النقانق السياسية: من يصنعها ومن يأكلها؟
ينسب إلى بسمارك- المستشار الألماني الشهير- قولٌ بأن صناعة القوانين تشبه “صناعة النقانق- sausage making”، وإنه من الأفضل دائماً ألا تنظر إليها وهي في تلك الحالة. والنقانق في اللهجات العربية هي “السجوك” (بالكاف أو القاف أحياناً). وهو نوع من اللحم المفروم تُضاف إليه البهارات والملح، ثم يُضغط طولياً داخل غلاف أسطواني من امعاء الحيوانات (الأغنام مثلاً)، ثم يقدم للجمهور المستهلك ليلتهمه دون إدراك كاف لمحتوياته. ولأن كل هذه عملياتٌ ومناظرٌ وروائحٌ غير مريحة للنفس، فهي عادة ما تُجرى في أركان قصية بحيث لا يراها الزبائن المستهلكون.
قلت في نفسي: إن الشبه الذي رآه بسمارك بين صناعة النقانق وصناعة القوانين يوجد مثله في صناعة السياسة، خاصة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. ثم رأيت-على سبيل الدعابة والاسترواح- أن أتأمل أولا في الخطوات التي عادة ما تُتبع في صناعة النقانق.
• اختيار اللحم المناسب (أي الأصدقاء والحلفاء وأصحاب المصالح والسوابق)،
• تجنب العظام التي تعيق عملية الفرم (أي الأعداء والممانعين والمخربين (spoilers)،
• وضع مقادير مناسبة من الملح والتوابل، (بعض من قادة المنظمات الحقوقية والمرأة والمجتمع المدني)
• توفير الأمعاء الدقيقة (مبعوثو الأمم المتحدة، ولجان الوساطة الرباعية أو الثلاثية، وكالات الأنباء، ورؤساء الدول)
• إيجاد آلية مناسبة لضغط اللحم المفروم وصبه بعناية في الأمعاء. (الدول المانحة وهيئات الأمم المتحدة، والصناديق الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وإسرائيل)
ثم رأيت-ثانياً- أن أنظر في سير بعض الفاعلين الكبار الذين يقومون على هذه الصناعة.
أخذت-على سبيل المثال- حالة السيد وليم بيرنز (William Burns,1956-) مدير وكالة المخابرات الأمريكية. حينما تنظر في سيرته العلمية والمهنية ستجد أنه يتحدث العربية (إلى جانب الروسية والفرنسية). وستلاحظ أن أكبر الدول العربية-مصر- هي مكان اهتمام قديم لديه؛ فهو حينما تقدم للحصول على دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أكسفورد كانت رسالته عن: “العون الاقتصادي، والسياسة الأمريكية نحو مصر في الفترة من 1955 إلى 1981”.
أما من حيث الخبرات فهو قد عمل بالسلك الدبلوماسي نحواً من ثلاثة عقود. وهو من قاد المحادثات السرية مع إيران حتى أفضت أخيراً إلى الاتفاق النووي. وعادة ما يوصف بأنه يمثل السلاح السري الذي توجهه الدبلوماسية الأمريكية لمجابهة التحديات الخارجية الشائكة. وحينما نشر مذكراته اختار أن يجعلها تحت عنوان: “دبلوماسية القناة الخلفية”. (أي النقانق السياسية، فتأمل!).
وحينما عاد ليكون- في الإدارة الأمريكية الحالية- رئيساً لوكالة المخابرات، أكد بوضوح أن التنافس مع الصين سيكون هو المهمة الأساسية للإدارة الأمريكية لعقود قادمة؛ وأن المناورة في المنطقة الرمادية بين السلم والحرب (أي صناعة النقانق) ستكون هي السمة الغالبة لسياسته؛ وأن هذه صناعة تتشكل بسرعة فائقة في الفضاء العالمي؛ وأن أحسن استراتيجية هي أن تسرع الخطى في تشكيلها قبل أن يشكلها الآخرون.
