذه الخطة قد عبرّ عنها مُسبقاً نائب قائد قوات الدعم السريع، الفريق عبد الرحيم دقلو، بقوله على الملأ “عندنا رسالة لإخواننا في السلطة، نقول لهم سلموا السلطة للشعب، بدون لف ولا دوران”، في 4 مارس 2023. وكأنما النائب يعيد للأذهان رسالة قائده، بعد فض اعتصام القيادة في يوليو 2019، التي توعّد فيها الشعب السوداني بأنّ الحربّ إذا اشتعلت فإنّ “العمارات الشايفنها ناس الخرطوم غالية بيبقوا فيها زي الكدايس”.
وفوق ذلك كُلهِ، ليس من شاهدٍ يقطعُ الشك باليقين، على الخُطة المُسبقة لقائد الدعم السريع للانقضاضِ على السلطة، أكثر مِمّا كشفته الحرب لعامةِ السودانيين من حشدٍ لعشرات الآلاف من المقاتلين (تُقدرُ بين 60 إلى 80 ألف) وحجم ترسانة الأسلحة والعتاد الحربي لقوات الدعم السريع، بل وعدد ثُكناتها العسكرية وما تحتله من مقارٍ تشملُ البنايات الضخمة والمنازل السكنية، بل وحتى حراسات المواقع الاستراتيجية والمواضع الحيوية. لم تكن تغفُلُ عن غالبية السودانيين التوسعّ العسكري الملحوظ والنفوذ الاقتصادي المشهود، والتمدّد السياسي، والعلاقات الإقليمية والدولية، لقائد قوات الدعم السريع. فإن لم يكُن قائد الدعم السريع يهدف إلى الانقلاب على السلطة فلماذا كُل هذا الحشد والعتاد في قلب عاصمة البلاد، الذي تصاعدت وتيرته وذادت أعداده منذ نهايات العام المنصرم؟ وبالتحديدِ، طائرات مَن، من القوى الخارجية، التي تستهدفها قوات الدعم السريع بما تنصبه من مضادات متحركة في كل أرجاءِ الخرطوم، إن لم تكن تقصُدُ الطيران الحربي للجيش السوداني (مقرونة بمحاولة احتلال مطار مروي في بداية الحرب)؟ حقيقة…كان أغلبُ الظن أنّ غاية طموح قائد قوات الدعم السريع أن يحتفظ بموقعه الدستوري الثاني في الدولة في سياق تنفيذ ترتيبات الاتفاق الإطاري والعملية السياسية، ولم يصدِق الحدسُ بعد أن انكشف الغطاء عن المستورِ.
فإن كان قائد الدعم السريع قد تبرأ من مشاركته، بل ودعوته إلى انقلاب “فض الشراكة”، في أكتوبر 2021، فهل نُصدِقُ أنّ انقلاب أبريل هذا هو الكفيلُ باستعادة عملية التحول الديمقراطي؟ إنّ وقوف قائد الدعم السريع مع الثورة فى أبريل 2019، لم يكن على الإطلاق بدافع التحول الديمقراطي، إنمٍا كان أفضل خياراته لتثبيت أقدامه في السلطة الجديدة بعد زوال ولي نعمته، رئيس نظام الانقاذ. لم يسمعُ أو يعرفُ أحدٌ بمشروع سياسي ل”قوات” الدعم السريع، طوال مراحل تكوينها ونشأتها كحركة سياسية أو حتى بوصفها جيشاً له عقيدة قتالية.
إنّ ما تشهده العاصمة منذ الخامس عشر من أبريل وما أصاب سكانها من رُعبٍ وهلعٍ إثر ممارسات وسلوك هذه القوات وانتهاكاتها للحرمات وتعديها على ممتلكات المواطنين وتطويق المشافي وتدمير منشئات الدولة والقطاع الخاص، لا تشي بأي علاقة لهذه القوات من قريبٍ أو بعيدٍ بمفهوم التحول الديمقراطي، أو بالدفاع عن هذا التحول لو حانت ساعة استلامها للسلطة (لو قُدِّر لها ذلك). بل، إنّ كثيرين من قيادات قوات الدعم السريع، على المستوى العسكري والمدني، هم من الإسلاميين أو فلول نظام الانقاذ التي تدعي أنّهم الحرب قامت ضدهم.
