المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (6) – النيلين
من الأبجديات في الدبلوماسية أن: الدبلوماسي هو ممثل الحكومة القائمة representative of the government of the day، يقول ما تقول، يشرح سياساتها، ويدافع عنها. ويحمل السفير أوراق اعتماد من رئيسه تقول: إنه يمثله ويقول ما يقول.
وترتيباً عليه، فليس من حقه أن يجهر بما يخالف سياسة دولته ورئيسه، كونه بوق الحكومة ولسان حالها mouthpiece of government.
فإن وجد أن سياسة حكومة بلده لا تناسبه أو أنه يعترض عليها فمن حقه أن يكتب سِرّاً لأعلى قيادي في وزارة خارجيته مُعرباً عن اعتقاده أن تلك السياسة خاطئة أو ضارة بمصالح البلد.. ويرسل هذا الاعتراض بما يسمى قناة الاعتراض Decent Chanel، ويبقى هذا سِراً.
فإن أعتقد بعدم جدوى هذا الاعتراض وأنه غير كافٍ، وأنه يفضل الجهر باعتراضه فليس أمامه إلّا الاستقالة. فليس بإمكانه البقاء في منصبه والجهر باعتراضه على الحكومة، أو أن يقول هذا موقف حكومتي لكنني أرى ما يخالفه!!! وكل تصرف فيه تصريح بخلاف ما تراه حكومته يعتبر من عدم الأمانة والمِهنية ويناقض طبيعة المِهنة.
وهذا ما عليه عمل الدبلوماسية في بلاد العالم كافة.
وللكلام في الدبلوماسية قواعد وأصول، في جوهرها التهذيب وتنميق الحديث وحسن التخلّص. وفي المواقف الصعبة تبقى القاعدة أن يكون الدبلوماسي حازماً في تهذيب Firm and Polite.
وللحقيقة فإن الطبيعة البشرية قد تغلب على الدبلوماسي فينفعل انفعالاً يتجاوز به تلك القاعدة.
وقد شاهدت في جلسات مكتب الأمم المتحدة بجنيف (وهذا هو مطبخ المنظمة الكبير) سفراء يصرخون ويضربون الطاولات بقبضات أيديهم.
وحتى هذا التجاوز قد يفيد أحياناً مع من لا يفهم الحديث المهذب.
ليس في وسع الدبلوماسي أن يصف شخصاً بالكذب.
ويستبدل الدبلوماسيين تلك الكلمة بوصفه بأنه “يقتصد في قول الحقيقة” skimps on telling the truth .
وبعبارة أخرى: economizes on telling the truth. أو “يُجانب الحقيقة”.
وفي بعض المواقف يصفه بأنه: “يكيل بمكيالين”.
وفي مواقف أخرى يقول: إنه “يغير قواعد اللعبة”. أو يحرك أعمدة المرمي كل مرة moving goal posts .
ويمكن في الموقف المناسب استعارة لغة الشركات في المطالبة بوضع عادل لكل الأطراف a level playing field. أو شيئ من هذا..وفقاً للحالة والموقف .
وعلى ذكر الكذب، فإن هذا يذكرني بالدبلوماسي الأول وأستاذ التهذيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حين يصعد المنبر ليقول للناس:
“ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا”، ولا يُسمي المخطئ باسمه، ولكن ذلك كان كافياً للزجر، مثلما كان كافياً للهداية والرشاد.
وكانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نِعمَ المعلِّمُ والمربِّي لأمَّتِه، فقد كانَ يَحرِصُ على مشاعرِ الناسِ، ويحفظُ ماءَ وجهِهم حتَّى وإن أخطأوا، وكانَ يَستخدِمُ التعرِيضَ دونَ التَّصريحِ إذا علِمَ بأمرٍ لا يَليقُ بأحدٍ من الناسِ، ثم يَنهى أو يأمرُ بالواجبِ، فيتعلَّم الجميعُ ولا يتأذَّى المسيءُ ولا يُفضحُ.
ويلتزم الرؤساء في الغالب بقواعد التهذيب الدبلوماسي، خاصة في لقاء رصفائهم وفي الملتقيات الدولية، نظراً لأن الدبلوماسيين هم من يكتبون خطاباتهم، أو يكتبون نقاط الحديث talking points. ولكنهم يتجاوزونها في بعض الأحيان.
