المساليت: أمضى سلاح للتحرير هو شطب مفردة الشريط النيلي والجلابة من قاموس الكلام
” الشريط النيلي ” ، ” الجلابة ” ، ” دولة 56 ” ، مفردات نحتتها مخيلة بعض النخب السودانية من دعاة الشقاق ، من إتجاه الغرب الكبير – كردفان ودارفور – إجتهدوا ولا يزالون يجهدون الأنفس بتصوراتهم الوهمية لتحويل تلك المفردات إلى فلسفة واقعية ذات قواعد يسهل الإقتناع بها ، وترويجها خاصة في دارفور التي تم تقسيمها أصلا حسب المصالح القبلية ، والإثنية وأهواء صفوتها .
ومفهوم تلك المفردات بتعبيراتها المتعددة نفسها في تقديري هي تعد عملية من عمليات الإنتحال ، أو إرتحال من إرتحالات المفاهيم التي إرتحلت إلى غرب السودان ، من تنصيصات أدبيات الخطاب السياسي في جنوب السودان إبان بروز أزمتها ، عقب سنوات إستقلال السودان مباشرة من حكم الإنجليز ، وأصبحت تلك المصطلحات هي الخناجر المسمومة التى غرسها النخب في جسد البلد وأوغروا بها صدور العامة من الناس وفتح الجروح المسببة لجميع الكبوات والمحن اللازمة في مسارات حركة تاريخ سودان بعد الإستقلال .
وطبع رجال السياسة عندنا ” نحت ” مفردة أو تعبير ما ، أو تشكيله لوسم كل عهد من العهود السياسية بصفة من الصفات الخاصة .
على هذا الأساس إبتدع بعض النخب ” نحت ” مفردات ” الجلابة ” و ” الشريط النيلي ” و” دولة ستة وخمسين ” بوصفها مصطلحات تبرهن واقعا سياسيا واجتماعيا ونفسيا ، لمرحلة من مراحل التعبير السياسي عن الذات .
إلا أن مفاهيم محتوى تلك المصطلحات قد تخطت دائرة السياسية في دارفور فأصبحت لا تقتصر على مدلولها السياسي المناطقي الجهوي وحده ، بل تعدتها إلى المدلول الثقافي أيضا ، ومن هنا إلتمع في الخطاب السياسي أزمة الإنتماء الوطني ، القومي ، وكيفية التعبير عن خصوصية الشخصية الثقافية والعيش المشترك في الوطن الواحد .
المتأمل الناقد لمفاهيم ومدلولات تلك المصطلحات لا يستنتج في سياقها إلا ظاهرة إمتداد التصحر إلى السياسة والفكر لدى أغلب المشتغلين بالممارسة السياسية ، منذ مرحلة طلائع المتعلمين وأزماتهم النفسية والوجدانية ، التي إستبطنها الجيل الجديد ، ليصبح هو نفسه رافدا من روافد تطور الأزمة وتضخم قوامه الكلي واعتلاله ، بوصفه الجيل الذي ولد مشوها وسط لعبة إستسهال الخطابات وتمييع الفكر ، وإستصعاب عملية قدح زناد العقل ، فتولدت النزاعات المسلحة والحروب بكل ملابساتها ، فأورثنا ذلك جيلا كسيحا ، لا يقوى على المشي إلا مستندا على عكاز الغبن والكراهية والنزوع إلى الإنتقام في كل ممارسة من ممارسات حياته . ولا يعرف للعقل سبيلا أو مدخلا .