الجيش والمليشيا: ضرورةُ التفريقِ بينهما!
يعتمد منهجُ كثيرٍ من كتاب الرأي والتحليلات، والمواقف السياسية على النظرِ إلى الحرب الدائرة كنزاعٍ مُسلحٍ بين قوتين عسكريتين، ووضعهما على كفةٍ واحِدةٍ، مما يقود إلى نتائجٍ غير صحيحة. حقيقة الأمرِ، يعلمُ عامة الناس أنّ قوات الدعم السريع هي قوات عسكرية غير نظامية “مليشيا” صنعها الرئيس المخلوع، وحاول أن يجعلها تبدو كقواتٍ نظامية، لحماية سلطته من انقلاب الجيش عليه، من جِهةٍ، ولمقاتلة الحركات المسلحة في دارفور المناهضة لحُكمِه، من جِهةٍ أخرى. أخبار القتل المُمنهج والفظائع الدموية التي قامت بها المليشيا قبل وبعد سقوط نظام الانقاذ، تزدحِمُ بها الأسافير وتضجُ بها التحليلات السياسية وتقارير المنظمات الدولية المختصة. تفتقِرُ هذه المليشيا للعقيدة القتالية للجيوش، ربما غيرِ القتل والنهب واستباحة المجتمعات الآمنة، ويعوزها المشروع السياسي والقاعدة الاجتماعية العريضة التي تستند عليها، وتقوم على العصبة الأسرية والعشائرية. لا أحتاج للخوضِ في تفاصيلِ الفروقات بين الجيش والمليشيا، فقد أوفّى وكفّى الدكتور محمد جلال هاشم والأستاذ عمرو صالح يسن، في كتابات مبثوثة على الفيس بوك، في تشريحهما لهذه الفروقات وتداعيات نتيجة الحرب على سيرورة بناء دولة المواطنة.
من الجدير ذِكرُه، فبالرغم من بأنّ الدعم السريع صناعة إنقاذية خالصة، يتحمل وزرها الرئيس المخلوع، إلاّ أنّ قوى الحرية والتغيير وترتيبات الانتقال منحته نفوذاً اقتصادياً وسياسياً، وموقعاً دستورياً في رئاسة الدولة. بجانب، أنّه في خلال الفترة التي مضت من عُمر الانتقال، تضاعفت القوة البشرية لمليشيا الدعم السريع بطريقة مُذهلة، وتضخمت ترسانتها وعتادها العسكري، على حساب تطوير وتحديث القوات المسلحة. بل، ومنحتها قيادة الجيش، مُمثلة في القائد للعام، جميع مقرات وآليات وأسلحة هيئة العمليات (المحلولة)، وسيطرتها على حراسات مرافق الدولة السيادية والخدمية، واستمرارها في احتلالِ موقع سلاح المظلات (الذي كان البشير قد سمح لها بشغله)، وتوسيع دائرة العلاقات الخارجية للمليشيا إقليمياً ودولياً. فخلال عام 2019، ذهب القائد العام للجيش بعيداً بإدخاله تعديلين على “قانون قوات الدعم السريع” الذي أصدره المجلس الوطني لنظام الانقاذ في عام 2017. هكذا، “منح التعديل الأول مزيداً من الاستقلالية والتمدّد لقوات الدعم السريع، بينما حسم التعديل الثاني مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة بإسقاط مادة القانون التي تناولت هذه المسألة” (د. سلمان محمد أحمد سلمان، “قوات الدعم السريع: قراءة في الإطار السياسي والقانوني”، سودانيز أون لاين، 22 مايو 2023). لا شكّ، أن القائد العام للجيش، ورئيس مجلس السيادة، يتحملُ جل مسئوليه تمدد وتوسع مليشيا الدعم السريع، دون أن يجِدَ هذا التوجه معارضةً أو مقاومةً تُذكر من قِبلَ قوى الحرية والتغيير وحكومتي الانتقال السابقة لانقلاب فض الشراكة في أكتوبر 2021.