وللتأكد من تطبيقات استراتيجيته هذه في منطقتنا، دعنا ننظر في جدول أعماله خلال أسبوعين فقط: قام في 12 يناير 2023 بدعوة المدير العام لجهاز المخابرات السوداني- فريق أول أحمد إبراهيم على مفضل- لزيارته في الولايات المتحدة. وهذه أول زيارة رسمية لمسئول سوداني منذ سقوط حكومة الرئيس البشير. ومن المعلوم أن السودان يشهد فراغاً سياسياً متطاولاً، ومن الراجح أن الصين أو روسيا ستتمدد في هذا “الفراغ”. وهذا التمدد الصيني-الروسي يقلق السيد وليم بيرنز، ولذلك فهو يريد أن يُفهم نظيره السوداني أنه لم يدعه إلى الولايات المتحدة ليقنعه بضرورة الانتقال إلى الديموقراطية، وإنما لإخطاره بأن الولايات المتحدة لا تسمح بوجود صيني-روسي في الحدود السودانية، وأنها ربما ستعمل قريباً على نقل قوات الآفروكوم إلى السودان، وأن على جهاز المخابرات السوداني أن يقوم مع الشركاء الإقليميين (الثلاثة المعلومين لديه) بعمليات الفرز اللازمة استعداداً لمطلوبات المرحلة القادمة.
ويبدو أن السيد بيرنز لم يجد عند مدير المخابرات السوداني ما يجعله مطمئناً، فقام بعد يوم واحد (13 يناير 2023) بزيارة خاطفة إلى ليبيا هي الأولى من نوعها، حيث التقى برئيس حكومة الوحدة الوطنية-عبد الحميد الدبيبة- ووزيرة الخارجية-نجلاء المنقوش- ومدير المخابرات-حسين العائب. (ولعلك تذكر أن هذا الأخير كان عقيداً في الجيش الليبي إبان حكم القذافي، ويقال إنه قد عمل مع عبد الله السنوسي-رئيس جهاز المخابرات في ذلك العهد- ولكنه انشق ليتعاون مع قوات الناتو، ويقال إن علاقته بالجنرال المنشق حفتر لم تزل قائمة).
ولهذا فكان لابد أن يلتقي السيد بيرنز بالجنرال المنشق-خليفة حفتر- قائد ما يسمى بالجيش الوطني الليبي، واخطاره بلا أدنى مواربة أن الولايات المتحدة لا تسمح بوجود روسي في ليبيا (عبر فانغر أو غيرها)، كما لا تسمح بأي فعل يؤثر على الاستقرار في ليبيا-خاصة على امدادات الطاقة الى السوق العالمية.
ولابد أن السيد بيرنز قد أدرك-من خلال لقاءاته مع المسئولين الليبيين- أن مفتاح الملف الليبي يوجد خارج ليبيا، فقام في الأسبوع التالي (23 يناير 2023) 3 بزيارة سريعة الى مصر، حيث استقبله الرئيس المصري-عبد الفتاح السيسي- بحضور رئيس المخابرات المصري-عباس كامل. والسيد عباس كامل (1957-) هو مدير المخابرات المصري منذ عام 2018، وكان من قبل مديراً لمكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي. تخرج في الأكاديمية العسكرية المصرية عام 1978، وتلقى دراسات عسكرية متقدمة في الولايات المتحدة، كما تلقى دراسات استراتيجية في مركز جنيف للسياسات الأمنية. (ويبدو أن هذا المركز له خبرة طويلة في صناعة النقانق، وقد تدرب فيه الكثيرون-فليراجع)
