جبال النُّوبة في سنوات الجمر الملتهبة (3- 4)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected] o.co.uk
على أيٍّ، فذلك هو سلوك الرؤساء الطغاة مسلمين كانوا أم غير مسلمين، وفي أي زمان ومكان. أفلم تروا كيف فعل الجيش في ميانمار (بورما سابقاً) بمواطني قرية دون تاو في إقليم ساجينق! قام الجيش الميانماري كردة فعل انتقاميَّة عن هجوم على طوف عسكري بحرق المدنيين أحياءً بما فيهم 11 طفلاً، وتتراوح أعمار الضحايا ما بين 14-40 عاماً، وذلك بعد أن انقضَّ 50 جنديَّاً على أهل القرية بغتة وهم لا يعلمون، واعتقلوا من لم يستطع الهروب، وأوثقوهم في أيديهم من خلاف، وأضرموا عليهم النَّار. الجدير بالذكر أنَّ القادة العسكريين قد قتلوا أكثر من 1,300 مواطناً أعزل بما فيهم 75 طفلاً منذ أن استولوا على السلطة في ميانمار في انقلاب عسكري ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطيَّاً في الفاتح من شباط (فبراير) 2021م.
بيد أنَّ دعوات منظمات حقوق الإنسان، وبخاصة هيومان ووتش، بوضع أسماء القادة العسكريين، الذين أصدروا الأوامر لاقتراف المذبحة إيَّاها، في قوائم العقوبات الاقتصاديَّة والديبلوماسيَّة لا تغني من الأمر شيئاً. إذ لا نرى أنَّ فرض حظر السفر أو تجميد حساب مصرفي على العسكر الطغاة في أي بلد قد ينصف الضحايا، ويحقِّق العدالة في شيء. إذ ينطلق منتقدو العقوبات الاقتصاديَّة والديبلوماسيَّة والسياسيَّة من ثلاثة محاور: أولاً إنَّها لتطيل معاناة الشعوب بحيث لا يتأثَّر بها الحكام الذين تسبَّبوا في المشكلات التي أدَّت إلى هذه العقوبات؛ ثانياً إنَّها لتأخذ زمناً طويلاً لاستظهار فعاليتها ولسعتها؛ ثالثاً هناك ثمة دول لا تتقيَّد بهذه العقوبات، وتقوم على خرقها (Sanctions busters) في سبيل مصالحها التجاريَّة أو السياسيَّة، أو توافق معتقداتها الروحيَّة. فقد تتضامن دولة مع أخرى واقعة تحت طائلة العقوبات، وذلك من أجل الزمالة الاشتراكيَّة، أو التضامن العربي، أو التناصر الإسلامي، أو الإخوة الإفريقيَّة ضد الإمبرياليَّة الغربيَّة أو غيرها. وفي نهاية الأمر تصبح هذه العقوبات بلا جدوى. إذاً، ما هي حقيقية العقوبات الاقتصاديَّة أو الحصار الاقتصادي؟
في خطابه أمام أعضاء البرلمان في مجلس العموم البريطاني العام 1923م دعا رئيس حزب العمال رمزي مكدونالد إلى وقف التسلُّح لأنَّ حروب المستقبل ستكون شنيعة حين نتأمَّل فيها. فقد ذكر مكدونالد – فيما ذكر: “سوف يكون هناك حصار، وفي أكثر من ذلك سوف تكون هناك ثمة غارات جويَّة بغازات سامة.” إذ يركِّز المؤرِّخون المعاصرون تفاسيرهم على الهجمات الجويَّة والغازات السامة باعتبارهما إحدى الابتكارات الرئيسة في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م). غير أنَّه في الحرب إيَّاها توفي 1,400 شخصاً في بريطانيا من جرَّاء القصف الجوي، وقتلت الغازات السامة 90,000 جنديَّاً، أي بمعدَّل 70% تقريباً من الذين تأثروا بهذه الغازات. أما عن الحصار فقد توفي حوالي 400.000 شخصاً من جرَّاء تأثيرات الحصار مثل المجاعة والمرض في أوروبا الوسطى، وحوالي 5.000 آخرون في مناطق نفوذ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة) في الشرق الأوسط.