من جِهةٍ أُخرى، فإنّ وجود مليشيا الدعم السريع باستقلالية عن، وفي موازاة الجيش، قد شكلّ عقبةً رئيسةً في إكمال الترتيبات الأمنية ودمج قوات الحركات المسلحة في دارفور في الجيش. فمن البديهي أن يُساور القلق هذه الحركات من هذا في ضوء تاريخ القتال الدموي بينها وبين مليشيا الدعم السريع، بما يُهدد مكاسب اتفاقية جوبا لسلام السودان. على حسبِ تصريحاتِ قيادة هذه الحركات فهم مُتمسكون بهذه الاتفاقية، الأمرُ الذي يُفرِضُ عليهم تبني موقف الحياد من النزاعِ العسكري بين الجيش ومليشيا الدعم السريع. كما تؤكد هذه القيادات أن ليس هناك ما يدفعهم علي اتخاذ موقف منحاز أو الدخول في أُتونِ هذه الحرب إلاّ في حالتي الدفاع عن المدنيين أو التنصُلِ من اتفاقية السلام والإقدامِ علي إلغائها وإعلان الحرب ضدها. وقد اعتمد مجلس الأمن بالإجماع قراره رقم 2685، في 2 يونيو الجاري،بأنّ اتفاق جوبا للسلام يظل ملزما لجميع الموقعين عليه، ويجب تنفيذه بالكامل، ولا سيما أحكامه المتعلقة بوقف دائم لإطلاق النار في دارفور.
دولة واحدة بجيشينِ!
قد لا يُدرِكُ البعضُ أنّ الحرب الراهنة حول تشكيل الجيش الوطني الواحد والموحد ليست هي الأولى في تاريخ النزاع المُسلح في البلاد. فقد سبقتها الحرب بين القوات المسلحة والجيش الشعبي لتحرير السودان (1983-2005)، والتي انتهت في نهاية المطاف ب”جيشين” في بلدين مستقلين” في يوليو 2011. فخلال مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية، كان قائد الحركة، د. جون قرنق، حريصاً على، ومُتمسكاً ببقاء الجيش الشعبي مُستقِلاً حتى يتم التوصل إلى ا تفاقِ سلامٍ شاملٍ. وكان مصدر موقف الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بشأن الترتيبات الأمنيَّة يرجع تاريخياً إلى عمليَّة استيعاب/دمج قُوَّات الأنيانيا بحُكم اتفاقيَّة أديس أبابا، 1972، في الجيش السُّوداني، والتي لاحقاً كانت السبب الرَّئيس في اشتعال الحرب مرَّة أخرى في 1983. فهذا الدمج أضعف موقف السياسيين الجنوبيين وجعلهم لُقمة سائغة لدى الرئيس نميري، ووفَّر له الفرص لنقض غزل الاتفاقيَّة التي نسجها بيديه. حقاً، فبعد إنشاء الجيش الشعبي لتحرير السُّودان، كانت الأطروحة الأصليَّة لزعيم الحركة الشعبيَّة، د. جون قرنق، هي تحطيم جيش السُّودان “القديم”، وفي سياق هذه العمليَّة، تقوم بالاستعاضة عنه بالجيش الذي يتسق مع خُصُوصيَّات السُّودان “الجديد” الذى تسعى لبنائه. ولكن، مع تطوُّر الصِّراع المُسلَّح ضدَّ نظام “الإنقاذ” تبيَّن له أنَّ هذا الأمر غير واقعي ولا يُمكن تحقيقه، فدفعه “ضعف توازن القوى” للتراجع عنه مُفضِّلاً التسوية السياسيَّة المُتفاوض عليها. وبالتالي دعت اتفاقيَّة السَّلام الشامل إلى تشكيل الوحدات المُشتركة المُدمجة (Joint Integrated Units) كآليَّة لدمج الجيش الشعبي والقوَّات المُسلحة السُّودانيَّة، لتكون بمثابة نواة لجيش السُّودان القومي في حالة اختيار الجنوبيين لوحدة السُّودان في استفتاء تقرير مصير الجنوب. لم يصوت الجنوبيون لصالح وحدّة البلاد، بل فضلوا الانفصال وتكوين دولتهم المُستقلة، فأصبح الجيش الشعيى هو جيش دولة جنوب السودان بينما بقيّت القوات المسلحة هي الجيش الوطني لجمهوية السودان.
