حتمية التاريخ تقول بإنهيار إمبراطورية “آل دقلو”
من حق كل مواطن سوداني أن يمارس التجارة وأن يصبح ثريا من وراءها ومن حق كل مواطن سوداني أن يمارس السياسة ويصير حاكما بها.. ولكن ليس من حقه حماية ذلك أو فرضه بقوة السلاح حد إنشاء جيش مواز للجيش الوطني.. إن ما قام به محمد حمدان دقلو “حميدتي” هو تمرد على شرعية القوات المسلحة.. فالقوات التي يقودها، المسماة ب”الدعم السريع”، نشأت بقانون وهي بهذا القانون تتبع للجيش الوطني، تأتمر بإمرته، فإن خالفت، طالتها يد القانون وعوملت كأي وحدة عسكرية أو كتيبة تمردت وتاريخ العسكرية السودانية حافل بمواقف شتى مشابهة.. كل جيوش العالم في كافة الدول تستعين بقوات إحتياطية شعبية، إذا ما تهدد دولة ما، مهدد داخلي أوخارجي وما فعلته السلطات السودانية وقت إنشاء الدعم السريع لم يكن بدعا، بل هو ما جرت عليه العادة لدى الكثيرين في مثل هكذا مواقف.
ابتداءا من هو حميدتي؟.. هو رجل بدأ حياته تاجرا وعندما نشب الصراع في دارفور لجأ للحكومة وقتها لحماية أهله وتجارته من هجمات متمردي دارفور وقد كان أن استعانت به الحكومة لقمع التمرد وقتها..
من هذه الخلفية المختصرة نجد أن “حالة” حميدتي تشبه إلى حد بعيد حالة “الزبير باشا ود رحمة” ، الذي سيطر على بحر الغزال ومن بعد على دارفور في العام ١٨٧٤م”،إبان الحكم التركي المصري للسودان، وجه الشبه هو الطموح وذات البدايات، التجارة ثم العمل العسكري لحماية هذه التجارة، فمن المعروف تاريخا أن الزبير باشا كون إمبراطورية إقتصادية ضخمة محمية بقوة عسكرية متفردة هي جيش” البازنجر”، هي ذاتها قوات الدعم السريع اليوم لصاحبها حميدتي، جيش البازنجر أنشئ بغرض محاربة قطاع الطرق من قبائل بحر الغزال و الرزيقات في دارفور الذين كانوا يعترضون تجارة الزبير باشا القادمة من بحر الغزال متجهة إلى الخرطوم عبر ديارهم .. لقد كان لجيش “البازنجر” قوات من المشاة المدربة تدريبا حديثا مكنها من السرعة في حركتها والإنتصار في أغلب المعارك التي خاصتها إن لم يكن كلها .. قوات “البازنجر”، كان قادتها من ضباط وعساكر قد عملوا في الجيش المصري،أمثال “النور عنقرة” و”حمدان أبوعنجة” و”أبوقرجة” وغيرهم، هم ذات الأمراء القادة في المهدية لاحقا، هؤلاء القادة صبوا كامل خبرتهم في جيش “البازنجر”، مما جعله يقدم الانتصارات تلو الأخرى.. إلى أن كانت قاصمة الظهر للزبير باشا بعد استدعاء خديوي مصر له، للمجئ للقاهرة بإيعاز من حكمدار السودان خشية تمدد إمبراطوريته على حساب إمبراطورية محمد علي باشا و(حدث ما حدث) للزبير باشا من نفيه لمصر ومقتل ابنه سليمان لاحقا بخديعة “جيسي باشا” المشهورة ومن ثم انهيار إمبراطوريته التي بناها في عدة سنوات.
التاريخ قد يعيد نفسه(هناك تشكيك في هذه المقولة، فالتاريخ لا يعيد نفسه ولكن الناس لا تعتبر من أحداث التاريخ) ، بذات الطريقة التي انهارت بها إمبراطورية الزبير باشا، تنهار اليوم إمبراطورية “آل دقلو”، فالطموح الشخصي الجامح لا يصنع دولة، لقد خانت السياسة ومكرها الزبير باشا قبلا وهاهي تخون “حميدتي” اليوم.
فى كل مرة كان يختار حميدتي الجانب الأقوى ليرتقي لسلم المجد، بدأها بالبشير ثم القوى السياسية الموالية للثورة والآن القوى الموقعة على الإتفاق الإطاري، بإعتبار أن هذا الاتفاق السياسي هو الجانب الأقوى بحسب تقديره.
