المسألة الاقتصادية تفرض حركة مطلبية واسعة بالسودان
[ad_1]
شمائل النور
تصاعدت على نحو غير مسبوق خلال الشهور الماضية الحركات الاحتجاجية المطلبية في قطاعات مهنية عديدة في السودان، ولم تعد الاحتجاجات المطلبية قاصرة على فاعلين بعينهم كما جرت العادة في هذه البلاد المأزومة بالصراع السياسي.
ويظهر أن الفعل المطلبي أصبح واحد من أهم ما ثبتتّه ثورة ديسمبر التي أرست على نطاق واسع ثقافة الجهر بطلب الحقوق، وإن كانت الثورة ذاتها متأرجحة بين محاولات سرقة تارة ومحاولة أن يكفر بها الناس تارة، إلا أن بعض قوى الثورة لا تزال حيّة في الشارع وتحتج بشكل راتب لم ينقطع.
حتى قبل سقوط الرئيس عمر البشير في أبريل 2019 كانت فئات الأطباء، الصحفيين، نشطاء حقوق الإنسان والمجموعات النسوية هم الذين يبادرون بالفعل الاحتجاجي وسط قمع مفرط وكانت الحركة المطلبية حينها تنشد مطالب حقوقية وسياسية قوامها الحريات؛ وقتها كان الوضع المعيشي مقدوراً عليه، غير أن تهاوي الاقتصاد المتلاحق قاد كافة الفئات المهنية والطلابية لحركة مطلبية واسعة النطاق، مستمرة ومنظمة، قوامها تحسين الأجور وتحسين شروط الخدمة.
إضراب مستمر بلا استجابة
أغرى الإضراب الشهير للعاملين في قطاع الكهرباء في سبتمبر 2022 بقية الفئات المهنية لكونه حقق مطالبه بتطبيق الهيكل الراتبي وفقاً لمطالب العاملين بالكهرباء، لكنه بالمقابل أوعز للسلطات أن الاستجابة ربما تحفّز بقية الفئات المهنية من أن تحذو حذو العاملين بالكهرباء، وبالفعل قد كان.
ولأن الوضع الاقتصادي ازداد سوءً بعد انقلاب قائد الجيش في أكتوبر 2021 وألقى بظلاله على كافة فئات المجتمع، كانت فئة المعلمين بالمدارس الحكومية من الفئات الأكثر تضرراً ولأنها واحدة من الفئات العاملة في القطاعات الحكومية التي لا تتمتع بمزايا عطفاً على الرواتب الضئيلة؛ كان العبء عليها أكبر، فاتسعت وسطها الحركة المطلبية وأحدث الإضراب الكامل الذي ينفذه المعلمون والمعلمات منذ نهاية نوفمبر 2022، شللاً واضحاً في المدارس حتى اضطرت وزارة التربية والتعليم لفرض إجازة لأسبوعين قبل أن تعاود فتح المدارس مع استمرار إضراب المعلمين المتمثلة مطالبهم في تحسين الأجور وزيادة الصرف على التعليم.
رغم أن موازنة العام 2023 التي أُجيزت مؤخراً أُعلن فيها عن زيادة الصرف في التعليم إلا أن المطالب الرئيسية لم تتم الاستجابة لها، ووفقاً لدراسة أجرتها لجنة المعلمين السودانيين -مجموعة مطلبية- فإن متوسط مرتب المعلم، يغطي فقط 13.3٪ من تكاليف المعيشة، وكانت الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك أبدت بعض الالتزامات تجاه مطالب المعلمين باستصدار قرارات، لكنها لم تُنفذ.