إنّ نموذج “الدولة بنظامين وجيشين”، الذي انطوت عليه اتفاقية السلام الشامل، تمت صياغته على غرار مقترح الدولة الكونفدرالية، بغرض إعطاء الفرصة لشريكي الاتفاقية وبقية القوى السياسية السودانية لإعادة التفكير خلال فترة انتقالية ممتدة حول كيفية المحافظة على واستدامة وحدة البلاد على المدى الطويل، عن طريق تمديد دائرة القواسم المشتركة عبر الوقت. هكذا، فوجود جيشين، بجانب القوات المشتؤكة المُدمجة، خلال الفترة الانتقالية، جاء نتيجةٍ لتوافق الطرفين في سياق اتفاقية سياسية شاملة عالجت قضايا تقاسم السلطة والثروة في كل السودان. ثمة أسئلة تطِلُ برأسها لعل البحث عن الإجابةِ عليها يُساعد في المقارنة والفهم الصحيح للاختلاف بين وضع “الجيشين” في الانتقال بعد اتفاقية السلام الشامل، وحالة “الجيشين” في أعقاب ثورة ديسمبر. كانت الحركة الشعبية، وجيشها الشعبى، حركة سياسية من الطراز الأول لديها قاعدة اجتماعية عريضة، وهيكلٍ إداريٍ، وتمتلك مشروعاً للتغيير ورؤية سياسية ثاقبة، لبناء دولة المواطنة (السودان الجديد)، فهل تنطبق هذه المواصفات على “مليشيا” الدعم السريع غير النظامية العشائرية التي تقودها أُسرة بُغية وضع اليد على المصالح المادية والمكاسب الاقتصادية؟ هل يعشم قائد المليشيا في أن يجعلَ من الدعم السريع كياناً سياسياً عسكرياً، يتيح له التفاوض، كما الحركة الشعبية وبقية الحركات المسلحة، الحصول على نصيب من السلطة السياسية والثروة في الترتيبات الانتقالية القادمة؟ فبينما قاومت وناهضت وقاتلت الحركات المسلحة نظام الانقاذ الاستبدادي وقدمت تضحيات كبيرة، كان نفس النظام هو من صنع مليشيا “الجنجويد” لسحقِ هذه الحركات، فكيف لمليشيا أصلاً تابعةً للجيش، أدخلتها ترتيبات ما بعد الثورة في موقعٍ سيادي، أن تفاوض قيادة الجيش، أو القوى السياسية، حول وجودٍ مُستقِلٍ لا يُخضِعُ هذ المليشيا للجيش ولا تأتمِر بأمرِ القائد العام للقوات المسلحة؟
ربما يخطر ببال البعض أنّ الحرب بين الجيش والدعم السريع هي نسخة من الصراع المسلح بين فصيلين من قوات الجيش الشعبي تحت قيادتي سلفاكير ورياك مشار، في 2013 و2016. وقفت الحرب إثر التوقيع على اتفاق جديد لترتيبات الانتقال في اجتماعات استضافتها الخرطوم في أغسطس 2018، أصبح بموجبه رياك مشار النائب الأول للرئيس سلفاكير. صحيحٌ، قد يكون هناك شبهٌ بين الحالتين حيث أنّ النزاع المسلح في جوبا وحرب أبريل