ظل السودان طوال عهوده محط أطماع دولية منذ بداية الإستعمار الحديث (التركي المصري) ثم البريطاني المصري، فعندما دكت خيول “كتنشر باشا” أرض أم درمان في الثاني من سبتمبر ١٨٩٨م، لم تكن بريطانيا وحدها في الميدان فقد كانت فرنسا في الغرب”مملكة وداي، تشاد حاليا” وحاولت ضم دارفور وكانت حاضرة أيضا في جنوب السودان في “فاشودة” والتي هرول إليها “كتشنر باشا” عقب معركة كررى مباشرة ليبرم إتفاقا مع القائد الفرنسي “مارشان” لينزع فتيل الأزمة بين البلدين الإستعماريين.. وكانت إيطاليا في الشرق”إثيوبيا” وبلجيكا في الجنوب الغربي” الكنغو”وبريطانيا وحلفاءها في الشمال”مصر” ، لذلك إنهارت الدولة المهدية بعد حصار وفتن داخلية وقتال…لتكسب بريطانيا الجولة.. اليوم تنهار إمبراطورية “آل دقلو” لذات التقاطعات الدولية.
فى إعتقادي اذا انتهت هذه الأحداث في السودان على ما عليه والمؤشرات تؤكد بسيطرة الجيش السوداني على مجريات الأمور، فإن مستقبل “حميدتي” العسكري والسياسي سيكون أكثر تعقيدا اذا لم يضمحل تماما ، فالمجتمع الدولي ليس من مصلحته السودان غير المستقر لأنه يعلم التهديد لأمن المنطقة ان لم يكن الأمن الدولي الذي يمكن أن يحدث جراء انهيار الدولة السودانية ، فموقع السودان المتميز، يجعل المنطقة كلها تتأثر سلبا لما يحدث في الداخل وهاهي جلسة مجلس الأمن المنعقدة البارحة تؤكد ذلك.
“حميدتي” الآن محاصر عسكريا وسياسيا في الداخل والخارج.. إضافة للوقفة الشعبية الكبرى المساندة للجيش السوداني.
إن الشرعية التي اكتسبتها قوات الدعم السريع في بداية تكوينها فقد انتفت الآن، فهي أنشئت لمساندة القوات المسلحة وهو أمر معمول به في كثير من البلدان أن تكون للجيوش قوات شعبية مساندة.. انتفت هذه الشرعية بالتمرد على من أنشئت لمساندته.
سينجلي غبار هذه المعركة عاجلا أم آجلا، برغم ما خلفته من مآسي ومرارات، فالرياح الهوجاء التي تسبق هطول الغيث تجعل الأرض تهتز وتربو لتحيا من بعد، بنمو الزرع وإمتلاء الضرع ولكن ينبغي أن تكون هذه المعركة نقطة فارقة في تاريخ السودان تؤسس لمرحلة جديدة مفادها أن السودان لا يمكن أن يحكم بواسطة فرد أو قبيلة بعينها وأن السلاح لابد أن يكون في يد الجيش السوداني فقط، ذلكم الجيش الوطني الذي ظل دوما يدفع فاتورة أخطاء وأطماع الساسة على مر الحقب السياسية المتعاقبة على السودان.. إن المعركة التي نشهد اليوم نهاياتها بنصر مؤزر للجيش السوداني الوطني، أثبتت أن جيشنا هو المؤسسة الوطنية الوحيدة الراسخة التي تمثل صمام أمان لوحدة البلاد، فلنعض على هذه المكتسبات بالنواجز.
إن زمان بناء الأمجاد الشخصية بحد السيف كما كان في القرون الماضية قد ولى.. واهم من ظن أن السلطة والجاه تنشأ اليوم تحت ظلال السيوف، كما فعلها “نابليون بونابرت” قبلا في أوروبا أو “محمد علي باشا” في مصر أو “الزبير باشا” في السودان، فلكل مقام مقال ولكل أوان رجال.. نحن في زمان “الجيل الخامس” من الحروب.. حروب “سيبرانية” سلاحها الذكاء الإصطناعي والهندسة الإجتماعية والعمل العسكري غير الحركي.. من وجد في نفسه الكفاءة من ذلك دولا وجماعات وأفرادا فليتقدم.. ما دون ذلك هو حرث في البحر وتبديد للوقت والموارد.
هكذا هي حتمية التاريخ وصيرورته.. تجري سنن الله الكونية القدرية التي تمضي بحكم الله وحكمته في حياة البشر لإخضاع وإقناع الذين لم يسلموا أو لم يستكملوا التسليم لأحكامه الشرعية، والأمر كما قال الله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}،[فصلت: 53].
د. محمد بشير عبادي
مصدر الخبر