النيل الأزرق.. غياب الحكمة – سودان تريبيون
[ad_1]
النذير إبراهيم العاقب
لا لحكم إقليم في ظل وضع أليم.. ولعله أبلغ تعبير عن الوضع الأمني الراهن الذي يعيشه إقليم النيل الأزرق، جراء تجدد أحداث العنف بمحلية ود الماحي طوال الأسبوع الماضي، والتي راح ضحيتها أكثر من 190 قتيل وأكثر من 500 جريح، ولم تتوقف حتى الآن، في ظل غياب تام للحكومة واللجنة الأمنية التي يترأسها حاكم الإقليم أحمد العمدة بادي، والذي خرجت جل مدينة الدمازين يوم الخميس الماضي في مظاهرات عارمة تطالب بإقالة الحاكم فوراً وكل عضوية اللجنة الأمنية بالإقليم، وبررت ذلك بفشلهم الذريع في إدارة الأزمة وإيقاف أحداث العنف التى عمت كل محلية ود الماحي طوال الأسبوع الماضي.
وبالفعل فإن ما يجري الآن في النيل الأزرق من شأنه أن يؤدي إلى تفكك شامل في كل محليات الإقليم جراء الهشاشة الكبرى التي عمت المنطقة وتنذر بزعزعة الاستقرار وتفيت اللحمة الاجتماعية وما تبقى من تماسك إثني وقبلي وإجتماعي في النيل الأزرق الموبوء بالنزاعات والحروب طوال الأربعين عاماً الماضية، والتي توقفت فقط خلال فترة توقيع اتفاقية جوبا 2005م، ومن ثم تجددت في سبتمبر 2011م واستمرت حتى توقيع اتفاقية جوبا الثانية في أكتوبر 2020م، بيد أنها ورغم منحها للحكم الذاتي لإقليم النيل الأزرق، وايلولة حكمه لقادة الحركة الشعبية، بيد أنها لم تفلح في إيقاف الحرب والنزاعات في الإقليم، وإنما استفحل الأمر عقب انتشار مبدأ العنصرية وتفشي الكراهية بشكل مرعب في النيل الأزرق، وبالتالي أفضى إلى حرب أهلية عارمة بين القبائل الأصلية وقبيلة الهوسا، والتي تكاد تكون قد أكملت قرابة العام، وحتى الآن لم تتمكن، سواء الحكومة المركزية، أو حكومة الإقليم من البت في أمرها أو إيقافها، وإنما تزداد أحداث العنف والاقتتال يوماً وراء الآخر،الأمر الذي ينذر بالخطر ويهدد بنسف ما تبقى من هيبة الدولة السودانية وحكومة الإقليم معا، مما يستدعي التحرك العاجل من قبل الحكومتين المركزية والمحلية لحسم هذه الفوضى العارمة التي إجتاحت النيل الأزرق، وإيقافها قبل أن تقضي على الأخضر واليابس في النيل الأزرق.
والمؤسف في كل ما سبق أنه لم يصدر أي بيان إدانة من قبل كل أعضاء مجلس السيادة، أو قيادة الجيش أو الأمن العام أو الشرطة، بما فيهم الفريق مالك عقار إبن الإقليم، بما يوجه حكومة الإقليم وقيادة المنطقة العسكرية بالنيل الأزرق للتحرك العاجل وحسم تلك الفوضى الحادثة في محافظة ود الماحي، في ذات الوقت الذي أصدرت فيه الحكومة الأمريكية بياناً ضافيا يطالب فيه بإيقاف الاقتتال الدائر الآن في النيل الأزرق.
ولعل ما يثير التعجب أن لجنة الأمن بإقليم النيل الأزرق وبعد اسبوع كامل من اشتعال نيران الفتنة القبلية في ود الماحي، عقدت مساء الخميس الماضي وبعد أسبوع كامل، إجتماعاً برئاسة الفريق أحمد العمدة بادي حاكم الإقليم، وجاءت مخرجاته أكثر ركاكة وتأكيد على عدم فاعلية اللجنة وقدرتها على حسم العنف الذي أودى بحياة المئات من المواطنين سواءً بالموت ضرباً بالرصاص، أو تقطيع الجسم بالسيوف والسواطير، أو الحرق المباشر داخل منازلهم، ومثلهم من الجرحى والمفقودين.
وقد خرج الخبر الرئيس لاجتماع اللجنة الأمنية بما يفيد بترحم الحاكم والاجنة على أرواح الذين لقوا في الأحداث، مع التمنيات بعاجل الشفاء للجرحى والمصابين، والأغرب من ذلك، إدانة حكومة إقليم النيل الأزرق للأحداث، وتأكيدا على الحرص على إتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لعدم تكرار الأحداث، ومن ثم، الأعلان عن أن حكومة الإقليم ولجنة الأمن (تدعوان الإدارات الأهلية ممثلةً في المكوك والعمد والشيوخ إلى ضرورة القيام بدور إيجابي والوقوف لعمل دؤوب لإستتباب الأمن بالمحافظة)، والدعوة للعمل الجاد من أجل إيجاد المصالحات الإجتماعية.