وهل نستطيع ، بتواتر أجيالنا ، أن نتنصل من أدوارنا التي قادت إلى هذا التمزق والتصدع والحريق الذي نعيشه في هذه المرحلة من تاريخ السودان ؟
ليس نرغب في مقالنا هذا – بالطبع – أن نسترجع ملابسات البيئة الكلية الشاملة التي أنتجت المرحلة ، تجنبا للدخول في نقاش ، قد لا يغير شيئا من قناعات آخرين ، تكلسوا في مواقفهم عند حدود رسموها مسبقا ، ولا يبدون أي رغبة في تطوير الأفكار من خلال النقد الذاتي الحصيف ، أو إعادة النظر في بعض الرؤى التي أدت بهم إلى التقوقع داخل تلك الأفكار أو تلك المفاهيم ، المرتحلة إلينا من جهة أخرى لها ثقافتها الخاصة . ومن ثم تم نحلها وتنصيصها تنصياصا غير متسق
والخطاب الدارفوري في عملية إتباع ودون أي جهد إبداعي تم ترحيل تلك التعبيرات والمفرادات بفظاظة دلالتها وعنفها ، الداعية للشقاق والتفرق رفضا للوفاق وهدم قيم التضامن والإحترام بين المجتمعات السودانية .
فبدلا من مواجهة مشكلات مجتمعاتنا الدارفورية المتصدعة أصلا ، المتعالية إثنيا على بعضها البعض ، والنضال لقهر سلطة الجهل الذي يتمدد في أنسجتها والتوجه بصدق ، وسماحة لتصالح مع النفس بإلتماس متطلبات الإصلاح الإجتماعي بوصفه بوابة الدخول إلى مدائن التنمية .
جعلنا من تلك المصطلحات بمفاهيمها الفظة ، الناتجة من ضعف المخيال وضمور الفكر ، إلى أدوات غليظة للإنقسام وتأجيج النعرات ، لا الجهوية والمناطقية فحسب ، بل إنبعث كل المكبوت النفسي العنصري كحمم بركانية إشعلت النيران عقودا من الزمان في أرض دارفور ، وإفترع باسمها مفهوم ” الهامش والمهمشين ” تلك الصيغة التي توافقت عليها الحركات المسلحة إبان تأسيسها للمواجة المسلحة في حربها لحكومة الإنقاذ .
بيد أنه سرعان ما تكشف معنى ” الهامش والمهمشين ” وزيفه بعد سقوط حكومة الإنقاذ وتوقيع إتفاق سلام جوبا مباشرة ، إذ ، أنها لم تكن سوى خطابات وشعارات سياسية مرتوقة لا تعبر إلا عن خديعة الأقوال والحقد القبائلي وثقافة التضليل والثأر وشبهة المقاصد والأهداف .
وشاهدنا في ذلك الحركات المسلحة نفسها ، التي نقلت إلينا تلك المفاهيم والتعبيرات وصاغتها في بياناتها ، وجرت بها ألسن المناضلين والثوار من أجل حقوق الهامش والمهمشين .
إلا أن الخيبة كانت كبيرة عند أهل الدار ، ففي الوقت الذي تقلد فيه قادة الحركات المسلحة زمام الأمور وجلسوا على سنام السلطة والسيادة في السودان ، تنكروا لإهلهم ، في وقت شدتهم وأحزانهم ، سقطوا في إمتحان الإنتماء .
إذ ، وقفت الحركات المسلحة في طريق ” الرماد الذي كال حماد ” رافعين شعارة الحياد ، متجنبين مناصرة القوات المسلحة السودانية وهي تقاتل المتمردين من ملشيات الجنجويد الذين حولوا الخرطوم إلى خراب .
ثم امتدت غذارة أيادي المتمردين إلى دارفور كلها شمالا وجنوبا حتى جعلوا من ديار وأرض المساليت في أقصى غرب دارفور مذبحا ، ومسلخا بشريا للقتل والسحل بتراتبية عنصر اللون والعرق والدم ، ، بكل الصلف المصفح بالعنف والسادية والتشفي . ففي هذا الوقت الحرج من عمر البلاد وقف أولئك في الحياد .
ومن عجائب كهنة الحركات المسلحة وأصل الحروب في السودان ، والذين وقفوا محايدين في معركة الكرامة السودانية .
هم بذواتهم وصفاتهم ، الذين قاتلوا مع جيش جنوب السودان وسلطة الرئيس سلفاكير ضد المتمرد الدكتور رياك مشار وملشياته .. قاتلت الحركات المسلحة مع الطرف الحكومي ، جنبا إلى جنب مع جيش دولة جنوب السودان ، ضد المتمردين من أبناء الجنوب .