في الخرطوم وقعٍ بين رئيس جنوب السودان والقائد العام للجيش الشعبي ونائبه الأول، وبين رئيس مجلس السيادة ونائبه. ومع ذلك، فالفرق الجوهري بينهما هو أنٍ سلفاكير ورياك مشار هما من المؤسسين للجيش الشعبي، وبذلك الجيش الوطني لدولة جنوب السودان. ففصيل مشار يظلُ مكوناً رئيساً لهذا الجيش ولم يكن مليشيا موازية له، كما في حالة قائد قوات الدعم السريع الذي صنعه رئيس نظام الانقاذ لحمايته من الجيش نفسه. بجانبِ، أنّه خلافاً لتاريخ وطبيعة تكوين الجيش السوداني، فإنّ الجيش الشعبي تم تشكيله في إطار حركة سياسية أنشأتها قيادات لها قواعد “اجتماعية” متنوعة من الصعب إغفالها أو إقصاؤها من الجيش. ثَمةَ فرقٌ آخر بين الحالتين أنّ حرب جوبا، في 2013 و2016، لم تكن الأولى في سياق نشأة وتطور الحركة الشعبية والجيش الشعبي. فرياك مشار نفسه، بمناصرةِ آخرين، هو من قام بانقلاب “الناصر” المشهور ضد قائد الجيش الشعبي حينذاك في أغسطس 1991 (الذي أحدث انقساماً كبيرا في صفوف الحركة والجيش الشعبي)، حتى عاد إلى حُضنِ الحركة بقيادة جون قرنق في 2002. إذن، لا مجال للمقارنة بين القتال بين فصائل الجيش الشعبي، من جِهةٍ، وحرب مليشيا الدعم السريع مع الجيش السوداني، من جِهةٍ أخرى.
إنهاء الحرب والتفاوض: ما الهدف؟
لا أحد يريد الحرب أو يتمنى استمرار ويلاتها ليوم واحدٍ، بإستثناء تجارها وسماسرتها، ومن الطببعي أن يقف كل صاحب فطرة سليمة ضد الحرب. ومع ذلك، فشعار “لا للحرب”، الذي تتبناه قطاعات واسعة من السودانيين في الداخل والمِهجر، يستدعي التفكيك إذ يحمِلُ الشعار في طياته دلالات سياسية. وعلى قولِ الدكتور محمد جلال هاشم، فإنّ شعار لا للحرب لا يعني “الحياد”. ذلك، فالقوى السياسية التي ترفع هذا الشعار تهدِفُ إلى وقفِ الحربِ والجلوس على طاوِلة التفاوض بين القوتين المُتحاربتين (الجنرالين) لاستعادة العملية السياسية السابقة ل 15 أبريل، وبذلك إعادة انتاج مليشيا الدعم السريع في المشهد السياسي. حقيقةً، لا معنى حقيقي لوقف الحرب بدون مُخاطبة ومُعالجة مُسبباتها وأسبابها حتى لا تنفجر مُجدداً، ولو بشكلٍ جديدٍ. وطالما أنّ السبب الرئيس وراء اندلاع حرب أبريل يكمُنُ في قضية تشكيل الجيش الواحد والقيادة الموحدة بدمجِ قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، فإن لم تقُد الحرب إلى تشكيل هذا الجيش وتكوين هذه القيادة، فلن يوقفها هذا الشعار.