الحصار والحظر لهما تاريخ طويل يعود إلى المنظومة القاريَّة لنابليون، ولكن جدليَّاً يعود إلى مسار طويل في عصر الأغاريق (اليونانيين) القدماء. لكنهما بالكاد لم يكونا فاعلين، لأنَّ الدول التي اعتمدت على الأسلوب التقليدي القديم في الزراعة كانت مكتفية ذاتيَّاً، وإجراءات تطبيقهما عمليَّاً كانت باهظة التكاليف، وكانت الأساليب المتبعة في الحروب آنذاك مختلفة تماماً، ثمَّ كانت الأمم يومئذٍ ترى أنَّ العلاقات التجاريَّة والماليَّة أمرين منفصلين. ففي حرب القرم حين كانت الجيوش البريطانيَّة والروسيَّة تقتتلان في سيفستابول، كانت الحكومة البريطانيَّة تدفع قيمة الفائدة المضافة في الذهب إلى حكومة قيصر روسيا.
إذ تبدَّل ذلك كله عند بروز مفهوم “الحرب الشاملة” (Total war)، الذي طوَّره بعدئذٍ الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن (1809-1865م). وبعدئذٍ نشر الجنرال الألماني القومي لوديندورف كتاباً عن “الحرب الشاملة”، وذلك استشعاراً بالنزعة القوميَّة الألمانيَّة، ولوديندورف هو صاحب المقولة الشهيرة: “جيش واحد، شعب واحد” (Army and nation are one). هكذا حين شرع زعماء الدول والمثاليُّون في رسم النظام العالمي الجديد وضعوا آلية تنفيذ سياسة الحصار الاقتصادي في قلب خططهم. ففي المادة 16، الفقر 1 من ميثاق عصبة الأمم (الأمم المتحدة لاحقاً) تتلخَّص العقوبات الاقتصاديَّة فيما يلي: أولاً، قطع جميع الدول الأعضاء في العصبة لكل ما لها من العلاقات التجاريَّة أو الماليَّة مع الدول المخالفة في الحال. ثانياً، منعها أيَّة صلة بين أهاليها وأهالي تلك الدولة.” وقد شمل تطبيق هذا القرار على أيَّة دولة عضو في عصبة الأمم، وكذلك وعدت عصبة الأمم أن تقوم بعمل ضد مواطني الدول غير الأعضاء في المنظمة التي تخرق هذا الحصار. هذا فقد كتب أحد الموظفين الشباب المثاليين في المنظمة مبتهجاً: “لعلَّ المجاعة عند عامة السكان، وبشكل خاص الأفقر منهم، هي التي سوف تسبِّب أزمة في الدول المعتدية، ومن ثمَّ تستسلم.” أما الليبراليُّون العالميُّون، الذين كانوا في السابق يرون أنَّ التجارة الحرَّة شيء حميد وليست لها علاقة بالسياسة، فقد باتوا يرون أنَّ الاقتصاد والسياسة لا يمكن أن ينفصلان.
هكذا فشلت عصبة الأمم، وأمسى سلاحها الاقتصادي باطلاً عديم القيمة. كان الهدف الأساس من هذا السِّلاح الاقتصادي هو الرَّدع، وأفرزت بعض النجاحات، وبخاصة ضد الدول الضعيفة فقط. ففي العام 1925م غزا اليونان بلغاريا، وذلك بعد مقتل جندي يوناني في المخافر كان يطارد كلبه عبر الحدود اليونانيَّة-البلغاريَّة حتى أطلق خفير بلغاري النَّار عليه وأرداه قتيلاً، ومن ثمَّ قامت “حرب الكلب الشارد”، وانتهت بسرعة أثناء التهديد بفرض العقوبات الاقتصاديَّة على الطرفين.