وكذلك قاتلت الحركات المسلحة في ليبيا – خاصة جيش حركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي – مع قوات خليفة حفتر ، ضد الوفاق .
كما قاتلت حركة العدل والمساواة السودانية وحدها مع الرئيس التشادي ” إدريس دبي ” ضد الجماعات المسلحة المعارضة لحكومته والذين طوقوا وقتها القصر الرئاسي . حتى أعلن رئيس حركة العدل والمساواة السودانية أن جيش حركته هي التي أنقذت الرئيس إدريس دبي من السقوط عام 2008م في انجمينا .
فمصطلح الحياد يبدو أنه لم يولد بعد في ذلك الأوان ولم يعرف في أوطان الآخرين وشعوبهم .
ما نشهده اليوم من حالات استقطاب وتبادل أدوار للحركات المسلحة ليس إلا شاهدا على مراميهم الكاذبة ، وخواء المصطلحات التي شققوا بها مجتمعاتنا ، وإنشقت كل حركة على نفسها مرتين أو ثلاث مرات .
ولعل من فوائد هذه المحن والبلايا هو إنكشاف حقائق الأشياء عن سترها ، وذلك المعنى إستنتجه أغلب الشباب من أبنائنا الشباب الآن في دار مساليت ، ممن توسعت مداركهم ، فأصبحوا أكثر وعيا وانفتاحا من ذي قبل بعد أن عركتهم التجربة وانضجتهم البلايا .
إن ” العطايا في البلايا ” ذلك ما قلته في حوار مثمر في دائرة من دوائر شبابنا المستنيرين في محاولة لإستنبات أقوال وأفكار جديدة تكشف وتفحص حالة خاصة بكيان إجتماعي له شخصيته الثقافية المائزة في تاريخ السودان ، وتشكيل هوية إنسانه . لا ينبغي أن يجر هكذا وراء سراب خادع من المفردات والتعبيرات ذات المفاهيم الفارغة المحتوى غير إصيلة في تربة أرضنا وثقاتنا المتسامحة مع الناس جميعا ..
وقلت كونوا يا شبابنا مع السودان وطنكم وقواته المسلحة ، متسقين قولا وفعلا مع كل الأجهزة العسكرية والأمنية والمؤسسات المدنية الوطنية في عرض البلاد وطولها ، مادمت تؤمن به أرضا وشعبا وهوية .
ما يستدعي هذا الوقوف هو إكتشاف حقيقة واقعنا نحن الآن ، حقيقة الأزمة الكيانية التي نمر بها في هذه المرحلة الحرجة من تارخ السودان .
المساليت يا أبنائي ، يرعاكم الله ، كيان إجتماعي من الكيانات الإجتماعية السودانية ، كان ولا يزال يعد مثلا يحتذى في قيم البذل المبرور ، والعطاء الإنساني ، وأيادي بيضاء أعطت السودان وما استبقت شيئا .
أسهموا في حيوات الوطن كله ، والتمسوا دروبه وشعابه واستكشفوا سبره ، وكنهه ، ونفذوا إلى أنسجة مجتمعاته تأثيرا وتأثرا مثمرا ، في كل إتجاهاته ، وأمسكوا على كل ما تتشكل به رؤى الناس وأحاسيسهم ومعارفهم ورغباتهم ، تجدهم في اتجاهات أرض القضارف – قضروف ود سعد – منذ عقود من الزمان إلفوا ناسها وألفوهم وأمتلكوا الأراضي والمزارع والدور فأصبحوا جزءا من نسيجها ، وكذلك في كسلا ، وبورتسودان ، وفي الجزيرة ، والنيل الأبيض وغيرها من أمكنة السودان المختلفة المتعددة تكوين ثقافاته ، بتواتر أزمنته ، ورسموا قسمات الشخوص في ” الجزيرة أبا ” وفي ” كوستي ” ومنحوا حتى أم درمان ملامحها وحضورها الخاص وأنسها العذب وسر طاقاتها .
