القهوة… “كيف السودانيين” بنكهة الثقافة والسياسة
عرف السودانيون القهوة منذ قرنين من الزمان، تحديداً عقب دخول الأتراك إلى البلاد في حملة محمد علي باشا عام 1820 وانتشرت بشكل واسع في جميع أقاليمها ومدنها وقراها حتى أصبحت لها تقاليد وطقوس متعارف عليها عند قبائلها المتعددة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة والموروث السودانيين، وبحسب وقائع تاريخية فإن القهوة ارتبطت بعدد من شعوب القارة الأفريقية، خصوصاً إثيوبيا.
والقهوة عبارة عن بذور برية لشجرة البن التي تنبت في الهضاب الإثيوبية ويتم استخدامها كمشروب منبه وذلك عقب سحنها بمسحنة من الخشب تسمى في السودان “الفندك”، بعد ذلك يتم غليها بواسطة وعاء يطلق عليه “الشرقرق” وتضاف إليها البهارات مثل الزنجبيل والحبهان مما يعطيها مذاقاً لذيذاً ونكهة خاصة.
ولتناول القهوة طقوس خاصة، إذ يتجمع حول أكوابها الأصدقاء من الفئات العمرية المختلفة ويكون مسار حديثهم القضايا الاجتماعية والثقافية وأحياناً السياسية، كما لها جلسات خاصة عند الأسرة السودانية، ففي توقيت محدد تجتمع كل أسرة داخل منزلها لاحتساء فنجان (كوب) القهوة ويحلو في هذه الجلسة الحديث عن شؤون الأسرة ومشكلاتها وإيجاد الحلول لها.
وتختلف أمزجة متناولي القهوة بحيث يفضلها بعضهم ممزوجة بالسكر وآخرون من دونه، وفي كل الأحوال يكون القاسم المشترك النكهة المضافة إلى القهوة، وعلى رغم انتشارها في عصرنا الحديث من دون ارتباطها بزمن محدد باتت تنافس الشاي بقوة حتى تكاد تطيحه، لا سيما وسط فئات الشباب.
بائعات القهوة
لم يعد تناول القهوة مرتبطاً بالمنزل أو المقاهي المعروفة في الأسواق أو الأحياء، إنما انتشر في الشوارع المختلفة والأماكن العامة مثل الحدائق والميادين من خلال بائعات ينظمن جلسات للمشروبات الساخنة يطلق عليهن “ستات الشاي”.
تقول البائعة حليمة عبدالرحمن إن “القهوة تجد طلباً كبيراً من أشخاص كثر، خصوصاً جيل الشباب من الجنسين، فمعظم الزبائن يستمتعون بمذاق القهوة التي تصنعها النساء من دون الرجال نسبة إلى إتقانهن صناعتها وإعدادها، وإن امتهانها هذه المهنة يوفر لها دخلاً مناسباً يعينها في الصرف على أسرتها، بخاصة أنها أرملة وتعيل أطفالها الأربعة”.
كما أخذت المقاهي الحديثة أخيراً في الانتشار بصورة كبيرة وواضحة وتسمى القهوة عند أوساط عامة الناس “الجبن” نسبة إلى الإناء الفخاري الذي تصنع فيه والذي بدوره يعطيها مذاقها الخاص ونكهتها السودانية المميزة.
طقوس البجا
تميزت قبائل شرق السودان عموماً والبجا على وجه الخصوص بشرب القهوة بكثافة وصارت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها وتراثها.
وبحسب الباحث في التراث عبدالله شكان فإن القهوة جاءت إلى السودان من اليمن والجزيرة العربية وذلك بحكم القرب الجغرافي ويعتبر شرب القهوة في هذه القبيلة عنواناً للكرم وحسن الضيافة.
وللقهوة طقوس معروفة يحلو معها السمر والمؤانسة ولم تتغير بطول الزمن أو المكان وغالباً ما يجتمع الرجال لوحدهم ويصنعون قهوتهم بأنفسهم وكذلك النساء.
وعن صناعة القهوة عند قبائل البجا قال شكان “تبدأ صناعة القهوة بتحميص البن في مقلاة من نحاس أو ألمنيوم ويختبر الشخص عملية التحميص بين أصابعه والضغط عليها فإذا كسرت فهذا يعني أن عملية التحميص غير جيدة وتعاد العملية من جديد”، وأضاف “في أثناء غلي البن يستمتع باستنشاق دخانه ورائحته الزكية، وبعد التحميص يوضع في الفندك ويدق بالمدق، وفي العامية السودانية يطلق عليه ’يد الفندك‘ وبعد الطحن يغلى ثم يضاف إليه الزنجبيل وهو البهار الرئيس للقهوة، وبعضهم يضيف الحبهان أو الهيل، لكن قبائل أخرى مثل الفلاتة تضيف إليه الفلفل الأسود”.