نعم للتفاوض، ولكن كيف؟ مع أنّ أي حربٍ تنتهي بالتفاوض بين أطرافها، لكن أمرينِ يحددانِ نتيجة هذا التفاوض، أولهما: طبيعة وميزان القوة لهذه الأطراف، وثانيهما (ربما الأهم): الموضوعات المطروحة في أجندة المفاوضات. للسودان تجربةٌ طويلة في هذا المضمار مع الحركات المسلحة في الجنوب، مٌنذ اتفاق أديس أبابا في 1972، والاتفاقيات مع الفصائل المُنشقة عن الحركة الشعبية في تسعينات القرن الماضي، وحتى اتفاقية السلام الشامل في 2005، واتفاقيات سلام دارفور بأبوجا في 2006، والدوحة في 2011، وصولاً إلى اتفاق سلام جوبا في 2020. القاسم المُشترك لكل هذه الاتفاقيات أنّ أطراف كل هذه الاتفاقيات هي حكومةالسودان، مع اختلاف طبيعة النظام السياسي الحاكم بين 1972و2020، من جِهةٍ، والحركات المسلحة، من جِهةٍ أخرى. فخلافاً لمفاوضات جدة، الجارية الآن بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، لم تكن تلك المفاوضات مباشرة بين الحركات المسلحة والجيش السوداني. بل كانت بين الحكومة والحركات المسلحة، بينما اقتصر دور مُممثلي القوات المسلحة، ضمن وفد التفاوض الحكومي، على قضايا وتفاصيل الترتيبات الأمنية والعسكرية. وبذلك، كانت طبيعة تلك المفاوضات سياسية في جوهرها (قضايا السلطة والثروة)، ولو أنها خاطبت المسائل الإنسانية والترتيبات الأمنية وإجراءات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (ال (DDR، وأثمرت عن اتفاقيات سياسية ودستورية.
أما المحادثات التي ابتدرتها الوساطة الأمريكية-السعودية في جدة، بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، فإنّها تهدف للتوصل تدريجياً إلى وقف نهائي لإطلاق النار، عبر الهُدَن، بما يُسهل مُرورِ المساعدات الإنسانية واستعادة تشغيل الخدمات للمواطنين. بالطبع، تطمحُ قوى سياسية داخلية وقوى خارجية في أن تتحول هذه المحادثات إلى مفاوضات سياسية تُشارك فيها القوى المدنية لاستعادة مسار العملية السياسية التي أوقفتها الحرب. في رأيي، أنّ موضوعات التفاوض بين الجيش (حتى لو كان جيش كيزان) والمليشيا، ينبغي أن لا تتضمن أي أجندة سياسية خارج نطاقِ تحقيق الهدف الرئيس في الوصول للجيش الوطني الواحد والقيادة الموحدة. لا شك، أنّ الفرق شاسعٌ والبون واسع بين الاتفاقيات السياسية للحكومات والحركات المسلحة، وبين تفاوض القوات المسلحة مع مليشيا عشائرية-أُسرية تقوم على حماية مصالحها ومكاسِبها.
ودرءاً لتعدُد الوساطات ومنابِر التفاوض، وتجنب التدويل، فإنّه من الأفضل، ويصُب في المصلحة الوطنية، البناء على مُخرجات المفاوضات في جدة، بتسهيلٍ من السعودية وأمريكا، وبالتنسيقِ بينهما والاتحاد الأفريقي ودول الجوار، خاصة مصر وجنوب السودان، في تنفيذ الإجراءت الفنية المتعلقة بالترتيبات الأمنية ودمج قوات المليشيا في الجيش وفقاً لمتطلبات ومقتضيات عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.
وبالرغم من ذلك كُلهِ، فإنّ لم تبسط القوات المسلحة سيطرتها العسكرية، وفي حالِ استمرار الحرب لمدة طويلة، قد يُفضي الأمرُ إلى ضُعفٍ في توازن القوة بين الجيش والمليشيا يدفعُ لمفاوضات سياسية تُعترف بمليشيا الدعم السريع كفاعلٍ عسكريٍّ سياسيٍّ، مما يُعيد انتاج الأزمة التي قادت إبتداءاً لهذه الحرب. إن حدث هذا السيناريو، ستدخل البلادُ في حربٍ جديدةٍ قد تكون أوسعَ نطاقاً وأفظع من الاقتتال الجاري، يصعبُ التكهُنِ بمساراتها ومآلاتها. أمّا في حالة انتصار مليشيا الدعم السريع عسكرياً، فهذا السيناريو يُنذرُ ببداية نهاية السودان الذي نعرفه إمّا بحربٍ أهليةٍ مُمتدةٍ أو بتفككِ الدولة السودانية في سعي كل مجموعة لاحتلال، وإقامة سلطة في منطقة بعينها.
