جامعة إفريقيا العالمية: “ما ينفع الناس” الذي مكث في أرض السودان من تجربة الإسلاميين
[ad_1]
ألطف محاضرة عامة قدمتها خلال العام الماضي وأعمقها أثراً في وجداني كانت لطلاب جامعة إفريقيا العالمية حول “تجارب مكافحة الفقر في المجتمعات والدول”، وكانت المحاضرة بدعوة كريمة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي والأستاذ محمد الحبر يوسف نور الدائم والأستاذ علاء الدين عبد الماجد. وقد كانت محاضرةً تفاعليةً شارك فيها 70 طالباً تقريباً، لكنهم قادمون على أقل تقدير من 10 دول أفريقية وآسيوية مختلفة. تعلمت في تلك المحاضرة الكثير من الإخوة الطلاب ووجدتهم مليئين بالرغبة في التعلم وفي إصلاح حال مجتمعاتهم المحلية ودولهم وأمتهم الإسلامية.
خرجت من تلك المحاضرة وأنا مليء بالفخر بوجود صرح تعليمي استراتيجي شامخ مثل جامعة إفريقيا العالمية، مشروع يجسد الكثير من الروح والحضارة السودانية التي ظلت متصلة بإفريقيا والعالم العربي والإسلامي كما كانت في مملكة سنار، وكيف أن هذا التداخل الحضاري الفريد قد أفاد كثيراً أهالي السودان بتكوين طبقة تجارية متعلمة تنظم تجارتها عبر المعاملات الفقهية وتطور نفسها بانفتاحها على التعليم الشرعي والحساب واللغة العربية، ورد أهل السودان هذا المعروف فكرياً في طبيعة التراث والتصوف الفقهي الفريد الذي نشأ في السودان، كما ردوا ذلك المعروف في مساهمات حضارية إقليمية مثل رواق السنارية في الأزهر الشريف ومثل أوقاف سلاطين سنار بالمدينة المنورة ومكة وغيرها.
ومما زادني فخراً بهذه المؤسسة العريقة، أن الله كتب لي أن أزور البلد الطيب والجارة الشقيقة تشاد خلال العام الماضي، وأن أقابل عدد من أصحاب الشأن والفكر فيها، وما إن يعلم أحدهم أنني من السودان حتى ينقلب لسانه الأعجمي من الفرنسية إلى اللهجة العربية الشائعة عند أحبابنا في غرب السودان، ثم يحدثني عن أيام دراسته في جامعة إفريقيا العالمية وكيف أنه ممتن لتلك الفترة وممتن للمعرفة والتعليم الذي اكتسبه أثناء تواجده في الخرطوم وفي جامعة إفريقيا. ولا عجيب في ذلك فجامعة إفريقيا تتوزع نسبة القبول فيها على نحو يعطى الثقل الأكبر من الطلاب للأفارقة الذين يمثلون 50% من طلاب الجامعة، ثم تخصص 25% من مقاعد القبول للطلاب المسلمين من مختلف دول العالم، وأخيراً يحتل الطلاب السودانيين المتبقي من المقاعد.
ومن عجيب الأقدار أنني وبعد أيام من تلك المحاضرة، كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عما رأيته فيها وعن تجربتي في تشاد، فلفت انتباهي إلى أمر مهم وهو كيف أن جامعات الأفندية المعروفة في السودان (جامعة الخرطوم وجامعة السودان والجزيرة) قد أهملت وذهلت عن هذا الدور الحضاري. ثم قال لي، “اتخيل لو أنه جامعة الخرطوم خصصت 1% من نسبة القبول العام فيها للطلاب الأفارقة أو عملت أي سياسات للقبول تحفزهم للقدوم والدراسة في الجامعات السودانية، أو أن جامعة الخرطوم اهتمت بتعيين محاضرين ومدرسين من إفريقيا والعالم العربي. تخيل بالله حجم الوعي الإقليمي والتبادل الثقافي والعلاقات الدبلوماسية والتعاونية التي كان يمكن أن تنشأ بين السودان وبين باقي الدول الإفريقية والعربية”. تأملت وقتها كيف أن جامعات الافندية في السودان كانت (بشكل ما) تمثل تراجع عن الدور الحضاري المنفتح على إفريقيا والذي اتصفت به مؤسسات التعليم الاجتماعية في السودان، وأن هذه الجامعات لم تمثل فقط استمراراً للنمط الاستعماري في التعليم الذي كان حريصاً على أن يكون التوظيف الحكومي حكراً على الموالين له أو المناطق ذات العداء المحتمل مع المهدية مثل الخرطوم والإقليم الشمالي والإقليم الأوسط مع تهميش باقي أقاليم السودان في الغرب والجنوب، بل إنها كذلك قامت بانكفاء السودان والعملية التعليمية في السودان من الانفتاح والتداخل الحضاري مع باقي القارة الأفريقية والعربية. على سبيل المثال، يذكر البروف عبد الله علي إبراهيم كيف أن خلاوي الشيخ الفادني بشمال الجزيرة قد ظلت قبلة للطلاب العلم من الأفارقة، وكيف أن المعهد العلمي بأم درمان في العام 1910 قد كانت قبلة ومحجة لجيل آخر من طلاب العلم الديني من إفريقيا.