ولن أتوقف بالحديث كثيرا ، لإجترار ما مضى من صنيع أسلاف المساليت ، وسأتجاوز حكي ملاحم بطولاتهم في ” كرندق ” و ” درجيل ” و ” دروتي ” وكيف جعلوا من أجساد الدخيل الأجنبي المعتدي ، مزقا من الأشلاء حتى ارتد على أعقابه يجرجر وراءه شارات الخيبة والنكوص ، فضجت فرنسا كلها جسدا ونفسا من هول ما لحق بجيشها من هزيمة نكراء على يد السطان تاج الدين وجيشه اللجب . ثم إختاروا أن يكونوا جزءا من السودان جغرافية وتاريخا وثقافة .
والآن السؤال ، لماذا لا نعمل على تسطير كلام جديد نهدف به المساهمة في خلق أمواج ضاربة لأوجه القوالب الجاهزة من الكلام البالي مثل ” دولة 56 ” و” الجلابة ” و” الشريط النيلي ” متجنبين التماهي في سلطة السائد والمألوف والتصورات الوهمية لأغلب الناشطين في سوق السياسة وباعته المتجولين ، بزيف الشعارات المنحازة للإيدلوجيات الصماء الصلدة ، ” أبقارهم المقدسة ” ، جعلوا من السودان الجامع للناس بكل مشاربهم ، ساحة للإقتتال بينهم ، ومنصة يطلقون منها مدافعهم لكل مختلف لا يدخل عابدا متبتلا في محراب إيدلوجياتهم ، وسببا للتخوين ، والإقصاء والإستبعاد والنفي وحرق الشخصيات والمبارزات غير الأخلاقية .
هل مآساة دار مساليت ، وجراحاتها ستداويها ضحالة أفكار الحركات المسلحة المنطوية داخل أقبية قبائلها وعشائرها وأجندتهم غير المنتمية للسودان أصلا ؟
جاء وقت النهضة ، والإنتصار للسودان كله من دار مساليت ، تلك السلطنة ، العظيمة الثراء ، تاريخا وتراثا .
ظللنا وباستمرار خيبتنا دائما هي في دائرة الطبقة المتعلمة ، وهم شتات ينحر بعضهم بعضا ، تناحرا بغيضا ، ويظل التنابذ والتباذئ هو الذي يتسيد منابرهم وشرفات منصاتهم .
والأغلب منهم يعمل على تحليل الظواهر منكرا ، ومتجاهلا الواقع ، والهروب من التعمق في جذور المشكلات لأن في التعمق مشقة وعناء ، فيغرقون في التفاصيل والجزئيات بدلا من الوقوف عند الثوبات والأصول ، وذلك ما يقود أكثرهم للإنشغال وإهدار الطاقات في ” أنا وأنت وهو ” .
فالتحليل العلمي الصحيح لدور الفرد لا يمكن أن يتم بمعزل عن دراسة الخلفية الثقافية والإجتماعية التي يحيا في إطارها هذا الفرد .. ” أنا وأنت وهو ”
فابتذال الشعارات والمنظور الأيدلوجي الأصم ، والنظرة الذاتية للقضايا ، والعفوية في معالجة ما تطرحه الممارسة الإجتماعية اليومية من قضايا كلها أمور لا تنير ظلمة ، ولا تهدي إلى طريق سوي .
بل هي في حقيقتها تعبير عن التخلف الفكري ، والإدقاع المعرفي ، والجهل بقوانين التاريخ بالرغم ما يرفعون من شعارات عن الحرية والعدالة ومطلب المدنية .
إن أسلوب المزايدة ، والنظرة العوراء لن يفلح في إصلاح شأن حياة الدار والأهل ، ولن يزيل حسك الشحناء في النفوس وتنقية النفوس من علائق الهوى ..
فالصفاء بين الناس هو جوهر تماسك المجتمعات ووحددتها وصمام أمانها من غلواء البلايا والرزايا .