بيد أنَّ أكبر الفشل عند عصبة الأمم قد ظهر في التعامل مع اجتياح الرئيس الإيطالي بينيتو موسوليني (1883-1945م) لإثيوبيا العام 1935م. إذ فرضت عصبة الأمم حصاراً على صادرات إيطاليا بعد هذا الغزو لتدمير اقتصادها، وبخاصة حين تفقد العائدات الأجنبيَّة. وقد أحدث ذلك الحصار دماراً حقيقيَّاً لاقتصاد إيطاليا، ولكن ليس بالكيفيَّة المطلوبة، لأنَّ الحظر كان انتقائيَّاً، ولم يشمل النفط الذي كان ضروريَّاً لاقتصاد إيطاليا وجيشها، وذلك لأنَّ شركات النفط الأمريكيَّة كانت تمثل المنتجين الأساسيين، ثمَّ لم تكن الولايات المتحدة عضواً في عصبة الأمم عصرئذٍ. إزاء ذلك أمسى موسوليني متمسكاً بسياسة “الاكتفاء الذاتي” (National autarky)، لكي يتجنَّب إجراءات مثيلة في المستقبل. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الاكتفاء الذاتي عبارة عن منظومة اقتصاديَّة تركِّز في الأساس على التجارة المحدودة. وحين نقول إنَّ الدولة في حال اكتفاء ذاتي كامل فهذا يشي بأنَّها تمتلك اقتصاداً مقفولاً، مما يعني أنَّها لا تنخرط في التجارة الدوليَّة مع أيَّة دولة أخرى.
مهما يكن من أمر، فإنَّ حليف موسوليني في دول المحور أدولف هتلر كان مهووساً دوماً ب”المرونة ضد الحصار” (Blockadefestigkeit)، ثمَّ هو الذي كان يرنو إلى المزارع الغنيَّة في أوكرانيا، وآبار النفط في إقليم القوقاز. هذا ما كان من أمر العقوبات الاقتصاديَّة التي تطوَّرت لتشمل العقوبات العسكريَّة والسياسيَّة والديبلوماسيَّة، التي تمَّ تطبيقها على عدة دول في القرن العشرين بما فيها السُّودان ونظام الفصل العنصري “الأبارتهيد” في جنوب إفريقيا، ولكنها أخذت زمناً طويلاً لتكون فعَّالة ذات أنياب في حال جنوب إفريقيا، وبخاصة أنَّ بعض الدول ذات النفوذ كان يعترض على تطبيقها، وعمل على عرقلتها، مثل المملكة المتحدة التي كانت لها علاقات تجاريَّة مع جمهوريَّة جنوب إفريقيا.
عوداً على بدء، ففي ذلك الرَّدح من الزمان أمست حال جبال النُّوبة في الكهوف كحال الثمانية والثلاثين يهوديَّاً الذين قضوا عاماً ونصف العام في منطقة مكتظة بالمغاور في قرية كرولوفكا في بولونيا، وفي ذلك لواذاً من النازيين. ففي روايتها التاريخيَّة المعنونة ب”أسفار يعقوب” (The Books of Jacob) العام 2021م وصفت المؤلِّفة البولونيَّة أولقا توكارتشوك عيون أطفال هؤلاء اليهود المختبئين بأنَّها دُمِّرت نهائيَّاً بسبب ظلمة الأيَّام، وحملهم الشموع وسط جدران الكهوف لإحالة بلورات الصمت الأبدي إلى نجوم ساطعة. ومن حين إلى آخر كان يغامر الكبار بالخروج بحثاً عن الطعام والشراب، وكان القرويُّون يعاملونهم كالشياطين، ثمَّ كانوا يتركون لهم – وكأنَّ ذلك المتروك قد حدث بالصدفة – جوالات من الدقيق والبطاطس خلف حظائر حيواناتهم. وفي نيسان (أبريل) 1944م رمى أحدٌ من القرويين زجاجة في حفرة تقود إلى كهفهم، وكانت بداخل الزجاجة قطعة ورقيَّة مكتوب عليها بيد أخرق أنَّ الألمان قد ذهبوا. إنَّ كل الذين اختبوا في هذه الكهوف بقوا على قيد الحياة، وهاجر أغلبهم بعدئذٍ إلى كندا، حيث شرعوا يقصون قصَّتهم على الكنديين حتى طفق أغلب النَّاس ينصتون ولا يكادوا يصدِّقون.
مهما يكن من أمرهم، ففي جبال النُّوبة في ذلكم العهد الغيهب في التسعينيَّات كان المحافظ عبد الوهاب عبد الرحمن في كادقلي يريق دماء النُّوبة الأبرياء تحت دعاوي مكافحة التمرُّد. وفي إحدى سفرياته إلى الخرطوم ولم يكن يدري أنَّه حائن، والحائن هو من حان هلاكه، حتى انقلبت السيَّارة التي كان يقلها ومات ميتة شنيعة أذهلت من شاهدوه وهو يحتضر، حيث طعنته آلة حدباء من إحدى آلات العربة وأخذ الدَّم يتطاير كأنَّه منبعث من نافورة، حتى مات ميتة بطيئة مؤلمة. أولم يقل كعب بن زهير في قصيدة البردة: “كل ابن أنثى، وإن طالت سلامته،/ يوماً على آلةٍ حدباء محمول!” وكانت ألسنة حال ضحايا هؤلاء القتلة المكرة وأهل الضحايا تردِّد كما يقول المثل الشعبي السُّوداني “يا قاتل الرُّوح وين بتروح”. بيد أنَّ أهل السلطة، الذين كان في قلوبهم ضغائن تبعث الشنآن والحسد، والذين كانوا يصدرون مثل هذه التعليمات لزبانيتهم لتنفيذ مثل هذه المجازر، كانوا ينسون دوماً أنَّهم بإمكانهم قتل الإنسان، ولكن حواء قابلة للإنجاب. لله در الشاعر عبد الله البردوني حين طفق ينشد:
لا تحسبِ الأرضَ عن إنجابها عقرت من كلِّ صخرٍ سيأتي للفدا جـبلُ
فالغصنُ ينبتُ غصناً حين نقطــــــعه والليلُ يُنجبُ صبحاً حين يكتملُ
ستمطر الأرضُ يوماً رغم شِحَّتِـــــها ومن بطون المآسي يُولدُ الأمـلُ
ففي حديثي مع أحد الناجين من أبناء النُّوبة من المجازر التي كانت تقوم بها الاستخبارات العسكريَّة، قال محدثي إنَّه كان قد حث الذين استطاعوا الخروج من منطقة جبال النُّوبة سالمين، واعتزموا العودة إليها بأنَّ عليهم اختيار أحد الأمرين: إما الذهاب إلى المنطقة والانخراط في التمرُّد مع الجيش الشعبي لتحرير السُّودان في سبيل الحصول على السِّلاح لحماية أعراضهم وذويهم وممتلكاتهم، أو الابتعاد عن المنطقة في ذلك الرَّدح من الزمان، إلا أن بعضهم لم ينصاعوا لأمر ذلك الناصح الأمين، ولم يكن أحدٌ راغباً في التعلُّم من مصائب الأغيار، وأنَّ عدداً كبيراً من النَّاس اقتربوا بطيب خاطر من القتلة، وذلك بعد أن رأوا ما رأوا ما حاق بأهليهم وأصدقائهم، وكانت نهايتهم في الوقوع في قبضة السلطات الأمنيَّة في مدينة كادقلي، وتمَّت تصفيتهم بدم بارد، وكانوا كمن شرب السم من أجل التجربة، ثمَّ إنَّهم لم يهتدوا بحكمة وفطنة الثعلب في تلك الحكاية للأسد المتمارض الذي سأل الثعلب لِمَ لم تزرني في عريني، وكان ردَّ الرواغ، وهو اسم من أسماء الثعلب، وذلك بعد أن تبسَّم ضاحكاً، وقال في نفسه لنفسه “أعلى هامان يا فرعون!،” أي أعليَّ تحاول أن تخدعني، وأنت تعلم أنَّني سيِّد العارفين، ثمَّ قال له جهراً: “كان بودي أن أزورك في عرينك، لكنني أرى الكثير من آثار أقدام البهائم الداخلة، ولا أرى من أثر لأي منها وهي خارجة.” أجل، كان لسان حال محدثي يقول:
ولقد نصَحتُ فما أُطعْتُ وكم حرِصتُ بأن أُطَاعا