وفوق ذلك كُلهِ، فإنّ وقفَ الحربُ في سبيل تحقيق هدف الجيش الواحد والقيادة المُوحدة ينبغي أن لا يُرهنُ فقط على القوة العسكرية. فللقوى السياسية والمدنية، بما فيها لجان المقاومة، دورٌ حاسمٌ في نتيجة المفاوضات الجارية في تحقيقِ هذا الهدف. فعلى قوى الحرية والتغيير، خاصة المجلس المركزي، أن ترصُدُ وتكشِفُ عن، وتُعلِنُ صراحة إدانتها لانتهاكات قوات المليشيا الفظيعة لحقوق المدنيين، وهو أمرٌ لا تخطئه عينٌ، دون إحتجابٍ خلفِ لافتةِ “لا للحرب”. فهذه القوى مُطالبةٌ بسحبِ أي غِطاءٍ سياسي، ورفع الستار عن مليشيا الدعم السريع بدلاً عن اعتبارها قوة مكافئة مع القوات المسلحة السودانية، بل وحثُّ قيادة المليشيا بقبول الدمج في الجيش وتحت قيادته وِفقاً لقانون القوات المسلحة. وهذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوالِ الوقوف ضد خيار قيادات المليشيا، ممن ليست موجهة ضدهم اتهامات جنائية، في ممارسة العمل السياسي وفقاً لقانون الأحزاب التنظيمات السياسية المُرتقب. ومن المُهمِ أن تُدرِك القوى السياسية والمدنية أنّ الجيش السوداني، رغماً عن ما أصابه من تشوهات خلال الثلاثة عُقود من حُكمِ نظام الانقاذ، يظلٌ قوةً نظاميةً قابِلةً وواجبةَ الخضوع للإصلاح (إن كان من داخل الجيش أو بالضغط السياسي أو حتى بالثورة عليه)، بينما هزيمتها تعني اِنهيار الدولة السودانية. إنّ الجيشَ واحدٌ من مؤسسات الدولة ولو تبدلّ الفاعلون في قيادته، فذهب الفريق عبود والمشير نميري والمشير عمر البشير، وذهاب الفريق أول البرهان صار وشيكا، وسيبقى الجيشُ.
ذكرتُ في أكثرِ من مقالٍ سابق أن لا نعول كثيرا على المجتمع الدولي، أو أمريكا، وافتقاره إلى القُدرة على تغيير مسار الاحداث طوال الفترة المُنصرمة من عُمرِ الانتقال. فالبرغم من تدخل هذا المجتمع، عن طريق الآلية الثلاثية ومجموعة الأربعة والترويكا، في توفير الدعم للاتفاق الإطاري إلا أنّ ما بذله من جهوده لم تُسعِفه في الوصول بالعملية السياسية إلى نهاياتها المنطقية. ولعل قلة حِيلة المجتمع الدولي في الاقناعِ أو ممارسة الضغوط للدفع بعملية دمج مليشيا الدعم السريع في سبيل تشكيل الجيش الواحد، لا تخفى على مُراقبٍ حصيفٍ. هكذا، بعد وقوعِ طامة الحرب، وقفّ المجتمع الدولي عاجزا لا يملك من أمره شيئا غير الدعوة للتهدئة والوقف الفوري لاطلاق النار، واللجؤ للحوار، وكتابة روشتته المعهودة بفرض العقوبات، التي أثبتت التجربة عدم جدواها. إن الأزمة السياسية الراهنة سودانية من صنع الصفوة السياسية والنخبة العسكرية، وحلها بيد السودانيين! فالجار، ناهيك عن البعيد، لا يتدخل في شأن جيرانه الا اذا تعالت الأصوات وانبعث الدخان!