ومن ثم وجه اجتماع اللجنة الأمنية لحكومة الإقليم الدعوة لكافة المنظمات للتدخل الفوري لإغاثة المتضررين، ووجه النداء لشعب النيل الأزرق لضبط النفس، وقال الحاكم إن حكومتة ستقوم بفرض هيبة الدولة مهما كلف من ثمن، وفند الإدعاءات التي قال إنها، يروج لها بعض الأشخاص بقيام الحاكم بتعيين أو إعتماد أو إنشاء الإدارات الأهلية، ونفى الشائعات التي تروج بإصدار الحاكم لقرار يحظر حركة التنقل من محافظة ودالماحي للمناطق الأخرى، وذكر أن حق التنقل مكفول لكافة مواطني الإقليم، وقال إن الأحداث القبلية الدامية لا تمثل قيم شعب النيل الأزرق الذي عرف بكل قيم ومعاني الإنسانية، وتناول الجهود التي ظلت تبذلها حكومة الإقليم لوقف نزيف الدماء والفتن، وأكد على وضوح وعدالة موقف حكومة الإقليم تجاه إنسان الإقليم، ووجه النداء لكافة المكوك والعمد والشيوخ والمفكرين والناشطين والسياسيين والقيادات المجتمعية وكل الحادبين والحريصين على أرض وتأريخ الإقليم، بغض النظر عن الإنتماءات الآيديولوجية والإثنية والمناطقية للعمل على وقف الأحداث وتعظيم قيم السلام.
وأكد الحاكم أن مسؤولية الإستقرار والأمن والتنمية تعد مسؤولية تشاركية، فضلاً على أهمية العمل المشترك من أجل التعايش السلمي في ربوع الإقليم، ووجه الدعوة للجميع للجلوس على طاولة المشورة والمناصحة من أجل وضع نهاية للمأساة الإنسانية بسبب الأحداث، وأكد إلتزام حكومة الإقليم بتكوين لجنة تحقيق للقبض على المتورطين في الأحداث، بجانب العمل على فرض هيبة الدولة، وقال أن إقليم النيل الأزرق يسع الجميع في ظل الحكم الذاتي ، ودعا شعب الإقليم عامة ورجالات الدين على وجه الخصوص لمحاربة القبلية والتمييز ونبذ الإنتماءات الضيقة والتوجه نحو بناء مستقبل الإقليم.
وفي ذات السياق أعرب اللواء شرطة حقوقي محمد صلاح الدين محمد فرح مدير الشرطة الموحدة مقرر لجنة الأمن أكد أن عن أسف لجنة الأمن بالإقليم وإدانتها للأحداث القبيلة التي وصفها بالمؤسفة، وناشد الادارات الأهلية والمواطنين لمساعدة القوات النظامية حتى تتمكن من القيام بواجباتها في تحقيق الإستقرار والأمن وتطبيق القانون، وأعلن أن القوات النظامية سوف تقوم بواجباتها في سبيل حماية الأرواح والممتلكات وحفظ الأمن والنظام بإستخدام القوة الضرورية دون تردد.
ذاك ما خرج به إجتماع اللجنة الأمنية لحكومة النيل الأزرق، والذي جاء باهتا جداً ولم يشف غليل ولم يحسم أمر ولم يشر البتة بأي حال من الأحوال لاتخاذ قرار حازم وحاسم يوقف القتال الدائر حتى الآن في محافظة ود الماحي، ووجه الغرابة في ما جاء في حديث الحاكم يتمثل في دعوته للإدارة الأهلية، وبالحرف (ندعو الإدارات الأهلية ممثلةً في المكوك والعمد والشيوخ إلى ضرورة القيام بدور إيجابي والوقوف لعمل دؤوب لإستتباب الأمن بالمحافظة)، والشاهد أن كل رجالات الإدارة الأهلية في النيل الأزرق ظلوا في حالة استنفار شامل منذ بداية الأحداث قبل عدة أشهر، ولم يتوقفوا يوماً واحداً في القيام بدورهم في تهدئة الأوضاع والنفوس وجمع الفئات المتقاتلة، سواء كان بالجمع، أو كل على حدة،وذلك من منطلق دورها الاجتماعي الكبير في رتق النسيج الاجتماعي والوطني وقدرتها على الإقناع وحسم التفلتات والخلافات التي تنشب وسط المكونات القبلية والإثنية في كل السودان.
ولكن ما يثير التساؤل هنا، أين دور الأجهزة الأمنية في الإقليم، وماهي الخطوات التي إتخذتها لجهة إيقاف الاقتتال الناشب بمحافظة ود الماحي؟!.. ولماذا التأخير المريب بدل الشروع الفوري في وضع حد لما يحدث من إنهيار أمني مرعب بمناطق متفرقة من محافظة ود الماحي، ولماذا لم يتم تدخل حازم وحاسم طوال الأسبوع الماضي لإيقاف الانفلات الأمني هناك في حده؟!.. كلها أسئلة ملحة من قبل مواطني إقليم النيل الأزرق، وموجهة لحكومة الإقليم واللجنة الأمنية، ولا أعتقد أنها ستجيب عليها بالتأكيد.
ما حدث أعلاه أفضى بمواطني عاصمة الإقليم، الدمازين، بالخروج في مظاهرات عارمة منذ صباح الخميس والجمعة الماضيين وتحمل لافتات تطالب بإسقاط حكومة الإقليم وإقالة الحاكم دون إبطاء، ومرد ذلك للفشل الذريع في كبت الفتنة الحادثة الآن في النيل الأزرق، ناهيك عن عدم إحداث أي إنجاز يذكر في كل مجالات التنمية المنوط بالحكومات إنجازها لصالح تحقيق رفاهية الشعب ونفاذ البرامج التي من شأنها إخراج الإقليم من وهدته الاقتصادية والاجتماعية العارمة التي ظل يعانيها طوال الثلاثين عاماً الماضية.
ولعل أبلغ لافتة حملت في تظاهرات الخميس الماضي، جاء فحواها معبراً تماماً عن الواقع المعاش في النيل الأزرق الآن، وكان يحملها طفل في الرابعة عشرة من عمره، ويقول فحواها (لا لحكم إقليم في وضع أليم)، ولا أظن أن هناك تعليق أكثر تعبير عن ما يحدث في النيل الأزرق أكثر من هذا.. وكفى.
المصدر