أولم تروا كيف حذَّر أبو البركات محمد بن محمد الغزي في كتاب “المراح في المزاح” الرجل الفاضل من أن يسترسل في مزاح عدوَّه، فيجعل له طريقاً إلى إعلان المساوئ هزلاً وهو مجد، ويفسح له في التشفِّي مزحاً وهو محق. وفي التاريخ المعاصر تجارب مريرة مهلكة ممن استهانوا بأعدائهم، وباتوا من النادمين. عليه ينبغي عدم الاستهانة بالأعداء مهما كانت النتائج الاستخباراتيَّة، وذلك كما فعل اليابان إبَّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م). فقد اعتقد اليابانيُّون، الذين خطَّطوا لمهاجمة القاعدة الأمريكيَّة في بيرل هاربر كخيار إستراتيجي بدلاً عن المفاوضات، أنَّ الأمريكيين ما هم إلا تجَّاراً في قلوبهم أكثر من كونهم محاربين، ولسوف يعودون إلى طاولة المفاوضات بعد استظهار عزيمتنا. هذا الاعتقاد الخطأ هو الذي ساق اليابانيين إلى الإغارة الجويَّة على القاعدة الأمريكيَّة في بيرل هاربر في 7 كانون الأول (ديسمبر) 1941م، وكانت هذه الإغارة هي التي جرَّت أمريكا إلى دخول غمار الحرب العالميَّة الثانية ضمن أسباب أخرى بالطبع، وأدَّت إلى قصف مدينتي هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945م، وناجازاكي بعد ثلاثة أيام من قصف هيروشيما، وذلك بقنبلتين نوويَّتين: الأولى مصنوعة من اليورانيوم والثانية من البلوتونيوم، وكانت الثانية اختباراً لفعاليَّتها بعدما أحدثت الأولى أهوالها ودمارها، والطامة الكبرى قبل أن تنجلي غمراتها، حيث كان لا داع لإسقاط القنبلة الثانية، فقد كان اليابان على وشك الاستسلام. أيَّاً كان من الأمر، فما زال اليابانيُّون يعانون من آثار الإشعاع النووي المدمِّرة من هذين القصفين حتى اليوم.
حين عُرض فيلم “هيروشيما.. يا حبِّي”: الكارثة داخل الرُّوح، لآلان رينيه، كتب مؤسِّس “كراسات السينما الفرنسيَّة” الناقد أندريه بازان قائلاً: “إنَّ القوَّة البرهانيَّة في هذا الفيلم تأتي من المسافة الشعوريَّة التي تفصل بين كارثة تاريخيَّة، يمكننا أن نقول عنها إنَّها كونيَّة، طالما أنَّها أحدثت انقلاباً شاملاً في مصير الشعوب، وبين تجربة إنسانيَّة ضيِّقة، تكاد تكون ريفيَّة، لكنها – مع هذا – أساسيَّة في مفعولها على جوانيَّة صاحبها.”
أما من الأخطاء الإستراتيجيَّة الجسيمة التي اقترفتها القيادة العسكريَّة الألمانيَّة إبَّان الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م)، وذلك في تعاطيها مع أعدائها، فإنَّها استهونت بالفرنسيين، واعتبرتهم “رديئين أخلاقيَّاً”، بالمعنى الحرفي لتصريح ضابط رفيع في قيادة الجيش الألماني. وقد ساد هذا المفهوم حتى حدث ما حدث من مازق كابوسي في معركة فيردون العام 1916م؛ ومن هنا برهن الفرنسيُّون بالقتال بأنَّهم رجالٌ يواجهون رجالاً، ثمَّ أنَّهم أشدَّاء أقوياء كرصفائهم الألمان. ثانياً، أخذت برلين تقلِّل من القدرات العسكريَّة الأمريكيَّة. كان القادة العسكريُّون الألمان يقرُّون بالقوَّة الاقتصاديَّة الأمريكيَّة، لكنهم رأوا أنَّ تعداد الجيش الأمريكي أقلَّ من جيش بلغاريا. وما أن أعلن الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون دخول أمريكا في الحرب، حتى أصبحت لها مليون رجل يحملون السِّلاح. ماذا يعني هذا كله؟ إذ يعني أنَّ مسألة الحرب ينبغي ألا يُترك أمرها للعسكر وحدهم لا شريك لهم من السياسيين، لأنَّ الآلة الحربيَّة وحدها قد لا تجلب النَّصر المؤزَّر؛ فهناك التخطيط الإستراتيجي، والتعبئة السياسيَّة، والعمل الديبلوماسي، وتفعيل الموارد الاقتصاديَّة وهلمجرَّاً.
للمقال خلاصة،،،
المصدر