وأشار إلى أنه “يتم الغلي في إناء من الفخار وأحياناً من الحديد على نار هادئة وتسكب في الفناجين وتوزع على الحاضرين، وإذا جاء شخص متأخراً فتتم صناعة قهوة جديدة له تمر بتلك المراحل ذاتها، مما يدل على الكرم وحسن الضيافة”، وتابع “يتناول البجا القهوة على ثلاث مراحل في الجلسة الواحدة وتنتشر هذه العادة في جميع أنحاء السودان حيث يطلقون اسم ’البكري‘ على المرحلة الأولى أي الأول وليس معنى ذلك أن الأول هو فنجان واحد إنما يتم تناول فنجانين وهذا أمر خاص بأهل الكيف والمزاج، ثم يعيدون إناء القهوة مرة أخرى إلى النار ويشربونها في المرحلة الثانية وتسمى ’التني‘ أي الثاني ثم المرحلة الثالثة التي تسمى ’الخدر‘”.
اعتقادات روحانية
لعدد من قبائل شرق السودان ومنها البني عامر والأمرار والهدندوة والبشارية جوانب اعتقادية وروحانية بشرب القهوة، إذ يرفعون بعد تناولهم الفنجان الأول أكفهم بالدعاء إلى الله ويصلون على النبي الكريم طالبين البركة، وعند تناول الفنجان الثاني يطلبون بركة الخليفة الأول أبو بكر الصديق وعند الثالث يطلبون بركة العبد الصالح سيدنا الخضر (النبي اليسع).
ويحرص أهل الشرق عامة على حمل أدوات صنع القهوة في حلهم وترحالهم ومن القيم المتعارف عليها أنهم يتفقدون بعضهم بعضاً بصوت مدق البن عند الصباح، وإذا لم يدق البن صباحاً فهذا يعني أن أهل البيت معدمون، لذا يطلب الشخص المتعفف من زوجته أن تدق المدق صباحاً وهو خال من البن، فإنسان الشرق خبر أسرار القهوة جيلاً بعد جيل لذلك نجدهم مع كثرة تناولها في اليوم لا تسبب لهم أي مضار أو مشكلات صحية ويرجع ذلك إلى الطريقة الفريدة التي تصنع بها القهوة.
أشعار وغناء
وجدت صناعة القهوة وتناولها حظها في الغناء السوداني، خصوصاً في شرق البلاد، فقد نظمت مجموعة من الأشعار الغنائية عن طقوسها باللغة العربية واللهجة المحلية، منها “جبنة بشمالا تسوى الدنيا بحالا”، والجبنة تعني القهوة.
كما تعتقد مجتمعات سودانية كثيرة، خصوصاً المتصوفة، بأن من يشرب القهوة تظل الملائكة تستغفر له ما بقيت رائحتها في فمه، ودائماً ما تكون القهوة حاضرة في مجالسهم وأشعارهم.
تجمع نسائي
كما اعتادت بعض النسوة من الجيران التجمع في وقت الظهيرة بمنزل إحداهن التي تتكفل بصنع القهوة وما يلزمها لتكتمل الجلسة الخاصة بتناول القهوة والشاي وتبادل الأحاديث الخاصة منها والعامة وتفقد بعضهن بعضاً ومعرفة الأحوال المادية والصحية وتقديم المساعدات أياً كان نوعها.
وأحياناً تكون هذه الجلسة فرصة لبعض البائعات لعرض بضائعهن، وفي هذه الأجواء يتصاعد البخور الذي يضفي نكهة خاصة على الجلسة ويتم تقديم الفشار والفول السوداني وبعض من خيرات غرب السودان مثل النبق والقنقليز والدوم واللآلوب ومن خلال هذه الجلسات يجمع مبلغ من المال يمنح لصاحبة البيت.
ضوابط وقوانين
يعرف السودان بأرضه الواسعة وقبائله المتنوعة وهو غني بالموروثات والثقافات المختلفة فكل قبيلة تختلف عن الأخرى في عاداتها وتقاليدها، فمثلاً اشتهرت قبائل البقارة في كردفان بحبها لتناول القهوة والشاي، كما لهذه القبيلة قوانين وضوابط وطقوس عند تناول الشاي والقهوة، إذ يجتمع أهل القبيلة في مجلس يطلق عليه مجلس البرامكة (جمع برمكي ويعني الكرم) يتكون من الرجال والنساء.
ويكون لهذا المجلس عمدة وناظر وهناك من توكل إليه مهمة مراقبة المجلس ورصد الأخطاء التي تحدث من بعض الأفراد، فيعاقب كل من يرتكب خطأ في شأن أي من العادات والتقاليد المتعارف عليها، فعلى سبيل المثال من يضع وعاء الشاي فارغاً على الأرض بعد احتسائه تعقد له محكمة للمحاسبة.
إشراقة على عبد الله
إندبندنت عربية
مصدر الخبر