ومن عجيب ما سمعته مؤخراً، أن كثير من الطلاب السودانيين المتفوقين الذي هجروا التعليم في أرقى الجامعات السودانية بسبب تدهور الظروف التعليمية وكثرة الانقطاع في العملية التعليمية بسبب الصراع السياسي، استفادوا من سياسات القبول في الجامعات المصرية التي تخصم للطالب السوداني (ممن أحرزوا ما يعادل درجة القبول العام في الجامعات المصرية) 90% من الرسوم التعليم ليدرس فقط ب10% من التكلفة، فتصبح المحصلة الكلية لتكاليف التعليم للطالب المتفوق السوداني الذي يريد الدراسة في أرقى الجامعات المصرية أقل بكثير من الدراسة في الجامعات السودانية، فيهجر هؤلاء الطلاب المتفوقون بلدهم للدراسة في مصر، وتستفيد مصر أشد الفائدة الحضارية والثقافية والاقتصادية.
وقتها تسألت بحرقة، أي غربة وأي درك سحيق قد سقطت فيه المؤسسات التعليم الجامعية في السودان!
وإذا كنت عاجزاً عزيزي القارئ السوداني المعاصر من استيعاب هذا الأثر المحتمل من انفتاح الجامعات السودانية على الطلاب الأفارقة والعرب، فيمكنك أن تستحضر تجربة قريبة من هذا الانفتاح عاصرها السودانيين -ولا يزالون يعاصرونها هذه الأيام- ألا وهي تجربة دخول التجار والفنيين السوريين لسوق العمالة والخدمات في السودان. تأمل فقط عزيزي القارئ حجم التطور الذي شهده سوق العمالة والخدمات في السودان خلال السنوات العشر الماضية بدخول الإخوة السوريين فيه، وكيف أن كثير من العمال والتجار السودانيين قد تعلموا منهم، واستفاد عموم السودانيين من هذا التبادل المهاري والتجاري والثقافي الذي يحدث بالشراكة التجارية تارة، وبالتنافس التجاري تارة أخرى.
عودة على هذا المشروع الحضاري السوداني القائم، أقصد جامعة إفريقيا، فيعجبني كثيراً ثناء البروفيسور عبد الله علي إبراهيم على الجامعة وكيف أنه قدم إليها يطلب العلم (على كبره) فدَرس علوم الشريعة والحديث والفقه على أثنين من الأساتذة الصوماليين والتونسيين وذلك حتى يحسن تدريس مقرر “الإسلام والغرب” لطلاب جامعة ميسوري بأمريكا التي يحاضر فيها البروفيسور عبد الله. وكيف أنه لاحقاً قد دَرّس فيها لعام كامل، ثم ختم حديثه حولها قائلاً: “واضطرني ظرف عائلي أن أنهي تعاقدي معها. وتبقي لي موقفان من الذكريات فيها. أذكر يوم دعاني زملائي من الطلاب الإيرانيين في فصل علم الحديث إلى فطور رمضان. وفاض المجلس بولائهم لبلد نبيل يوفر لهم العلم ويغدق محسنوه عليهم فضل زادهم. أما الروتين الذي سيبقي معي منها فهو تنصتي خلال سيري في ردهاتها ل”عجمة” أفريقيا المحببة. كل لسان فيها طلق. وكلهم سيقولون عنا يوماً في بلادهم قولاً حسنا بذات “العجمة” الغراء”.
جامعة إفريقيا العالمية، هي من “الأثر الباقي” الحقيقي وهي مما “ينفع الناس” الذي مكث في أرض السودان من تجربة الإسلاميين، وهي استمرار لاهتمام أفريقي أصيل وجاد كان قائماً لدي كثير من قادة الفكر والدعوة في الحركة الإسلامية السودانية لكنه خفت وتوارى تحت قعقعة وضجيج ثلة من السياسيين الذين لا يرون أبعد من أنوفهم ومصالحهم. أهم من ذلك، فجامعة إفريقيا هي مشروع استراتيجي سوداني قومي، يحق لكل سوداني أن يفخر به، وهو مشروع يستحق مزيد من الدعم والاستثمار من كل الأحزاب السودانية والحكومات الوطنية والتيارات الفكرية والاجتماعية في السودان.
خالد عثمان الفيل
مصدر الخبر