السياسة السودانية

تعقيب على المقال: الاتفاق الإطاري وخارطة أمبيكي!

 

الصادق إسماعيل

[email protected]

هذا المقال هو تعقيب على المقال الذي كتبه دكتور الواثق كمير تحت عنوان “الاتفاق الإطاري وخارطة أمبيكي” والذي أثار في خاتمته أهم سؤال، من وجهة نظري، تمّ طرحه منذ سقوط الإنقاذ وهو: “إلى متى يتم التهرب من استحقاق المؤتمر الدستوري؟”.

السُّودان: جوهر الأزمة!

بدءاً، أقول أنّ الأزمة السياسية التي استحكمت في السودان ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج طبيعي للتأجيل والتهرب من استحقاق وضع الدستور الدائم للسودان. فالبديهي أن يستقر رأي أي شعب أو شعوب، فرضت عليهم الجغرافيا السياسية أن يعيشوا في دولة واحدة، وأن يبدأوا أولاً بتفاهم حول كيف يتعايشون مع بعضهم البعض ويتقاسمون الموارد التي يمتلكونها. وهذا هو السبب الذي أوجَد الحوجة للدستور من الأساس عبر التاريخ، لأن الدستور ببساطة هو العقد الاجتماعي الذي يحدد لأي شخص أو مجموعة أو جهة داخل هذه الدولة حقوقها وواجباتها ونصيبها من الثروة والسلطة بالعدل والتساوي. ولأننا في السودان شعب أو شعوب مثل غيرنا، أثرنا هذه المسألة منذ أن تأكدنا أننا نتجه نحو الاستقلال، فكان النقاش الدائر كله حول قضايا دستورية وعلى رأسها الفدرالية كما طرحها الجنوبيون، وكما كتبها في شكل دستور كامل الأستاذ محمود محمد طه. وظلت قضايا التأسيس وعدم حسمها هي المشكلة الأكبر منذ ذاك الحين، بل وأدت الى حروب ونزاعات شملت أطول حرب أهلية في القارة الأفريقية (1983-2005).

فلماذا لم نناقش هذه القضايا ونجعلها أولوية كما تسآءل د. الواثق كمير؟ هذا سؤال لم أجد له أي إجابة مقبولة إلا إرجاعه لسوء ترتيب الأولويات الذي نمارسه كفضيلة سودانية بحتة. ولذلك، سأحاول في هذا المقال أن أثبت أن معظم القوى السياسة الرئيسية في الساحة الآن تتفق على ضرورة عقد المؤتمر الدستوري. وللحقيقة، فأن الدعوة للمؤتمر الدستوري وترتيبات الدستور الدائم للسودان هو القاسم المشترك الأعظم في كل المواثيق المطروحة منذ سقوط النميري في ١٩٨٥، وحتى آخر ميثاق أو مبادرة مطروحة في الساحة الآن، ويمكن أن أراهن بكل ما أملك أنه سيكون موجوداً في صلب أي وثيقة أو مبادرة أو اتفاق سلام مستقبلي أيضاً. والمقال لا يَهدُف فقط لتذكير هذه القوى بما أقرت به من ضرورة عقد مؤتمر دستوري، بل يدعو كل هذه القوى ومع جميع قطاعات الشعب لوضع هذا الأمر على رأس أجندة أي ترتيب في الفترة القادمة، ولو قُيِّض للتسوية الجارية الآن أن تنجح، فيجب أن يكون على رأس أولوياتها الدعوة لمؤتمر دستوري يخرج بدستور دائم يتم استفتاء السودانيين عليه.

ولكي نستعرض رأي القوى السياسة ومناداتها لعقد مؤتمر دستوري، دعونا نبدأ بالقضية الكبرى وهي قضية الحرب والسلام، ففي اتفاق عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية شمال، مع رئيس الووراء المُستقيل، د. عبد الله حمدوك، وصيغته الموسعة مع رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، الموقع عليها في أواخر مارس 2021 نجد أن الفقرة الخامسة تقول بوضوح “يعتبر ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين من ضمن عملية تطوير الوثيقة الدستورية لكي تصبح دستورا دائما بنهاية الفترة الانتقالي”. ومن نافلة القول هو أن مطالب الحركة الشعبية منذ تأسيسها كانت مطالب حقوق دستورية، ولذلك لم تخل وثيقة لها من طرح المؤتمر الدستوري والذي تملك حقوق طرحه منذ ما قبل مؤتمر كوكا دام في مارس 1986. وحتى المجموعة الأخرى التي تحمل السلاح الآن، وهي حركة تحرير السودان (عبد الواحد محمد نور) أيضاً طرحت ضرورة حوار السودانيين حول هذه القضايا لحل مشكلة السودان، ففي البيان الصادر عن عقب لقاء وفد الحركة والآلية الثلاثية في ديسمبر 2022، قالت الحركة إن الحل لقضية السودان يَكمُن في: “إجراء حوار سوداني-سوداني لمخاطبة جذور الأزمات الوطنية ووضع الأساس الصحيح للتحول المدني الديمقراطي عبر التواضع على برنامج ومشروع وطني يتوافق عليه الجميع”. وهو ما يعني النقاش في القضايا الدستورية، وما سيتمخض عنه مثل هذا الحوار سيجد موقعه في الدستور الدائم للبلاد.