وقد تكون تجاوزاتهم فاحشة، كالذي قام به رئيس البرازيل الذي قارن بين جمال زوجته وافتقار زوجة ماكرون للجمال. وذلك حين انتقد ماكرون جهود البرازيل في مكافحة نيران غابات الأمازون.
ويهتم العالم بغابات الأمازون بوصفها رئة العالم.
وزاد الطين بله وزيره للسياحة الذي وصف السيدة ماكرون بأنها “بالفعل قبيحة” Truely Ugly.
أما الذي أسرف في هجاء تلك المرأة فهو ذلك المسؤول البرازيلي الذي قال:
“كون ماكرون ينام في فراش واحد مع تنين فهذا لا يجعله خبيراً في إطفاء الحرائق”
“The fact that he is sleeping with the dragon does not make him a fire expert. ”
واشتُهِر الرئيس الراحل موقابي بسُخريته اللاذعة عن الأوروبيين والإنجليز والرجل الأبيض، وأبان قدرات هائلة ومواهب في السخرية.
وحتى عن النساء، اشتُهرت له مقالات لاذعة عن القبح والجمال مثل قوله:
“إذا كنتِ قبيحة، فأنت قبيحة.. دعينا من الحديث عن الجمال الداخلي؛ لأن الرجال لا يتحركون حاملين أجهزة أشعة أكس ليروا الجمال الداخلي”
”If you are ugly, you are ugly. Stop talking about inner beauty because men don’t walk around with X-rays to see inner beauty.”
وكان ونستون تشرتشل متجاوزاً في سخريته.. فقد قالت له سيدة مرةً:
“لو كنت زوجتك لكنت وضعت لك السم في القهوة”. فرد عليها:
” لو كنتِ زوجتي لشربته”!!!
ومن اللّا معقول في سخرية روبرت موقابي في العلاقات الدولية قوله – في تجاوز بَشِع – عن الرئيس ترومب:
“إذا أعطيت سانحةً للسفر عبر الزمن، فسأعود لعام 1946, لأجد والد دونالد ترومب وأعطيه واقي ذكري”!!!
If I am given chance to travel through time, I will go back to 1946 and find Donald Trump’s father and give him a condom.”
وقد عُرِف السفراء الإسرائيليون بالوقاحة إزاء رصفائهم العرب ومع المسؤولين العرب، يتعمدون السلام عليهم في المجامع الدبلوماسية لإحراجهم. فعلوا هذا مع الصادق المهدي، وفعلها السفير الإسرائيلي مع السفير أحمد سليمان المحامي (وكلمة المحامي اقترنت باسمه) بواشنطن. وقال كلاهما أنهما فوجئا، أو هكذا علّلا مصافحتهما للإسرائيلي.
كنت أنوب عن السفير في حفل استقبال لعله كان للاتحاد الأوروبي، في نيروبي.. وكنت أتبادل الحديث مع عمنا الراحل جرموقي أوجينقا أودينقا (والد السياسي الحالي أودينقا) زعيم المعارضة في عهد موي. فاقتحمنا السفير الإسرائيلي قائلاً لجرموقي:
“هذا ابن عمّي”، مشيراً إليّ، على اعتبار أنني عربي.
لم التفت إليه، ولكنني قلت لجرموقي: هل رأيت عربياً أسوداً؟
فقال: لا.. لا.. ليس هناك عربي أسود.
وواصل السفير الإسرائيلي وقاحته وقال: then he is my nephew، “إذن هو ابن أخي”.
والغربيون لا يستحبون القُبَل في السلام بين الرجال (فقط الرجال) كما يفعل العرب. وكان المرحوم أبو عمار معروفاً بها.. وفي التوقيع على اتفاقية أوسلو للسلام في البيت الأبيض (13 سبتمبر 1993) لوحظ أن إسحق رابين يسلم على عرفات بيد ممدودة مشدودة. ولما أُبْدِيَت له هذه الملاحظة قال:
“كنت خائفاً من موضوع القُبلات”
“I was afraid from the kissing business .” وهل إسرائيل إلّا دولة غربية !!!
مما يجدر ذكره أن الدبلوماسي لا يمثل السياسات حصراً، فهو يمثل ثقافة أمته ويحرص عليها، فهي هويته. وسنأتي لبعض تفصيل في هذا المنحى لاحِقاً.
📍السفير عبد الله الأزرق
مصدر الخبر