الأدلة تشهد بأنّ بعض الدول في هذا المجتمع قد راهنت “bet” على تغيير سياسي بواسطة مليشيا الدعم السريع. فبعد فشل انقلاب المليشيا، وما شاهده العالم من سلوك همجي لهذه القوات واستيطانه في بيوت الناس واحتلاله للمشافي، فعلى هذه الدول أن تتحوط “hedge the bet” من خسارة هذا الرهان، ويعني ذلك أن تُسمي الأشياء بأسمائها وتُفرِقُ بين الجيش “النظامي” كمؤسسة للدولة والدعم السريع كمليشيا “غير نظامية” تُهددُ وجودَ هذه الدولة نفسها. يستدعي هذا التمييز أن ترفع هذه الدول يدها عن مؤازرة المليشيا ومطالبة قيادتها، والضغط عليها، بوقف انتهاكاتها المرصودة وأن تقبل بالتفاوض على الدمج في الجيش بما يقتضيه قانون القوات المسلحة. فهل يضع هذا المجتمع “شركة مِثل “فاغنر” و”الجيش الروسي” على كفة واحدة من الميزانّ؟ وإن كان هذا المجتمع حقيقةً يدعم التحول الديمقراطي وصادقاً إِتِّقاء شرِ الحرب الأهلية في البلاد وتفكك الدولة، التي يُحذرُ منها، فمسئوليتة في تحقيق الأمن والسلم تُملي عليه أن لا يُخضِعُ قضية بناء الجيش الوطني الواحِد للمساومة مع المليشيا، بما يُهددُ مستقبل الديمقراطية في السودان.
خاتمة
إنشغلت القوى السياسية والمدنية السودانية بالقضايا المتعلقة إما بشأن المشاركة في الحكم أو في سلطة ومؤسسات كل الفترات الانتقالية (1964، 1985، 2019)، مع إغفالٍ ملحوظٍ، ربما مقصودٍ، لوضع القضايا التأسيسية الدستورية للدولة السودانية على رأس أولويات أجندة الحوار بين هذه القوى. فإن تجنّبت البلاد شرور سيناريو الحرب الأهلية أو تفكك الدولة السودانية، فإنّ الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع تُشكلُ محطةً مِفصلية في سيرورة بناء دولة المواطنة السودنية. ففي ظني، قد آن الآوانُ للانتقالِ نحو مُعالجة مشاكل البلاد “البِنيوية” وليس فقط تلك المتعلقة بمن يسوس ويحكُم بِمعزلٍ عن مُخاطبة قضايا التأسيس والدستور. فإن اتعظنا بتجاربنا السابقة وكُنا حقيقةً نسعى إلى استقرار الحكم نفسه في البلاد، فما زالت عبارة “كيف، وليس من يحكم”، التي يرددها السياسيون قاطبةً، سارية المفعول. لم يجلس السودانيون على طاوِلة واحدة للحوار حول قضايا التأسيس، ربما ما عدا مؤتمر “المائدة المستديرة” المُعنى بما عُرِف ب”مشكلة الجنوب” آنذاك في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي. أختِمُ بأنّه بعد هذه الحرب التى تدور رحاها اليوم، فقد أزِفَت ساعة الجلوس حول مائدة “المؤتمر الدستوري” الذي ظلت القوى السياسية والمدنية، الاستحقاق الذي تتهربُ منه هذه القوى. فما أن تضعَ الحرب أوزارها، تحديانِ ومُهِمتانِ رئيستانِ تواجهان سلطة ما بعد الحرب وكافة القوى السياسية والمدنية، أولهما: إزالة آثار الحرب المُدمِرة وإعادة البناء والإعمار، وثانيهما: الإعداد والتحضير للمؤتمر الدستوري، الذي سيُخرجُ مسودةً للدستور تُعرضُ استفتاء شعبي يُشارك فيه كل السودانيين. يبقى المؤتمر الدستوري هو المفتاح الوحيد لحل المُعضِلة السودانية، وإلاّ فلن تخرج البلاد من نفقِ اتفاقات الانتقال لتدخل في حالة الدائرة الشريرة مُجدداً
المصدر