تقرير المصير والانفصال – سودان تربيون
د. فيصل عبد الرحمن علي طه
ورد ذكـر مبــدأ تقريــر المصـير في العديــد من مواد ميثــاق هيئة الأمم المتحدة بضمنها المادة 1 (2). فقد نصت هذه المادة على أن من بين مقاصد ومبادئ الهيئة «إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها». في بادئ الأمر نشب خلاف فقهي حول تكييف مبدأ تقرير المصير: هل هو حق قانوني أم مجرد مبدأ سياسي؟ لا معنى للخوض هنا في تفاصيل هذا الخلاف. إذ استقر الآن في الفقه، وفي الممارسة، وفي قضاء محكمة الدول الدولية أن مبدأ تقرير المصير حق قانوني. فقد تواتر في قضاء هذه المحكمة أن تقرير المصير ليس حقاً قانونياً فحسب، بل هو قاعدة من قواعد القانون الدولي، وأنه من المبادئ المهمة في القانون الدولي المعاصر وله صفة النفاذ في مواجهة الكافة. ولكن مبدأ تقرير المصير لا يعمل في فراغ، بل في إطار مبادئ جوهرية في القانون الدولي. ونعني بذلك مبدأ السيادة الإقليمية ومبدأ احترام سلامة أراضي الدول.
لحق تقرير المصير وجهان أحدهما خارجي والآخر داخلي، وسنعرض فيما يلي لكل واحد منهما على حدة.
1
ينشأ حق المصير الخارجي بصفة رئيسة في حالتين. تتعلق الحالة الأولى بتحرير الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية. فمن المعلوم أن إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي صدر في 14 ديسمبر 1960 بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 (الدورة 15) قد أُسس على حق تقرير المصير. وبدأت بمقتضاه عملية تصفية الاستعمار. كفلت الفقرة الثانية من الإعلان لجميع الشعوب التي تخضع للحكم الأجنبي الحق في تقرير مصيرها، وأن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية لتحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. غير أن هذا الحق يخضع لقيود وضوابط يتعين مراعاتها. فهو يطبق في حدود النطاق الإقليمي للمستعمرة أو البلد المعني. كما أنه يعود – أي الحق – لجميع شعب الإقليم بكافة مكوناته العرقية والدينية والثقافية. إذ لا تملك أي مجموعة مهما كانت، حرية اختيار مركزها كما تشاء. فكما يكفل القانون الدولي للشعوب حق تقرير المصير، فإن من مبادئه الملزمة احترام السلامة الإقليمية للدول. وتعتبر الفقرة السادسة من الإعلان كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الاقليمية لأي بلد، متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.
2
وقد أكمل قــرار لاحــق للجمعيــة العامة هو القرار 1541 (الدورة 15) بعض جوانب القرارات 1514. فقد جاء في المبدأ السادس منه أن ممارسة حق تقرير المصير من قبل إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي قد تؤدي إلى أن يصبح الإقليم دولة مستقلة ذات سيادة، أو أن يدخل في ارتباط حر مع دولة مستقلة، أو أن يندمج معها. وجاء في المبدأ السابع أن الدخول الحر في رابطة يجب أن يكون نتيجة اختيار حر إرادي يعرب عنه سكان الإقليم المعني بوسائل ديمقراطية معروفة.
3
يرد حق تقرير المصير الخارجي على حالة ثانية ذُكرت في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 اكتوبر 1970 (القرار 2625 الدورة 25). تتعلق هذه الحالة بالشعوب التي تخضع لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله. ومن أمثلة الاحتلال العسكري التي حدثت في التاريخ المعاصر احتلال الصين للتبت في عام 1959، والاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية في عام 1967، واحتلال إندونيسيا لتيمور الشرقية في عام 1975، وغزو العراق للكويت في عام 1990.
4
وفي حالة نادرة الحدوث، فإن حق تقرير المصير الخارجي قد ينشأ باتفاق بين الدولة الأم وأحد أجزائها كحل لوضع أو مسألة معينة. وأحدث مثال لذلك هو اتفاقية السلام التي وقُعت في 9 يناير 2005 بين حكومة السودان والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. فحسبما ورد في الاتفاقية وفي دستور السودان الانتقالي، فقد اتفق الطرفان على الآتي:
– أن يكون لشعب جنوب السودان الحق في رقابة وحكم شؤون إقليمه والمشاركة بصورة عادلة في الحكومة القومية.
– أن يكون لشعب جنوب السودان الحق في تقرير مصيره عبر استفتاء لتحديد وضعه المستقبلي.
– يكون التصويت في الاستفتاء لتأكيد وحدة السودان باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام والدستور، أو اختيار الانفصال.
5
يُقصد بحق تقرير المصير الداخلي حق الشعوب في اختيار مركزها السياسي داخل دولة، أو بمعنى آخر حق المشاركة السياسية على نحو مجدٍ. وهذا الحق ثابت بمقتضى المادة المشتركة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966. فقد نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على أنه «لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي». وعن هذه المادة قالــت مفوضية التحــكيم التابعة لمؤتـمر يوغسلافيا في الرأي رقم (2)، إنها ترسي أن مبدأ حق تقرير المصير يعمل لحماية حقوق الإنسان. فبموجب هذا الحق فإن لكل فرد الحق في اختيار أي جماعة إثنية أو دينية أو لغوية يرغب في الانتماء إليها.
6
نشأ طلب الرأي رقم (2) من إعلان صرب البوسنة والهرسك الذين كانوا يشكلون 35 في المائة من السكان عند قيام جمهورية صربسكا في 9 يناير 1992. فقد سئلت مفوضية التحكيم عما إذا كان للسكان الصرب في البوسنة والهرسك وكرواتيا حق تقرير المصير. رفضت المفوضية الاعتراف للأقلية الصربية بحق تقرير مصير خارجي وبالتالي حق إنشاء دولة مستقلة. لكنها اعترفت لهم بحق تقرير مصير داخلي عندما قالت إن السكان الصرب في جمهوريتي البوسنة والهرسك وكرواتيا يستحقون كل الحقوق التي يمنحها القانون الدولي للأقليات والمجموعات الدينية. وقالت أيضاً إنه ينبغي على الجمهوريتين أن تمنحا هذه الأقليات والمجموعات الدينية كل حقوق الانسان والحريات الأساسية المعترف بها في القانون الدولي، وحيث يكون ملائماً الحق في اختيار جنسيتهم.
7
تُعتبر تجربة جنوب أفريقيا في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي ممارسة مهمة لحق تقرير المصير الداخلي. إذ أمكن بموجب ذلك تفكيك بنية نظام الفصل العنصري وإقامة حكومة موحدة وديمقراطية وغير عنصرية.
8
وللسودان أيضاً تجربة رائدة في ممارسة حق تقرير المصير الداخلي ونعني بذلك اتفاقية اديس ابابا التي وقعت بين حكومة السودان وحركة تحرير جنوب السودان في 27 فبراير 1972 لتنظيم العلاقة بين الشمال والجنوب على أساس من الإقليمية السياسية. أعطت الاتفاقية مجلس الشعب الإقليمي حقاً في تشكيل إرادة الدولة التشريعية فيما يتصل برفاهية وحقوق ومصالح المواطنين في الإقليم الجنوبي. وضُمن أحد ملاحق الاتفاقية عدداً من الحقوق والحريات التي ينبغي أن يُنص عليها في الدستور. نذكر من ذلك المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو اللغة، وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، وحق استعمال الأقليات للغاتها وتطوير ثقافتها، وحق الأجر المتساوي للعمل المتساوي وغيرها.
9
ومن الإنصاف أن نذكر أنه باستثناء مسائل محدودة أمنية ومالية، فإن اتفاقية اديس ابابا كانت تقنيناً لتوصيات لجنة الاثني عشر المنبثقة عن مؤتمر المائدة المستديرة الذي عُقد في الخرطوم في 16 مارس 1965 في أعقاب ثورة 21 اكتوبر 1964. ومما يؤسف له حقاً أن ترتيبات أديس أبابا لم تصمد طويلاً، وما كان مقرراً لها أن تفعل. فاللامركزية في شتى درجاتها وأشكالها تهدف – ضمن أمور أخرى – إلى نشر الفكر الديمقراطي على الصعيد المحلي. ولذلك لا يمكن لها أن تتعايش مع نظام سياسي معاد للفكر الديمقراطي الليبرالي.
10
لا يعترف القانون الدولي ولا الممارسة الدولية للكيانات داخل الدول بحق للانفصالسواء كان ذلك بإعلانأحادي الجانبأو بأي طريق آخر. فتقرير المصير للشعوب أو الجماعات المقيمة داخل دولة يتم عبر تقرير المصير الداخلي، وذلك بالمشاركة الفعالة في النظام السياسي لتلك الدولة. ولا جدال في أن المشاركة لن تكون فعالة إلا إذا كان هذا النظام يقوم على مبادئ الديمقراطية التعددية، وحكم القانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
11
رب سائل: ما هو تكييف الخيار الذي اتفق عليه في نيفاشا كبديل للوحدة واستُخدم لتوصيفه مصطلح انفصال؟ وفقاً للمعايير التي اقترحها جيمس كـروفورد فـإن التكيــيف السليــم لمــا اتفـق عليه في نيفاشا هو أيلولة أو انتقال Devolution وليس انفصالاً فالانفصال إجراء أحادي الجانبويتم بدون موافقة أو رضاء الدولة الأم. أما الأيلولة فهي إجراء ثنائيوتتم باتفاق الطرفين.
12
قد يرى البعض أن الفرق بين عمليتي الانفصال والأيلولة وهمي أو مصطنع لجهة النتائج العملية. في واقع الأمر، هناك فرق كبير ومهم بينهما فيما يتعلق بمسألة الاعتراف الدولي. فالجماعة الدولية تنفر من الانفصال الأحادي الجانب الذي يتم دون موافقة الدولة الأم، وتحجم عن الاعتراف به. فجمهورية أرض الصومال مثلاً قد أعلن عن قيامها أحادياً في مايو 1991 ولكن إلى يومنا هذا لم تعترف بها أي دولة ولم تنضم إلى الأمم المتحدة.
ولذلك فعندما انفصل جنوب السودان حسب الأصول المتفق عليها بمقتضى اتفاقية السلام والدستور، فإنه لم يصادف صعوبات في الحصول على اعتراف الدول، أو في الانضمام إلى الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.
المصدر