المؤكد أن السلطة مترددة في الاستجابة لمطالب المعلمين والمعلمات ليس لضيق ذات يدها، بل أنها تخشى أن تقود الاستجابة لمطالب المعلمين إلى حركة مطلبية أكثر اتساعاً وأمامها تجربة إضراب العاملين في قطاع الكهرباء، لكن هل من حل غير الاستجابة؟
ربما يكون إضراب المعلمين هو الأبرز على الساحة والأكثر تأثيراً لأنه بالفعل أحدث شللاً واضحاً وحصد استجابة واسعة في قواعد المعلمين، لكن الحركة المطلبية أيضاً، شملت قطاعات بذات الحيوية، فلم تستثني ديوان الضرائب، العاملين في قطاع الثقافة والإعلام، المستشفيات، أساتذة الجامعات، ديوان الحسابات، السلطة القضائية، العاملين بالهيئة العامة للأرصاد الجوية، وهذا إضراب إن استمر سوف يؤثر بشكل مباشر على حركة الملاحة التي تعتمد بيانات هيئة الأرصاد.
اتسعت كذلك الحركة المطلبية وسط الطلاب والطالبات في عدد من جامعات العاصمة والولايات احتجاجاً على الزيادات المهولة في الرسوم الدراسية، ويبدو أن بعض الجامعات استجابت في وقت مضى لمطالب الأساتذة بتحسين الأجور على أن تعوّضها برسوم الطلاب، من بينها جامعة الخرطوم التي قاد أساتذتها إضراباً طويلاً.
المسألة الاقتصادية حاضرة بغياب الحكومة أو وجودها
هذا المشهد ومنذ الوهلة الأولى يبدو بسيطاً إلى حد ما، كونه يخاطب فقط تحسين الأجور أو خفض الرسوم بالنسبة لطلاب وطالبات الجامعات، أي أنه ومع تشكيل أقرب حكومة في البلاد سوف تتولى أمر هذه المطالب وتحلها بإصدار قرارات.
لكن القضية ليست فقط في غياب حكومة في البلاد لأكثر من عام أو وجود سلطة انقلابية، القضية في جوهرها تتعلق بالمسألة الاقتصادية المحضة، الحاضرة في وجود حكومة أو سلطة انقلابية وقد ظلت هذه المسألة تؤرق جميع السودانيين منذ تطبيق سياسات اقتصادية طالب بها البنك الدولي ضمن برنامج إصلاح اقتصادي، دون وضع حلول جذرية لها، وشهد الجنيه السوداني تراجعاً مريعاً خلال السنوات القليلة الماضية، ووفقا لبيانات الأمم المتحدة فقد خسر الجنيه السوداني 87٪ من قوته الشرائية أمام الدولار في الفترة مابين (2019 – 2021).
والأمر يزداد سوءً يوماً بعد يوم باشتداد الأزمة الاقتصادية في أعقاب الانقلاب الذي أوقف استقراراً طفيفا، وعطّل دعماً دولياً لعدد من المشاريع، وتشهد الأسواق السودانية ركوداً واسعاً، حتى اكتفى الناس بسد جوعهم فقط بينما كثيرون فقدوا حتى ثمن وجبة واحدة في اليوم.
اللافت أن مسألة الاقتصاد لا تشغل بالاً لسياسي أو عسكري ولا حديث عن خطة إنقاذية أو إسعافية بل لا حديث إلا عن اتفاقيات تقاسم السلطة بين الجيش وأحزاب وحركات مسلحة، والجميع منغمس في صراع سلطة بلا رؤية لحلحلة القضايا المُلحة.
صحيح أن الخُطب السياسية تأتي على سيرة الاقتصاد لكن جميعها من باب أن الآخرين فشلوا في تسيير البلاد وزادوا الوضع الاقتصادي تأزماً، دون طرح برنامج وخطة واضحة الملامح والنتائج.
عموماً فإن المسألة الاقتصادية هي الحصن المنيع لأي عملية تغيير وهي الحاضن الحقيقي لأي عملية تحول مدني ديمقراطي والاقتصاد هو العامل الوحيد الذي يوحّد الناس لا سيما في بلد مثل السودان يكثر فيه الفاعلون السياسيون، المتشاكسون.
هذه الحركة المطلبية التي ترتكز على تحسين الأجور سوف تكون أكبر تحدي أمام أقرب حكومة تتشكل، وهي غيض من فيض تردي اقتصادي شامل، عم كافة البلاد في انتظار حكومة تنقذ ما تبقى منه.
المصدر