إن تاريخ الإنسانية في هذا المكان لم يبدأ بنا ولن ينتهي عندنا ، واتجاهات النهضة والإزدهار في كل حركاتها هاديها الفكر ..
والفكر صنعة يفنى الزمان ولا تفنى – حسب الدكتور منصور خالد – وليس في النهاية اخطر على البشرية من أولئك الذين يظنون بأنهم سيصوغون الفصل الأخير في كتاب التاريخ .
إن أي كيان إجتماعي ، يسعى إلى إصلاح حياته ، أو إعادة تركيب ذاته على وجه جديد لابد له من أن ينطلق من رؤية كلية للقضايا الإجتماعية ، فالقضايا التي تتعلق بالناس ، حياتهم ، تراثهم ، تطورهم ومصيرهم ، لابد لمن ينبري لعلاجها من رؤية ومنهج فكري موضوعي يعينه للوصول إلى النتائج السليمة .
ففقدان الفكرة وعدم إتساقها المنهجي لا يؤديان إلا إلى غموض الرؤية والنظرة الجزئية للقضايا والتخبط بلا هدف ولا دليل .
كما ، إذ لا سبيل لبناء دار بكيانه في أي رقعة من الأرض ونهضته وتعظيم إمكاناته وتجديد قدراته بغير الإتفاق أو توحيد للصف يحصن التفاعل الإيجابي والتمازج العضوي والتعاون الهادف لاستشراف الأهداف التي تعبر عن طموحات الجميع ، ووضع وتنفيذ المشروعات لبلوغ تلك الغايات .
وغني عن القول أن مشروع أمن المجتمع وسلمه ونهضته وتنميته لا تتم بالمكايدات واقتناص الفرص .
وهنا تأتي الإنعطافة المركزية لرؤيتنا ، بالنظر إلى الأسلاف في دار مساليت ، وقادتهم من السلاطين ، خاصة السلطان ” محمد بحرالدين أندوكه ” إذ كيف إمتلك زمام صناعة حياة باهرة للناس جميعا ، كما أشرنا سلفا ، مستثمرا طاقتهم الإيجابية لينقض بعبقريته الفذة ورؤيته الكلية نسيج المجتمعات القديمة وألجمها ومن ثم إعادة بناءها من جديد ، وشكل معمارية بناء إجتماعي آخر ، متسقا مع ألوان فضاءات الناس المتعددة .
تمكن السلطان محمد بحرالدين أندوكه أن يؤلف نسيجا متينا يجمع بين تراث المساليت القديم وأعرافهم في إدارة السلطنة ، والقيم التحديثية الجديدة – في عهده ذاك – التي افترعها بقدراته الفكرية الباهرة ، وفقا لظروف واقع الزمان وبانسجامية متوازنة . مبرهنا على ملكته الإبداعية الخلاقة ، لنجد أن المجتمع الجديد الذي أقامه علي أرض المساليت على نحو لم يدر بخلد أكثر السلاطين السابقين له شطحا في الأحلام والتطلعات ، ولا حتى في السلطانات الأخرى المجاورة له .
وساعد السلطان بحرالدين لتنفيذ تلك الرؤية في قيادة السلطنة روح أبناء الكيان الإجتماعي نفسه ومفاهيمهم التي شكلتها قواهم الفطرية ليظلوا هينين مبذولين للسودان كله .
يبنى الدار بالمحبة وبالتعاون وبالتمازج العضوي وبالتفاعل الحي وبالتفهم والإعتراف بالآخر . وبالحرص على أداء الواجب قبل تصيد الحقوق ، وبالعمل الجاد وأداء الدور بأخلاص وإتقان .
سجل التاريخ ، ريادة سلطنة المساليت ، وكيف كانت متقدمة على عصرها وكيف كان الناس وبأخلاطهم الشتى يشدون إليها الركاب والرحاب ومن كل فجاج السودان ،
واتسع لهم فيها النطاق والمجال وعمروا أرضها وأسواقها وأبنيتها .