*المؤتمر الدستوري: شواهد الحضور!*

ومن الجانب الآخر، فإن اتفاق السلام الوحيد الذي أبرمته حكومة الثورة يضع المؤتمر الدستوري في صلب القضايا التي يجب تحقيقها كاستحقاقات لتنفيذ الاتفاق نفسه. ولذلك أيضاً حرصت الجبهة الثورية أن تضع المؤتمر الدستورية في صلب القضايا القومية التي بدأت بها اتفاقية جوبا في المادة 1.28، وتقرأ “يكون الدستور المستقبلي الدائم للسودان نتاجاً لعملية صناعة دستور تبدأ بالمؤتمر الدستوري”.

ولو رجعنا للميثاق التأسيسي نفسه الذي قامت عليه الثورة، وانتظمت على أساسه كل القوى السياسية والمهنية والمدنية، وأعني هنا ميثاق قوى الحرية والتغيير، فقد كان المؤتمر الدستوري يُشكل حجر زاوية أساسية في ميثاقها الذي توافقت عليه، فقد ذكرت النقطة التاسعة من الميثاق بوضوح لا مواربة فيه ضرورة “إقامة مؤتمر دستوري شامل لحسم كل القضايا القومية وتكوين اللجنة القومية للدستور”.

وليس ذلك فحسب، فحتى بعد خروج الحزب الشيوعي السوداني من قوى الحرية والتغيير وتكوينه لتحالف التغيير الجذري، فقد دعا في مؤتمره الصحفي الذي دشّن به تحالفه الجديد في يوليو 2022، دعا الناس للانضمام للتحالف من أجل ‏”العمل معاً على صياغة ميثاق مستمداً من مشاريع المواثيق المطروحة من لجان المقاومة وقوى الثورة الجذرية ومطوراً لها وتضمين كل ماسبق في إعلان دستوري ينظم الفترة الانتقالية ويحدد الإجراءات والعمليات الضرورية لخلق دستور دائم”. وبالطبع فإن الإجراءات والعمليات الضرورية لخلق دستور دائم هي المؤتمر الدستوري أو ما يقوم مقامه. علماً بأن المواثيق المشار لها في إعلان قوى التحالف الجذري يأتي على رأسها الميثاق الذي أصدرته لجان المقاومة تحت مسمى (ميثاق سلطة الشعب) والذي افردت فيه فقرة كاملة في النقطة الثانية عشر عن المؤتمر الدستورية والتي اثبتها هنا رغم طولها لأهميتها في توضيح رأي الثوار في الشارع، حيث جاء فيها بالحرف: “العمل على تنظيم مناقشات ومؤتمرات قاعدية تتيح أكبر مشاركة شعبية ممكنة للسودانيين والسودانيات في وضع دستور يعبر عن كافة أطياف الشعب السوداني ويحفظ حقوقها الأساسية وصولاً للمؤتمر الدستوري الجامع لصناعة دستور يوضح طبيعة الدولة وهياكلها وطريقة إدارتها وممارسة الحكم فيها وإجازته عبر استفتاء شعبي)”.

ويمكن أن استمر الى ما لانهاية من الاقتباسات من أحاديث كل الفاعلين السياسيين الآن، ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يكتب في أي محرك بحث على شبكة الانترنت اسم أي قائد او ناشط سياسي ويضيف كلمة مؤتمر دستوري لبحثه ليتفاجأ بكمية الفيديوهات واللقاءات والبيانات التي أشار فيها هؤلاء إلى أن الحل الدائم لمشكلة السودان يكمن في التوافق على القضايا التأسيسية وأن الأداة لذلك هي المؤتمر الدستوري ولا شيء غيره.