لابد أن يكون الحديث قد جرى عن صناعة النقانق المتعلقة بسد النهضة، وبالأوضاع في السودان، ولكن المسألة الأساسية مدار الزيارة كانت حول الوجود الروسي في ليبيا والسودان (من خلال فانغر). فوجه السيد مدير المخابرات المصرية –ربما للمرة الثانية- أن يعمل مع رصفائه في ليبيا والسودان على إنهاء الوجود الروسي في المنطقة. وهذا سيعنى بصورة أو بأخرى أن قوات العقيد حفتر في شرق ليبيا، وقوات الفريق حميدتي- خاصة في المناطق الحدودية على تشاد وأفريقيا الوسطى- ستكون هي العظام الضارة التي يجب فصلها عن اللحوم الحمراء، إذ بدون عملية الفرز هذه لن تكتمل أصناف النقانق التي يمكن أن تقدم لجمهور المستهلكين في المنطقة.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن السيد عباس كامل قد قام بزيارة الى السودان قبل أسبوعين فقط (4 يناير 2023) حيث التقى برئيس المجلس العسكر-عبد الفتاح البرهان- كما التقى بنائبه محمد حمدان دقلو وبمدير المخابرات السوداني-الفريق أول أحمد إبراهيم على مفضل). ويقال إنه قد قدم لهم نصيحتين: تتعلق النصيحة الأولى بالانسحاب من الحدود الليبية-التشادية (حسب الطلب الأمريكي المتكرر)، وتتعلق النصيحة الثانية بعدم الانسحاب من المشهد السياسي بشكل كامل لأن ذلك-بحسب الرؤية المصرية- سيدخل السودان في أزمات أكثر عمقاً.
وكل هذا يسير حسب الخطة، ولكن ماذا سيفعل السيد بيرنز بأثيوبيا وتركيا؟ هل يأمر بوضعهما في صندوق العظام الضارة أم في صندوق اللحوم الحمراء؟ وأين المخابرات التركية والاثيوبية؟ وهل من الممكن أن تصنع كل هذه النقانق بعيداً عنهما؟ واهمٌ من يظن ذلك، لقد كان مدير جهاز المخابرات الأثيوبي-تمسغن تيرونه- في السودان قبل زيارة المسئول الأمريكي بشهور (22 نوفمبر 2022)، حيث التقى بنائب رئيس المجلس العسكر حميدتى وبقية المسئولين ورتب معهم بعض الأوراق. أما وزير المخابرات التركية-هاكان فيدان (حقان فيدان) فلم يغب على المشهد (وهو ذو تخصص وخبرة في مجال التدخل السريع)، فقد زار السودان في 17 يناير 2023) ليؤكد للآخرين أن لتركيا قدماً في ليبيا (وربما في السودان) ولن تتزحزح. أما مخابرات الشقيقتين-السعودية والامارات-فلا تسألني عنهما!
وهكذا ستلاحظ- حينما تجرى المطابقة مع الواقع- أن من يشرف على صناعة النقانق السياسية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة ليسوا هم بالضرورة رؤساء دول، أو سفراء أو وزراء خارجية أو رؤساء أحزاب، أو قادة مؤسسات عسكرية، أو قادة مجتمع مدني. هذه الفئات ما هي إلا “بهارات” توضع على اللحم المفروم من أجل النكهة. أما الصناع الحقيقيون للنقانق السياسية فهم في الواقع قادة الأجهزة الاستخبارية في الدول الكبرى. فهم الذين يقومون بعمليات الفرز والفرم والشحن؛ فيختارون اللحم الأحمر المناسب، ويفرزون العظام والغضاريف التي يجب استبعادها (كأن توضع في قائمة الإرهاب، أو تجمد حساباتها)، ويختارون التوابل، ويحددون الأمعاء الدقيقة التي يوضع فيها اللحم المفروم، ثم يقومون بإدخاله-بمهنية عالية- في تلك الأمعاء الدقيقة الشفافة. يفعلون كل ذلك وهم جالسون في أركان قصية بعيدة عن الأنظار، يستمتعون برؤية الجمهور وهو يتلذذ بأكل النقانق! ولا قوة إلا بالله.
التجاني عبد القادر حامد
9 فبراير 2023
مصدر الخبر