فالإستعصام بذلك التراث الإنساني وتاريخ الأسلاف والإسترشاد به يظل ، من ضرورات الوقت .
ونقول بوضوح إلى بعض الذين يتوهمون وينزعون إلى التجزئة والشتات .
إن إرادة تحرير دار مساليت الآن من الجنجويد يبدأ بتحررنا من الواقف المتطرفة في مجمل قضايانا المصيرية والتي تتطلب الحوارات الفكرية الموضوعية ، خاصة عن جدوى تلك المصطلحات التي أسقطتنا في الهاوية ” دولة ستة وخمسين ” و” الجلابة ” و” الشريط النيلي ” ..
لماذا دائما تعلو رايات أولئك المتطرفين ؟
كم أجهضنا إمكانات وقدرات دارنا الثري ومشينا بأهلنا إلى التشققات والإنقسامات والإحتراب بين ذواتنا أولا ؟
نحن في حاجة إلى نظر جديد ننظر به إلى أنفسنا في كافة الشئون .
ما هو المكسب في نردد مفردات ومصطلحات هي ليست من نبت زرع أرضنا ، ولا من إفتراعات أسلافنا الذين صنعوا أمجادا للسودان كله دون من ولا أذى . وكان الحق أو لغز الوجود عندهم أكبر من أن يصل إليه سبيل واحد .
نحن في حاجة إلى نظر جديد نعم !!
يقول الكاتب الفلسطين الدكتور ” أسامة الأشقر ” في بحثه عن أسباب تحول المجتمعات الإنسانية إلى مجتمعات عمياء طرشاء ساذجة هي :
إذا طالت عليهم المحنة حتى ألفوها وتكيفوا مع ظروفها ، ولم يفلحوا في تجاوز ، طغوتها .
إذا تعددت عليهم الخيارات الشكلية ، والمآل فيها واحد !
إذا لم يستطيعوا الربط الصادق بين المنطلقات والمآلات .
إذا علقوا آمالهم على الرجال وانصرفوا عن الأعمال .
إذا إستهتروا برعيتهم ، وجربوا فيهم وسائلهم الفاشلة ، ومخططاتهم الضعيفة ، ولم يراجعوا تجاربهم .
إذا اشتد لديهم اليقين بدورة الزمن وأنها ستفتح عليهم الباب من جديد بحسن نيتهم حتى إن لم يصلحوا أعمالهم .
إذا أغلقوا بواباتهم ، وعزلوا أنفسهم بأسوار من الكراهية والخوف ، وطردوا كل فكرة لا تحمل توقيعهم .
إذا نظروا لكل ناقد جرئ أنه عدوا يقاتلهم ، فيعلنون الحرب عليه ، ويحكمون على كل بصير ، بالفتنة والعمى ، فلا يرون ولا يريدون النظر .
إذا سيسوا كل خطوة ، وأولوا كل فعل وربطوه بفكرة مركزية لا تتغير ، وجعلوها قيمة رغم أنها لا تعدوا أن تكون تكتيكا عاديا .
إذا عجزوا عن رؤية معالم الحل ، ولم يفهموا حقيقة وصولهم للهدف ، وإذا لم يستمعوا لنبض الإصلاح وعاندوا أصواته .
هذه المجتمعات المغلقة تتوحش على نفسها ، ثم ما تلبث أن تأكل ذاتها !
فهل توقظهم قاصفة الرعد ، أو أزمة أكبر تطويهم وتفتح عليهم صفحة جديدة رغم أنوفهم ؟!
وعلى أساس كل ذلك يمكن القول ، أننا نحتاج الآن أن نكون في عمق البداية المختلفة ، البداية التي تنطلق من وعي بهذا المآل لنؤسس زمن جديد . محرر من الجنجويد . والسبيل إلى ذلك هو شطب مفردات ” الجلابة ” و ” الشريط النيلي ” و ” دولة ستة وخمسين ” …
والسلام ختام
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
مصدر الخبر