من السرد التوثيقي أعلاه يتضح جليّاً أن مشاكلنا هي في عدم وجود قانون أعلى يحدد قوانين اللعبة السياسية في السودان، الأمر الذي حدا بكل مجموعة أن تطرح مبادرة وميثاق واتفاقيات يتم نقضها قبل أن يجف حبر توقيعها. فلماذا لا نلتقط القفاز الذي رماه لنا دكتور الواثق كمير ونبدأ على الفور في الانخراط في المؤتمر الدستوري ونضع دستورنا الدائم ونتفرغ لخلافاتنا السياسية والتي ستكون منطقية ومقبولة وفقاً للدستور المجاز من الشعب؟

المعروف أنّ الشعوب التي تتكون من كيانات متعددة تحتاج في البداية لتأسيس دستورها الدائم المتوافق عليه، والذي حتماً سيقود لتحول ديمقراطي مستدام، وهذا ما حدث في دولة قارة مثل أمريكا، والتي نذكرها هنا لأنها أول دولة كتبت دستور عبر مؤتمر دستوري. وحتى على المستوى الأفريقي نجد أن الدستور النيجيري والذي تم العمل به في مايو 1999، هو نتيجة طويلة لصراعات ومحاولات انفصال، ولكن الشاهد أنها حُسمت بواسطة دستور ثبّت التحول الديمقراطي لنيجيريا التي شهدت استقرار سياسي وتوقف للانقلابات العسكرية. والإشارة لنيجيريا هنا لأنها دولة متعددة الشعوب والإثنيات وشهدت محاولات انفصال بعد الاستقلال لا تختلف كثيراً عمّا واجهه السودان نفسه، ولكن تم إيقافها بالتوافق على دستور حقق الحد المطلوب من الاستقرار، وأصبح هو المرجع لحسم أي خلاف سياسي. والأمر نفسه ينطبق على التجربة الرواندية التي نستشهد كثيراً بتقدمها الاقتصادي والذي قام بالأساس على الدستور الذي تم عرضه للاستفتاء في ۲٦ أيار/ مايو 2003. والذي حسم واحدة من أبشع الحروب التي شهدتها القارة الافريقية بما فيها من جرائم تطهير عرقي ستظلُ عالِقةً في ذاكرتنا مدى الحياة.

خاتمة

ختاماً، نقول أنّه لا مفر من تنفيذ استحقاق المؤتمر الدستوري الآن وفي هذه اللحظة تحديداً، ودون الدخول في مسائل فنية، فإن معظم قضايا الدستور مُتفقٌ عليها. فاليوم ليس صبيحة الاستقلال، فمن أقصى اليمين الى أقصى اليسار الكل متفق على أن الفدرالية والحكم المحلي هما أساس أي دستور، وقد أغنانا دستور نيفاشا عن الحديث عن الحقوق الأساسية، فوثيقة الحقوق الموجودة في ذلك الدستور أكثر من كافية. والموضوع المُختلف عليه بشكل كبير وهو موضوع علاقة الدين بالدولة فقد تمّ الوصول فيه لصيغ توافقية يمكن الرجوع إليها في اتفاق الحلو-البرهان وفي اتفاق جوبا نفسه. وحتى الإسلاميين مع مراجعاتهم لتجربتهم تخلوا بشكل عام عن الدولة الدينية وكما رأينا فهم مصطفون بمعظم أطيافهم خلف الفدرالية والحكم المحلي ويشهد بذلك دستور 2005. فماذا تبقى من قضايا سيناقشها المؤتمر الدستوري؟ سيتفاجأ الجميع بمدى الاتفاق على قضايا الدستور الدائم، وهذا ليس تفاؤلاً ولا أملاً، بل هذه هي الحقائق، فلو نزع الجميع قناع الايدولوجية والتنافس الحزبي والرغبات الإقصائية ففي الغالب سيجدون أن المؤتمر الدستوري وجلساته هي مجرد حشد احتفالي أكثر منه خلافي. والأهم من ذلك كله أن الدستور الذي سيخرج به أهل السودان سيُعرض في استفتاء من المؤكد أن إنجازه سيكون سهل وسيجد الدعم من كل الفاعلين المحليين والاقليميين والدوليين. ولو أرادت الكيانات السياسية العودة للتنافس ومعرفة من الأحق بحكم البلاد، ومن الذي يعكس في برامجه وايدولوجيته رغبات الشعب، فسيكون من الأفضل لهم أن يتفقوا على قانون التنافس نفسه، ففي الرياضة عموماً لا يقوم التنافس بين الفرق إلا بعد الاتفاق لقانون يخضع له الجميع من أفضل فريق في العالم الى أدنى فريق، وبعده من حق الجميع أن يبذل جهده لهزيمة الآخرين.

*فقوموا إلى مؤتمركم الدستوري يرحمكم الله.*

مونتري، 31 يناير 2023


المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى